مجلة الرسالة/العدد 961/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 961/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1951



للأستاذ عباس خضر

أنه لحن فصبح

كتبت في العدد الأسبق من الرسالة ردا على الأستاذ أحمد محمد بريري في تخطئته - بصحيفة الأساس - الدكتور طه حسين في قوله بأحد مؤلفاته (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا نشرت على أنها لم تنشر) إذ رأى الأستاذ أن الصواب (فيدخلوا) لا (فيدخلون) متوهما أن الفعل منصوب بعد فاء السببية. . وقلت ما مجمله أن الفعل مرفوع لا منصوب.

وقد تناول الأستاذ بريري هذا الرد، برد عليه في (الأساس) (21 - 11 - 1951) قال بعد أن أورد ما كتبته:

(ولقد علمني (شيخي) أن مسوغات النصب بعد فاء السببية هي: الأمر، والنهي، والدعاء بفعل أصيل، والاستفهام، والنفي، والعرض، والتحفيض، والتمني، والرجاء على خلاف، وغير عند الكوفيين، والتشبيه الواقع موقع النفي.

فما غاب عن شيخي أن النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لابد له من مسوغ، وإنما غاب عن الأستاذ عباس خضر كثير من المسوغات. . فإن تعبيره غير جامع ولا مانع، لأن النفي والطلب - إذا روعيت الدقة - بعض من كل، في حين أن من يقرأ كلام الأستاذ يفهم أنهما كل شيء في هذا الباب، كما يفهم أن ثمة تضادا بين فاء العطف وبين فاء السببية. . فالفاء عنده إما أن تكون عاطفة، وإما أن تكون سببية. . والواقع أنه لا تضاد، وأن فاء السببية عاطفة في أكثر الصور، قاطعة في بعضها. . وأن بعض النحاة ليعيدها عاطفة دائما حتى إذا انتفت المشاكلة بين الجملتين. . ومع هذا لنعد عن هذا الأمر، فنحن متفقون على أنها في قول الدكتور طه حسين (يريدون أن يضحكوا من الصحف ورؤساء التحرير فيدخلون عليها فصولا على أنها لم تنشر. . الخ) عاطفة. . وإنما وجه الخلاف في المعطوف عليه. . فالأستاذ عباس خضر يرى أنه (يريدون) وبهذا يسلم قول الدكتور طه حسين من اللحن. . أو يصبح، على حد عبارة الأستاذ خضر، لحنا فصيحا. بينما يراه شيخي لحنا قبيحا، لأن الفاء عاطفة على (يضحكوا) لا على (يريدون) وأن الأستاذ خضر يتحكم. ونحن نحتكم إلى القواعد العربية. . وأنها لتقرر أن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب على خلاف الواو. فأنت، إذ تقول جئت فسمعت فتكلمت. تعني أن هذه الأفعال وقعت متعاقبة كما رتبتها الفاء فإنها تربط ما قبلها بما بعدها ربطا مباشرا. . .

فإذا نظرنا في كلام الدكتور طه حسين مع مراعاة حكم القاعدة، تعين العطف على (يضحكوا). .

وأحب أن أقول للأستاذ عباس خضر إن بين النحاة من لم يرضه تعطيل الرفع في قول الحطيئة (يريد أن يعربه فيعجمه) لأن ابتغاء السببية لم ينف العطف بالفاء. . وهو بها إنما يكون على أقرب الفعلين كما تقضي قاعدة الترتيب والتعقيب. وما صح كلام الحطيئة إلا لأنهم تجوزوا وتوسعوا في الشعر، فرفعوا ما حقه أن ينصب، كما في رجز الحطيئة، ونصبوا ما حقه أن يرفع كما في قوله:

سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا

وإن كان بعضهم يرى جواز النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية دون اعتماد على نفي أو طلب أو غيرهما.

ورفعوا ما حقه أن يجزم كما في قوله:

يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع

وقد يكون الأستاذ عباس خضر ممن يرون أن كلام الدكتور طه حسين كله شعر. . وأن من حقه في التجوز والتوسع هو هو حق الشعراء جميعا سواء أقبل النحاة، أم رفضوا. . وسواء أغمضوا أم رضوا.)

