مجلة الرسالة/العدد 962/الثورة المصرية

مجلة الرسالة/العدد 962/الثورة المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1951


7 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

دماء ودماء:

اتسم طابع الاحتلال البريطاني منذ دخول الإنجليز مصر بميل البريطانيين إلى سفك دماء المصريين

ففي دنشواي 1906 أعدم المصريون شنقا في وسط قريتهم دنشواي

وفي عام 1919 جرت دماء المصريين أنهارا. لماذا؟ لإن المصريين طالبوا بإلغاء الحماية وإعلان استقلالهم

وفي 17، 18 نوفمبر الحالي سفك البريطانيون دماء المصريين في مجزرة الإسماعيلية، وإليك البيان:

ص15 - 22 نوفمبر 1951:

في 15 نوفمبر افتتح جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان الدورة الثالثة للهيئة النيابية العاشرة، وألقى رفعة مصطفى النحاس باشا خطاب العرش الذي جاء فيه أن مصر قد أَلغت معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 بعد أن ضاقت ذرعا بالمفاوضات مع بريطانيا، وأن إنجلترا بدلاً من أن تسلم بالأمر الواقع (آثرت العنف والالتجاء إلى القوة الغاشمة، وقد صدمت الحكومة والشعب لهذا العدوان وان تتراجع حكومتي عن خطتها. . . ولن تلين لها قناة تحت أي ضغط أو إكراه.)

وقد تفضل جلالة الملك فوجه إلى أعضاء لجنة الاستقبال البرلمانية عند تشرفهم بالمقابلة الملكية النطق الملكي الكريم: (إن البلاد تمر الآن بمرحلة شبيهة بمرحلة 1919، إن لم تكن أشد منها وأكبر، وسنجتازها بأذن الله وتوفيقه بسلام

وإني لأهنئكم بهذا النضال، واعلموا أنه بالنضال وحده تنضج الأمم وتصل إلى المستوى اللائق بها

وإني أوصيكم بضم الصفوف، وتوحيد الجهود، وأضع يدي في يدكم أفراداً وجماعات، رأويد كل من يعمل لمصلحة الوطن. إننا نقف صفاً واحداً في بيوت الله فلا معنى لأن نتفرق خارجها

وفقكم الله لما فيه الخير، وأسبغ من رحمته على من استشهد من أبناء الوطن في هذا الكفاح، والجنة المستشهدين.)

وهكذا وقفت مصر ملكاً وشعباً تناضل في سبيل حريتها وهي لابد بالغة ما تريد إن شاء الله

وفي يوم الجمعة 16 نوفمبر وقف معالي الوطن العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا يتحدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة ففضح سياسة الإنجليز في وادي النيل وكشف مناوراتهم الخبيثة لإطالة احتلالهم لمصر وفصل السودان عن مصر وندد بالوحشية والفظائع التي ارتكبها الإنجليز في منطقة القتال ووصفها قائلا إنها (عدوان همجي مخجل من المملكة المتحدة، وخرق صارخ للسلم العالمي والأمن الدولي، وامتهان بالغ لمبادئ الميثاق وأهدافه السامية.)

وانتقل إلى الحديث عن السودان وتحدى الإنجليز أن يخرج المصريون والإنجليز من السودان ثم يجري فيه استفتاء حر على يد هيئة الأمم المتحدة وأشار إلى مندوبهم كمن يقول (اقبلوا هذا التحدي إن كنتم مخلصين.)

