مجلة الرسالة/العدد 960/موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية
مجلة الرسالة/العدد 960/موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية
لحضرة صاحب العزة الدكتور أحمد زكي بك
دعاني الرجال الأكرمون إلى أن ألقي كلمة موضوعها (موقف الفكر العربي من الحضارة الغربية) ولقد نظرت في هذا الموضوع فوجدت أنه لابد لي من أن أقف وقفة قصيرة عند الفكر العربي أتبين ما معناه، وأن أقف وقفة قصيرة، عند المدنية الغربية أتعرف ما مبناها
الفكر العربي:
أما عن الفكر العربي فإني أنظر إلى العرب والمستعربين جملة فأجدهم يسكنون رقعة من الأرض خطيرة، وهي على خطرها رقعة واسعة تمتد من الأطلسي إلى إيران، ومن تركيا إلى ما يقارب خط الاستواء. وأنظر إلى العرب فأجدهم أمما متباينة الخطوط من التقدم، مختلفة الأنصبة من الحضارة أيا كانت هذه، مختلفة قرونها التي تعيش فيها، فبعضها يعيش في القرن العشرين ويكاد يعيش فيمل بعده، وبعضها يعيش في القرن العاشر، بل في القرن الأول، بل فيما قبل القرون. وأنظر في هذه الأمم فرادى، فأجد في الكثير منها رأسا أطل على هذا العصر الحاضر يرى ما فيه، ويعلم ظواهره ويعلم خوافيه؛ أما سائر الجسم فلا عين له، فهو يتبع الرأس كما تتبع الأحسام، وقد سهل الأمر على الأجسام أ، تتبع لو أن الرأس رأس واحد يتجه إلى غاية واحدة، ولكنه رأس ذو شعب، رأس تشعب إلى رؤوس، منها ما ينظر إلى الوراء فلا يرى من الدنيا شيئاً خيرا من ورائها، ومنها ما ينظر إلى الأمام فلا يرى من الدنيا شيئا خيرا من أمامها، ومنها ما ينظر إلى الوراء ويفضل أن يقعد فوق السور يستمتع بموكب الزمان الجاري.
فأي رأس من هذه الرؤوس يتمثل فيه الفكر العربي الذي يراد لي أن أتحدث عنه.!
أم يراد لي أن أتحدث عن الفكر العربي متمثلا في كتابه؟ فهؤلاء على قلتهم، كأرؤس في أممهم، صنوف وأهواء. منهم المتأثر بالماضي غاية التأثر، ومنهم المتحرر من الماضي غاية التحرر، ومنهم أوساط بين هؤلاء وهؤلاء. وليس في التأثر بالماضي ما يعيب، لأن الماضي بعضنا، ولأنه بعض الحذر، ولأنه الحفاظ الذي فيه بعض الوفاء. والفكر في كل العصور أمزجة، منها المزاج المتحفظ. والفكر على إطلاقه لا يكاد يتحرر أبدا. أنه عمل العقل ولكن تتنازعه القلوب. إن الفكر لا يكاد يخلو من عاطفة، والعاطفة وليدة الس الغوابر. كذلك ليس في التحرر غاية التحرر ما يعيب المتحررين. إنهم ضيقون بزمانهم، آسون لحال أممهم، ثائرون على ما يرون من بؤس وجهالة، فهم يريدون أن يقفزوا في الزمان قفزا ليعوضوا على أممهم ما فات
ففي أي هؤلاء الكتاب - وهم مختلفون - يتمثل الفكر العربي.!