أقول مرة ثانية: سبحان الله يا أستاذ. . ويا عجبا لك ولشيخك! كيف غاب عنكما في هذه المرة أن (المسوغات) التي ذكرتها، من الأمر والنهي. . الخ، هي نفسها أنواع الطلب وليست شيئا مغايرا له. . كما غاب عنكما في المرة الأولى أن المضارع لا ينصب بعد فاء السببية إلا إذا سبقت الفاء بنفي أو طلب. . .؟ وإذا كنت تعتقد أن هذه (المسوغات) التي غابت عني أشياء أخرى غير الطلب فما هو الطلب إذن. .؟ هل أطمع أن تذكر لي مثلا من أمثلته؟ وكيف علمك (شيخك) أن هذه الأشياء التي تسبق فاء السببية فينصب الفعل بعدها اسمها (مسوغات) وما هي إلا شروط. .؟ ولعلك عرفت الآن أنه لا داعي لمراعاة (الدقة) في التعبير. . إلى آخر ما طلب لك في هذا المقام. .

وأنا يا سيدي الأستاذ لم أنف السببية عن الفاء العاطفة، فقد قلت إنها فاء العطف وأنا أقصد أنها ليست فاء السببية التي يعدها النحاة من الأدوات التي ينصب المضارع بعدها بأن مضمرة إذا سبقت بطلب أو نفي، فالذي يهمنا من الفاء في موضوعنا إنما هو أثرها في الإعراب.

ولنعد عن كل ذلك، على ما فيه. . لنصل إلى محور الموضوع، وهو نصب الفعل (يدخلون) في كلام الدكتور طه حسين على ما ترى، ورفعه. على ما أرى. إنك خطأت رفعه في مقالك الأول لأنه - كما توهمت - واقع بعد (فاء السببية) فلما عرفت أن فاء السببية لا ينصب بعدها الفعل إلا إذا سبقت بنفي أو طلب (بغض النظر عن فهمك للطلب من حيث أنه غير جامع لما ذكرت من الأمر والنهي. . الخ).

لما عرفت ذلك من ردى أو من شيخك بعد أن قرأت هذا الرد. . حورت المسألة إلى وضع آخر، إذ قلت إنك متفق معي على أن الفاء عاطفة وإنما الخلاف في المعطوف عليه ورجحت العطف على (يضحكوا). . فأنت إذن قد رجعت عما قلت أولا بعد أن عرفت خطأه وإن كنت لم تعترف بذلك. . ثم حاولت أن تتمادى في التخطئة على وجه آخر أو على (قفا) شيخك. . واحتكمت إلى أن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب وليكن، أليس إدخال الفصول على الصحف واقعا بعد الإرادة وعقبها؟ أما إذا جعلنا (يدخلون) معطوفا على (يضحكوا) فإنه لا يتصور الترتيب والتعقيب بينهما لأن الإدخال يسبق الضحك لا العكس.

ولا أكتم عنك يا سيدي الأستاذ شعوري بأنني أوضح أمورا واضحة، ولكن ما حيلتي؟ ونسبت يا سيدي الأستاذ إلى بعض النحاة مالا ينبغي أن ينسب إلى نحاة، إذ قلت إن هذا (البعض) لم يرضه تعليل الرفع في قول الحطيئة (يريد أن يعربه فيعجمه) لأن العطف يكون على أقرب الفعلين. . كأن هذا البعض يريد أن يعطف (يعجمه) على (يعربه) فيكون المعنى أو (اللا معنى) يريد إعرابه فإعجامه. . أي يريد الضدين معا! ومن أين أتيت يا سيدي بهذه القاعدة: (العطف يكون على أقرب الفعلين) وماذا تقول في هذا المثال: (يريد الكتاب أن يخطئ غيره فيخطئ هو) هل (يخطئ) معطوف على (يخطئ) فيكون المعنى يريد تخطئة غيره وخطأ نفسه. . أو معطوف على (يريد) مع السلامة التي لابد لها من التنازل عن قاعدة العطف على أقرب الفعلين؟

وأراد الأستاذ بريري أن يقحم أشياء أخرى غير ما تعرضت لمناقشته فيه، فقال:

(وقد أسلم للأستاذ عباس خضر هذا الذي يراه إن كان يراه. . ولكن ما رأيه في أن الدكتور طه حسين قد تجاوز في النثر ما أجيز في الشعر. .؟ فما علمنا شاعرا نفى الفعل المثبت (بقد) فقال (قد لا يكون) كما فعل الدكتور طه حسين، ولا نفي المسوف بسوف فقال (سوف لا يكون) ولا أكد بإضافة المؤكد إلى المؤكد فقال (نفس فلان) بدل (فلان نفسه) ولا استعمل كاد كما يستعملها الدكتور طه حسين حين يقول - مثلا - ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا، يعني (ما فعلت) أو (ما أن فعلت). . إلى آخر ما كتبنا، وغيره مما سنكتب في الأساس

وإذا سلمنا - جدلا - للأستاذ عباس خضر أن لحن الدكتور طه حسين فيصبح. . أو أنه لحن ما أفصحه في حكاية الضحك من الصحف ورؤساء التحرير، أفيراه كذلك لحن ما أفصحه في حكاية النفي بعد قد وغيره مما كتبناه، أم يسلم لنا أنه لحن ما أقبحه. .؟