وأسقط في يد الإنجليز فحاولوا منعه من الكلام فلم يستطيعوا كما لم يستطيعوا على بيانه تعقيباً

وفي يوم السبت 17 نوفمبر جاء الرد الإنجليزي على مصر ووزير خارجيتا: ففي الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم انتشرت فجأة عدة دوريات مسلحة في مختلف أرجاء مدينة الإسماعيلية ثم بدأت تطلق نيرانها في وقت واحد فقلبت أمن المدينة جحيماً مستعر النيران؛ ولم يميز الإنجليز في هذا بين المدنيين وبين رجال البوليس فسقط من الشهداء كثيرون

وفي يوم الأحد 18 نوفمبر عاود الإنجليز هجومهم الوحشي على المدينة وبالغوا في إجرامهم إلى أبعد مدى يستطيع العقل البشري أن يتصور فظاعته، فقد ظلوا يطلقون النيران على المدينة من الساعة الثالثة مساء حتى الساعة العاشرة

وفي هذه المجزرة استشهد عشر مواطنين: خمس من المدنيين وخمس من الجنود وجرح سبعة وعشرون

وقد فقد الإنجليز ضابطين وسبعة جنود وجرح أكثر من ثلاثين جندياً. ولكن أكثر من هذا: لقد اشتركت مدمرة بريانية في ضرب الإسماعيلية وشاء ربك أن تسقط القنابل في معسكر إنجليزي وتفتك بجنوده. ويتكتم الإنجليز أنباء عدد القتلى منهم ولكن في كل يوم يعثر على جثث طافية لهم في ترعة الإسماعيلية وفي بحيرة التمساح

وفي مساء الاثنين 19 نوفمبر وقف إيدن وزير خارجية بريطانيا يتحدث في مجلس العموم البريطاني فقال (إن القومية العدوانية أو التعصب الديني أو الاثنين معاً وحاولاً إثارة الحقد والكراهية والبغضاء بين فريقين كان ينبغي أن يكونا صديقين. نعم ينبغي أن تكون مصر صديقة لبريطانيا لأن بريطانيا تقتل كل يوم من المصريين من تستطيع وتهتك أعراض المصريين وتسلب أموالهم وحرياتهم وتعتدي على استغلالهم ووحدتهم. هذا هو منطق الإنجليز!! وقال (إن بريطانيا على استعداد الآن لإعادة النظر في معاهدة 1936 والاستعاضة عنها باتفاق مع الدول الأخرى لحماية قناة السويس. وكأنه يريد أن يقول إن سبع سنوات من المفاوضات لم تكن كافية لتعديل معاهدة 36 البائدة ويزيد فيريد أن يفرض حماية دولية على قناة السويس مع أن مصر قد ضاقت ذرعاً بإنجلترا وحدها

وقال (إذا أريد نجاح أية محادثات بين مصر وبريطانيا يجب الكف عن النشاط الإرهابي الموجه ضدنا في منطقة القناة. فالموقف هناك لا شك خطير.) وكأني به يريد أن يقول إن تبعة مجزرة الإسماعيلية تقع على عاتق المصريين إذ هي رد على الاعتداءات الفدائيين. لا يا مستر إيدن! إنها رد على صلاح الدين. ولكن اعلم أن مصر قد وقفت تناضل عن حريتها، ولن تضعف مهما ارتكبتم من إثم أو اقترفتم من جرم. إننا لا نريد احتلالا فاخرجوا من ديارنا وكفى

ووقف مستر موريسون وزير خارجية إنجلترا السابق يؤيد إيدن، إنجليزي يؤيد إنجليزياً! أمر معروف ولن نبأ بإيدن أو بموريسون

ويختم إيدن حديثه طالباً أن يعود ألمانيا وإيطاليا من جديد وأن تصبحا عضوين في هيئة الأمم. هذا هو جزاء الإنجليز للأعداء. أما مصر الصديقة فيقتل أبناؤها جزاء لها على صداقتها!

