مجلة الرسالة/العدد 962/الأدب وطلقات المدافع
مجلة الرسالة/العدد 962/الأدب وطلقات المدافع
(إلى الصديق الأستاذ علي متولي صلاح)
للشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن
ما كنت أحسب أن شهوة الكلام تبلغ عند صديقي الأديب الرقيق الأستاذ على متولي صلاح حداً يحرف به الكلم عن مواضعه ويؤول قصيدتي (على طلقات المدافع) تأويلاً يبعد بها عن المعنى الذي أريدت له وقصدت به
وأنا أشكر الأخ على هذا الدرس الذي ألقاه علي في عدد الرسالة الفائت ليدني على قيمة (الأدب) وخطره ورسالته في هذا الوجود العجيب الذي نشهد فيه بأعيننا ونسمع بأبصارنا على مدى قريب صوت القوة العارمة وهي تكتسح الحق في طريقها اكتسحاً. . . ثم لا تزال بعد ذلك نتملل بالألفاظ الفارغة، ونستند إلى العبارات الجوف، واهمين أو متوهمين أن ذلك هو طريق الكفاح لبلوغ الأهداف، وبلوغ المطاف
وأشكر الأخ مرة أخرى لأنه نقل إلي في كلمته الحماسية كلمات (هازلت) في وصف الكلمات بأنها (أفعال فإذا تكلمت فقد فعلت). ونقل إلي كلمات (سارتر) بأنها - أي كلمات - أسلحة نارية مشحونة بالقذائف، وأن الإنسان إذا تكلم فقد أطلق. . ونقا إلي - فوق ذلك - كلاماً لبرناردشو، ولغير برناردشو في الموازنة بين السيف والقلم. . .
وهي موازنة أخشى أن تكون موضوعاً إنشائياً جميلاً لطلاب المدارس، تصول فيه أقلامهم النحيلة الهزيلة، وتجول حين يحلق الخيال بعيداً بعيداً، مستسلماً إلى لذائذ الأحلام، الموشاة بتفويف الكلام. . .
وهي موازنة - فوق سحر الخيال فيها - قد قال فيها أنصار منطق القوة حين نادى أبو تمام - منذ أكثر من ألف عام - برأيه المشهور:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
ولا يعنيني هنا أن تكون الكتب هنا من تأليف الكرام الكاتبين، أو من وضع السادة المنجمين. . .
على أن أبا تمام لم يغفل شأن (القلم) الذي جاءنا الأستاذ على متولي صلاح بنصوص منقولة عن (هازلت) و (سارتر) و (برناردشو) ليدلنا على خطره وفتكه وشحنه بالقذائف.
أو القنابل الصاروخية، أو القنابل الذرية أو الهيدروجينية أغير ذلك من آلات الدمار والهلاك. . نعم! لم يغفل الشاعر أبو تمام، خطر القلم والكلام حين قال:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... تصاب من الأمر الكلي والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجني اشتارته أيد عواسل
وأنا - شهد الله - لا أنكر خطر (كلمة) وفعلها في النفوس، وأثرها في العواطف، وخطرها في إثارة في العواطف، وخطرها في إثارة الانفعال، بل في زلزلة الجبال. .
أليست (الكلمة) هي التي أوحت إلى النحل أن تسلك سبل ربها ذللاً، فتأكل من كل الثمرات ثم تلفظها شهداً شهياً فيه شفاء للناس؟
فمن قال للصديق الكريم أنني هونت من شأن الكلام، أو أصغرت من قدر الأدب والبيان حين ضننت بالأدب أن يبتذل بالاستجلاب، أو يمتهن بالدعاء المجاب أو غير المجاب؟
إن الشعراء الصادقين - أيها الصديق - قد استجابوا لأصوات الشهداء في معركة (القتال) بالقدر الذي لا يخرج بشعورهم الغالي إلى رخص التمثيل، وهو أن التدجيل. . فقد نشر بعضهم في الصحف، وأذاع بعضهم في الإذاعة المصرية، ولم يشاءوا أن يجعلوا من (معركة التحرير) مناجاة حامية ترتفع فيها الأصوات الحارة يلب السلاح، وبالرغبة الخالصة في الكفاح، فيقال لهم: انتظروا حتى يتم الإشراف على الكتائب المحررة. . وما أشق الانتظار، على المجاهدين الأحرار!