وليس في الشرق فكر منظم. . ليس في الشرق جماعات من الناس لها أفكار ولها أهداف إلا في السياسة. وحتى جماعات السياسة لا تجمعها أهداف بينة، إن هي إلا غايات مبهمة كثيرا ما يوحي إلى شيطان بأن أوضح غاية فيها إبهاما. إن الشيء المبهم يجري وراءه الأشتات من الناس، وفي الإيضاح التفرقة. إنهم يطلبون بالإبهام الكثيرة، وتلك عندهم غاية الغايات
ولقد يتحدث الناس عن الفكر العربي الذي لم يتوحد بعد، فيقولون ويطنبون. ويأتون لك آخر الأمر بالشيء الجميل أو غير الجميل، فإذا بهذا الشيء من خلقهم، وإذا به، لا الفكر العربي، ولكن ما يجب أن يكون عليه الفكر العربي عندهم، وما يجب أن تكون في حسبانهم خطة الحياة
إن الفكر فكرهم، وهو عربي شرقي بمقدار ما هم عرب شرقيون. وفي غيبة الفكر العربي الموحد، وعلي تفرقه وتشتته لابد من قبول هذا الفكر، ولوا فكرا واحدا، وهو على الأقل فكر آحاد؛ وهو على الأقل بمثل منحى من المناحي الفكرية الكبيرة
فإنا إذا تحدثت إليكم اليوم عن الفكر العربي، فلا أدعي للذي أقول من التمثيل أكثر من أنه يشاركني في الذي أقول طائفة في الشرق العربي غير قليلة
وبعد فما يجوز أن ننسى أن الفكر انفعال؛ وأن فكر الفرد من صنع البيئة، وصنع النشأة، وصنع الزمان
الحضارة الغربية:
ثم ما الحضارة الغربية التي أبحث عن موقف الفكر العربي منها؟
لقد كان للإنسان حضارات بكل أرض وبكل زمان: حضارة مصرية، وحضارة آشورية وبابلية وفينيقية، حضارة إغريقية ورومانية، حضارة هندية وصينية، وحضارة عربية أثبتت وجودها وفرضت فروضها وشاركت في الحياة على هذه الأرض ألف عام. ولكل من هذه الحضارات فضل، ولكل منها شيء وأشياء تميزها. . وهي كلها مجهودات للإنسان حميدة في سبيل غاية لا يدريها. والإنسان وهذه المجهودات غير فانية، أو الكثير منها غير الفاني. وهي مجهودات خالدة بحسبانها أشكالا وأنماطاً وأساليب للعيش وقوالب للفكر تتوارث. كما أن الإنسان خالد بحسبانه نطفا تتوارث، ومظاهر الحضارات ومن إظهارها يفنيان جميعا كما قال المتنبي في شعره المعروف
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
إلا الفكر. . إلا الفكر الذي أنتجها، أو الفكر الذي أنتجته، فهذان يخلدان؛ لأن الفكرة لا تموت. ولقد بقي من الحضارات الماضيات أفكار ترقد في أوراق، لا تزال نجتليها ونسرح البصر البصيرة فيها
والمدينة الحاضرة إنما هي جماع تلك المدنيات جميعا. والمدنية الحاضرة تجد في تلك المدنيات الغابرات فكرة ترضاها فتنتفع منها، أو تجد فكرة لا ترضاها فتتجنب أذاها؛ فهي فكرة تهدي على كل حال حتى برفضها، كالطريق الذي لا تسلكه يدلك على الطريق الذي تسلكه
والمدنية الحاضرة تميزت بصفات وتألفت من عناصر سوف أجتهد في إخراج بعضها وإبرازه، صفة صفة، أو عنصر عنصرا، وأدلي بموقف الفكر العربي، كما أراه منها
الحضارة والعلم:
إن المدنية الحاضرة ميزتها الكبرى العلم. العلم الطبيعي. العلم التجريبي
والعلم ليس كالناس يولد في ساعة. أنه يولد على القرون فلا تكاد تعرف له ميلادا. وأنا إن ذكرت الميلاد، حلا لي دائما أن أتخذ من حياة (لافوازيه) للعلم ميلادا. وهو ولد عام 1743 ومات عام 1794، فحياته استغرقت النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ولافوازيه أبو الكيمياء الحديثة لأنه كشف الهواء وكشف عناصره. وما كانت مدينة مؤسسة على العلم الطبيعي لتكون والناس في جهالة من الهواء الذي منه يحيون، وفيه تحدث الأحداث للأشياء الأخرى والناس. أنه لولا أن تركيب الهواء اتضح، ما أمكن أن يكون علم ولا مدنية علمية. وإذن فإذا قلنا إن العلم، والمدنية العلمية، لم تقف على أرجلها إلا من نحو قرنين نعد الصواب. والعلم قبل ذلك لعله كان يحبو، ولعله طال حبوه وطال كثيرا