وإني أحب أن أبعث بالتحية إلى الفدائيين من إخواننا فقد أقلقوا مضاجع الإنجليز بأعمالهم الجريئة، وبشجاعتهم وحسن حيلهم من استخدام القطط المشتعلة إلى إطلاق الثعابين والأفاعي

وفي 20 نوفمبر 1951 قدم الدكتور مصدق رئيس وزراء إيران وبطل تحريرها إلى مصر فاستقبلته مصر استقبالا حماسيا رائعا. ولا عجب فمصر شقيقة إيران وكلتاهما تناضل العدو المشترك بريطانيا

مارس 1919:

رأينا كيف بدأت الثورة المصرية ثورة سلمية هدفها إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال، ولكن الإنجليز أبوا على المصريين حقهم المشروع في الحرية والاستقلال وانطلقت قواتهم الغاشمة تعتدي على العزل الأبرياء وتسفك دماء الشهداء، دون ذنب إلا إخلاصهم لوطنهم. وبلغ الجنون بالإنجليز أقصاه فانطلقوا يطلقون الرصاص على المصلين وهم خارجون من المشهد الحسيني بعد قضاء صلاة يوم الجمعة 14 مارس. وقد حسبوا أن تجمع المصلين مظاهرة، ولكنهم في عدوانهم هذا لم يميزوا أيضاً بين رجل وامرأة فقتلوا بعض النساء

إضراب المحامين:

في 11 مارس أضرب المحامون عن العمل احتجاجاً على موقف إنجلترا من مصر ومنعها للوفد من السفر والتجائها إلى سياسة الإرهاب والشدة إزاء المصريين وقبضها على زعماء مصر وطلبوا نقل أسمائهم إلى جدول غير المشتغلين

وقد وافق مجلس نقابة المحامين على قرار الإضراب ونفذ المحامون القرار في 11 مارس، وكان لهذا القرار أثر كبير في نجاح الثورة (فقد كان بمثابة دعوة عملية إلى طوائف الشعب للإضراب العام).

وفي 15 مارس انضم المحامون الشرعيون إلى زملائهم وقرروا الإضراب أيضاً. وقد اقتحم المتظاهرون المحكمة الشرعية العليا وطلبوا إلى رئيسها أن يسير على رأس مظاهرتهم فقبل. وركب عربة جاء بها المتظاهرون، ولكن البوليس هاجم المتظاهرين وأصيب منهم اثنا عشر غلاماً في أرجلهم

وفي هذا اليوم أيضاً أضرب عمال عنابر السكة الحديد ببولاق، وألفوا مظاهرة تأييد للطلبة فوقفت حركة السكة الحديدية وقد اضطرت الحكومة إزاء هذه الإضرابات أن تنشر جنودها في جميع أحياء القاهرة واضطرت إلى احتلال محطة القاهرة والعنابر والورش بحي السبتية

محاكم عسكرية:

أنشأت السلطة محاكم عسكرية في القاهرة أولا ثم في الإقليم لسرعة البت في قضايا المظاهرات والمتظاهرين. وقد قضت هذه المحاكم بأحكام مختلفة على كثير من المتظاهرين وكان من بين أحكامها: الحكم على حسن عبد الباقي النمرجي بجنيه غرامة أو السجن أحد عشر يوماً لأنه مزق منشوراً للسلطة العسكرية!

مظاهرة السيدات:

أبت المرأة المصرية أن تترك الرجل المصري ينفرد بشرف الجهاد، ولهذا الغرض اجتمع عدد كبير من فضليات السيدات والآنسات في يوم الأحد 16 مارس وخرجن في مظاهرة كبرى سارت في شوارع العاصمة تنادي بالحرية والاستقلال لمصر، وبسقوط الحماية والظلم والاستبداد، والاحتجاج على ما أصاب الأبرياء من القتل والتعذيب

وقد أخذت المتظاهرات يطفن في حشمة ووقار بدور معتمدي الدول الأجانب ويقدمن إليهم منشوراً:

(جناب المثتمد:

يرفع هذا لجنابكم السيدات المصريات أمهات وأخوات وزوجات من ذهبوا ضحية المطامع البريطانية، ويحتججن على الأعمال الوحشية التي قوبلت بها الأمة المصرية الهادئة لا لذنب ارتكبته سوى المطالبة بحرية البلاد واستقلالها تطبيقا للمبادئ التي فاه بها الدكتور ولسن وقبلتها جميع الدول محاربة كانت أو محايدة.