ولعلك أيها الصديق قد أدركت معي الظروف التي أحاطت بي وأنا انظم قصيدتي (على طلقات المدافع) فهي ليست كفراً بالأدب، ولا جحوداً برسالته، ولا تهوينا من شأنه، ولا إغفالاً لخطره، ولا سوء فهم لوضيفته، ولا خروجاً به عن بيعته. . . وإذا كنت قد فهمت من قصيدتي ومن مقدمتها هذا الفهم، وعبت منها هذا القول الصحيح، فأنا أجل لأدبك وفهمك أن تكون الآفة فيهما. . ولكنك انسقت يا أخي وراء خلابة اللفظ، وشهوة الكلام فأحببت أن تتكلم، وأحببت أن تقيم دعابة عريضة (لرصف الألفاظ، وحشد العبارات). ونسيت أنني - أنا طرف لك في هذه الخصومة الأدبية - أكره الكلام في غير جدوى، وأمقت الألفاظ في غير طائل، وأضع الكلام موضعه حين أريد أن أتكلم، كما يضع الخبير الهناء مواضع النقب. .
لا يا سيدي! لم تكن القصيدة التي نظمها كفراً بالأدب ولكنها في الحق كفر (بالخطب)، وكفر بالمقالات والكتب. . في وقت تمنت فيه سواعد الشباب والشيوخ لو أتيح لها أن تشعر، ولكن (رئي) أن تعطل السواعد، وأن تديج بدلاً منها الخطب والقصائد!
ألست معي بأن نفوس الشعراء أو نفوس بعض الشعراء كان يغشها ضباب هذه العوامل النفسية الخفية، فوقفوا يتفرجون في صمت، أينظرون في عجب، حتى يزاح الستار عن الأسرار. . وإلا فبربك لماذا سكت أنت عن أحداث القناة وما عهدتك إلا ناطقاً؟ ولماذا لم تشترك في معركة (قناة السويس) بقلمك وأدبك في لحظة كانت أرواح الشهداء ودماء الأبرياء تتطلع إلى مثل (عباراتك) من وراء الغيب، وتهفوا إلى صرير قلمك من خلف الفراديس؟
والآن وقد انجلى غبار معركة القنال عن بعض الشهداء الأعزاء أراك قد أمسكت (القلم) وامتطى في يدك الخمس اللطاف. . وأفرغت عليه شعاب فكرك لكي تذكرني بما قاله (هازلت) و (سارتر) و (جورج برناردشو) في القلم وقوته، والبيان وسطوته
لا، لا يا أخي! لقد قرأت من زمان طويل ما قاله (هازلت) فنازلا، و (سارتر) فصاعداً. . ولعلك خبير بتسلسل هذه العصور في فرنسا وإنجلترا. . ولكنني قرأت من أسابيع فقط ما كتبه الشاعر الإنجليزي المعاصر (ستيفن سبندر) في مجلة نيويورك تيمس بوك ريفو الأميركية
عن رسالة الشعراء في الحياة، وهل نستطيع أن نعيش بدونهم. . ولعلك يا أخي قرأت خلاصة لهذا المقال في عدد نوفمبر سنة 1951 من مجلة (الكتاب) الشهرية التي تصدرها دار المعارف بمصر. . ولعله قد لا يعنيك أن تعرف مترجم هذا المقال الذي يستحي أن يتحدث عن نفسه ولكني أؤكد لك أن قصيدتي (على طلقات المدافع لم تكن صرخة يأس ولا صيحة قنوط. . ولكنها كانت نذيراً، ونذيراً قوياً لقوم يجهلون قيمة (المدافع)، في عالم ملئ بالشهوات والمطامع
وسلام عليك أيها الصديق القديم، والخل الكريم
محمد عبد الغني حسن