وصفة العلم هذه هي الغالبة أكثر الغلبة على المدنية الحاضرة، لأن الكثرة الكبرى من نتائج العلم مادية، وهي تتصل أكثر اتصال بما يرى الناس، ويسمع الناس، ويحس الناس، وبما يأكلون ويلبسون ويسكنون، وبوسائل بها ينتقلون على الأرض أو على الماء أو في السماء. وهي تتصل بضرورات الحياة ورفهها. ولو أن رجلا من مدينة غارة نشر ونفض عن نفسه التراب، وأخذ يمشي بيننا كما فعل عيسي بن هشام، لخفي عليه أول الأمر من مدينتنا كل شيء، إلا هذه الظواهر المادية الكثيرة، فهي ستبدهه، وهي ستدهشه، وهي ستدهشه. وهو سيؤخذ بها من أول يوم، أما مظاهر المدنية الأخفى فستتكشف له على الأشهر، ومنها مالا يكتشف إلا على السنين، لأنها لا تتكشف إلا بالدراسة الطويلة والممارسة وهنا نتسائل؟ ما موقف الفكر العربي من هذا الأصل الأول من أصول المدنية الحديثة
والجواب أنه المناصرة بغير شرط، وبغير حد، وفي غير احتياط. ذلك أن العلم وليد المنطق، والمنطق لا يرفضه ويرفض نتائجه ذو عقل. وأحسب أنا جميعا، أهل الشرق العربي،
من العقلاء وسبب آخر لمناصرة العلم، أنه سبب للرفاهية ورغد العيش ولينه، عظيم. وهو لتسهيل الحياة وتيسيرها، وليس بعقل كبير العقل من يريد الحياة خشنة، أو من يريدها عسيرة، في غير ضرورة
وسبب ثالث، أن العلم يجعل الحياة أكثر امتلاء، وهي بامتلائها زمانا، فهي أطول. والذي يعيش اليوم، في بيئة هذه الحضارة العلمية أربعين عاما، فقد عاش أربعين كثمانين من العصور الأخرى. إن سنوات العمر، كورق النقد، تعلو وترخص، ويصيبها التضخم على انحطاط قيمة، ويصيبها التقلص
وسبب رابع لمناصرة العلم، أن الناس، بسبب العلم، ولأسباب غير العلم، زادوا أعدادا، وزادوا فوق ما تسعهم الأرض، وفوق ما تكفيهم غذاء، وفوق ما تكفيهم كساء. وهذا الضيق يقوم بتفريجه العلم، فهو يفرض على الأرض أن تنتج الكفاية من الطعام، والكفاية من اللباس، والكفاية من ضرورات العيش
إن قوما يشكون الفقر قوم لا يأخذون بأسباب العلم. وكذلك قوم يشكون المرض. إن العلم أسرع ذهاب بالفقر، وأسرع ذهاب بالآلام. أنه ليجتث الآلام من أصولها، باجتثاث أسبابها، وعنده أن الوقاية خير من العلاج
وسبب خامس لمناصرة العلم، ذلك أنه لأسباب خارجة عن العلم، لا يزال الناس يأكل بعضهم بعضا، ويأكلونهم بالعلم، ولا أحسب أن أحدا من الشرق العربي يحب أن يؤكل، والعلم يمنعك من أن تأكلك الذئاب
لقد كدت أحس بشيء من في تعديد ما للعلم من منافع، ومن أسباب مناصرته. ذلك أن بعض السفه تعداد البدائه
والفكر العربي مناصر في كل ما ذكر من هذه الحقول المادية. وهو مناصر له في سائر الحقول، فعلى العلم وعلى نتائجه يجب أن تتأسس معاني الحياة، وعقائد الحياة وما بعد الحياة. إن العلم وحدة لا تتجزأ
وقد نضيق بالعلم وبنتائج العلم، فنطلب الترويح في غيبته، ونطالب للرفه بنفيه وإبعاده. وقديما نفي الناس العقول بالشراب ليتروحوا، ولكن إلى حين، يعودون بعده إلى ممارسة الحياة على العقل الواعي وعلى القلب الصاحي
ونحن نناصر العلم ونعلم أن من الناس من خلطوا بين أشياء أثبتها العلم فهي حقائق، وأشياء خالها العلم فهي ظنون، وأشياء لم يمسها العلم لا بالظن ولا باليقين، فهي من خلق أصحابها
ونحن نناصر العلم ونعلم قصوره وقصور أداته. إن أداة العلم لا تزال الوزن والقياس، ولكن قوماً يريدون أن يقحموه غصباً فيما لا يوزن ولا يقاس؛ لا طلبا لشيء قد يكون وقد لا يكون، ولكن إثباتا لشيء هو في أذهانهم كائن قائم وقد يكون قائما، وقد يكون كائنا، ولكن ليس هو مما يستطيع العلم أن يسير إليه بأداته الحاضرة
فهذا هو العلم، أظهره صفة من صفات المدنية الحاضرة
للكلام صلة
أحمد زكي