نقدم لجنابكم هذا ونرجوا أن ترفعوه لدولتكم المبجلة لأنها أخذت على عاتقها تنفيذ المبادئ المذكورة والعمل عليها؛ ونرجوكم إبلاغها ما رأيتموه وما شاهده رعاياكم المحترمون من أعمال الوحشية وإطلاق الرصاص على الأبناء والأطفال والأولاد والرجال العزل من السلاح لمجرد احتجاجهم بطريق المظاهرات السلمية على منع المصريين من السفر للخارج لعرض قضيتهم على مؤتمر السلام أسوة بباقي الأمم وتنفيذا للمبادئ التي اتخذت أساساً للصلح العام، ولأنهم يحتجون أيذا على اعتقال بعض رجالهم وتسفيرهم إلى جزيرة مالطة

لنا الأمل يا جناب المعتمد أن يحل طلبنا هذا نحن السيدات المصريات محل القبول ولا زلتم عونا لنصرة الحق مؤيدين لمبادئ الحرية والسلام.)

وقد أثار منظر السيدات والآنسات في المظاهرة الحماسية في النفوس ووقفت الناس على جوانب الطرق يحيون المتظاهرات وشاركتهن زميلاتهن بالزغاريد من داخل المنازل فأحفظ ذلك الإنجليز وأخذوا يتعرضون لهؤلاء السيدات. وحينما وصل الموكب إلى شارع سعد زغلول ووجهته (بيت الأمة) ضرب الإنجليز نطاقاً حول المتظاهرات ومنعوهن من مواصلة السير وصوبوا بنادقهم نحو صدورهن، ومع هذا فإن المتظاهرات لم يرهبن التهديد وتقدمت إحداهن وقالت لجندي شهر عليها بندقية: (نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية.)

قالت هذه العبارة بالفرنسية ففهمها الضابط فخجل وتنحى لهن عن الطريق بعد أن وقفن في حرارة الشمس أكثر من ساعتين

وقد كتب المتظاهرات احتجاجاً ثانياً على هذه المعاملة ورفعوا مع الاحتجاج الأول إلى معتمدي الدول الأجنبية. ولقد كان منظر الجند المدججين بالسلاح وهم يتعرضون للسيدات الكرام مدعاة إلى احتقارهم

وقد حيا شاعر النيل حافظ بك إبراهيم مظاهرة السيدات في قصيدة رائعة:

خرج الغواني يحتجج ... ن ورحت أرقب جمعهنه

فإذا بهن تخذن من ... سود الثياب شهارهنه

فطلعن مثل كواكب ... يسطعن في وسط الدجنه

وأخذن يجتزن الطريق ... ودار سعد قصدهنه

يمشين في كنف الوقا ... ر وقد أبن شعورهنه

وإذا بجيش مقبل ... والخيل مطلقة ألاعنه

وإذا الجنود سيوفها ... قد صوبت لنحورهنه

وإذا المدافع والبنا ... دق والصوارم والأسنة والخيل والفرسان قد ... ضربت نطاقا حولهنه

والورد والريحان في ... ذاك النهار سلاحنه

فتطاحن الجيشان سا ... عات تشيب لها الأجنه

فتضعضع النسوان والنس ... وانليس لهن منه

ثم انهزمن مشتات الشم ... ل نحو قصورهنه

فليهنأ الجيش الفخو ... ر بنصره وبكسرهنه

فكأنما الألمان قد ... لبسوا البراقع بينهنه

وأتوا بهندنبرج مخت ... فيا بمصر يقودهنه

فلذاك خافوا بأسهن ... وأشفقوا من كيدهنه

أبو الفتوح عطيفة