هذا على أني ما أردت أن أنكر على الدكتور طه حسين مكانه في الأدب عامة، وفي اللغة العربية وأدبها خاصة، وهل في وسعين لو أردت، أن أقول. .؟

ولكن أحد تلاميذ الدكتور طه حسين روى عنه أنه قال: أنه ثالث ثلاثة لا يلحنون أو أنهم معصومون من الخطأ. . فرأيت أن أقيم الدليل على أنه كغيره من العلماء، قد يلحن. . وقد يخطئ. . وأن الخطأ لا ينقص من قدره، ولا يذهب بشيء من فضله. . فإن حظ بني آدم أن يخطئوا حينا. . وأن يصيبوا حينا. . وإذا شاء الأستاذ خضر أن ينكر على الدكتور طه حسين آدميته فما أحسبه يريدني على أن ألتزم معه الإنكار

وبعد، فإني أعتب على الأستاذ خضر أنه يحسبني أخجل من الخطأ. . فهل ادعيت العصمة فأستحي أن أرد إلى الصواب. .؟

كلا. . فأنا على أتم استعداد لتلقي الإرشاد من الأستاذ عباس خضر. . بل لعلي أحق بعونه من الدكتور طه حسين. .

وثمة شئ أخجل - حقا - لو شاء الله أن أقع فيه: ذلك أن أقول غير ما أعتقد في نحو اللغة العربية أو غيره من أنحاء الحياة).

وإني أعتب على الأستاذ الفاضل، وأحيى فيه روح المجدين للوصول إلى الصواب، وأقول: إني لم أبذل عونا إلا للحق الذي قصدت أن أنفض عنه ما علق به من غبار، ولهذا أسأل الأستاذ بربري: لماذا حورت الموضوع من المناقشة في نقطة معينة إلى الكلام حول الدكتور طه حسين وما وهمته من أخطاء له. .؟ وأتى مع ذلك أجيبك إلى هذا الذي نقلتنا إليه.

(قد لا يكون) لم لا يكون؟ نعم قال بعضهم إن (قد) إنما تدخل على الفعل المثبت، ولكن أي (قد)؟ إنها تكون للتحقيق ولتقريب الفعل الماضي من الزمن الحالي، وهذا فيما أرى مرجع التعليل لجعل (قد) للإيجاب، فإن النفي لا يتفق مع التحقيق والتقريب، أما (قد) التي تدخل على المضارع للتقليل أو التوقع - كما في (قد لا يكون كذا) فلا تتعارض مع النفي، وهي في هذا تجري مجرى (ربما) وربما تدخل على المنفي والمثبت، فلا فرفق بينهما؛ وعلى ذلك أسأل: ما المانع من دخول قد التقليلية والتوقيعية على المنفي؟ وما هو تعليل هذا المنع إن قيل به؟

(سوف لا يكون) أسأل هنا أيضا: ما المانع من هذا التركيب؟ وإذا كنا نسوف في وقوع الفعل فلماذا لا نسوف في عدم وقوعه؟ وهل للكاتب الفاضل أن يأتي بنص صريح بمنع دخول سوف على المنفي؟

(نفس فلان) ليست (نفس) هنا للتوكيد المصطلح عليه عند النحويين، وإنما هي بمعنى (ذات) وإذا كنا نقول ذات فلان فلم لا نقول نفس فلان؟

(ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) في هذه المسألة رأيان، فكاد معناها قارب ولم يفعل تفيد النفي، والمتقدمون يرون أنها تفيد الإثبات إذا دخل عليها النفي، طبقا للقاعدة المعروفة (نفي النفي إثبات) وعلى هذا يكون التعبير (ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) سليما، وقد خطأ بعض العلماء - بناء على هذا الرأي - ذات الرمة الشاعر، فسلم لهم ذو الرمة بذلك. ولكن بعض المتأخرين ذهب إلى خلاف ذلك الرأي بأن نفي كاد نفى لمقاربة الفعل، وهذا هو الذي استند إليه الأستاذ بريري في تخطئة التركيب (ما كدت أفعل كذا حتى حدث كذا) ومن العجيب أن ينكر كاتب في هذا العصر رأيا للمتقدمين ليخطئ تركيبا على رأى للمتأخرين يخالفه.! هذا هو يا سيدي جواب ما قلت إنك كتبته في (الأساس) من أخطاء (موهومة) للدكتور طه حسين ولست أدري ما ستكتبه، وهل هو من هذا القبيل؟

إن الدكتور طه حسين كسائر البشر ليس معصوما من الخطأ، ولكن هات الخطأ. .

عباس خضر