مجلة الرسالة/العدد 963/المستقبل وأسرار الوجود

مجلة الرسالة/العدد 963/المستقبل وأسرار الوجود

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1951



للأستاذ عبد الجليل السيد حسن

المستقبل هو أمل من لا أمل له، وعزاء من لا عزاء له؛ هو رجاء اليائسين، واللقمة التي يعيش عليها الفاشلون والمحرومون. هو الحبل الذي يتشبث به الغرقى في بحار الحياة ويرونه سببا للنجاة بينما هم في اللجنة يغوصون، وإلى الهلاك يسرعون، فكل من لم ينل من الحياة مراده ولا رغائبه، واحتاطه اليأس وكفنه بالحزن والألم ليشيعه إلى القبر، كان شريان الحياة الذي ينبض فيه ويمزق له أكفانه: هو المستقبل. فيندفع إلى الحياة ليعيش على الأمل والتعلات، وينتظر استعادة ما فات، واستحضار ما ستدبر. فالمستقبل هو خيط الحياة الذي بانقطاعه تنقطع الحياة؛ فلو أن هذا الذي فانه ما يريد ويأمل، وهذا الذي صدمته الحياة في نفسه وماله وولده، لو أن هذا أو ذاك: تاه عنهما وجود المستقبل وغفلا عنه لبخع كلاهما نفسه، وقضى على حياته بيديه، ودلف بنفسه إلى القبر يحفره. ولكنه يرى بتعلل بالمستقبل، يحقق له أمله الضائع، ويشفى له مرضه المستعصي، ويعوضه عن ماله الذي فقد وولده الذي احتسب. ويتضح لك هذا إذا صورت لنفسك ما ستكون عليه حالة هذا الذي فقد الأمل في المستقبل لأن الأسباب قد تقطعت به، لاشك أنك ستراه بمنظارك أول الأمر حائرا يبحث متلهفا عن بصيص ينظر منه سببا وإن تفه يرجوه، وفرجة وإن ضيقة يطل منها على المستقبل، فإذا لم يقطع على بغيته، فلا أخالك إلا ملقيا بمنظارك لتجرى نحوه لتوقفه عن قتل نفسه.

المستقبل هو الوجود كله، والزمان كله. وليس هناك من شيء غير المستقبل. أليس الوجود امتدادا لا يعرف منتهاه ولا أوله، وما هو هذا الامتداد؟ إنه لا يخرج عن المستقبل فليس هناك شيء اسمه الماضي، ولا شيء اسمه الحاضر، بل هناك شيء واحد اسمه المستقبل، المستقبل فقط. وإذن فما هو الوجود.؟ أليس إلا مستقبلا قد نسج، ومستقبلا ينسج، ومستقبلا ينتظر النسج؟ أما المستقبل الذي نسج فهو ما نسميه الماضى، والمستقبل الذي ينسج فهو ما نسميه الحاضر. فالأمر لا يعدو قسمة لا حقيقة لها لهذا التيار الساري، تيار الوجود الذي يرتكز في المستقبل. فتيار الزمان هو المستقبل وهو النهر الذي قيه الوجود والكائنات. فالنقطة التي تسبح فيها هذه اللحظة، تسميها الحاضر، والنقطة التي تعدتها تسميها الماضى، والنقطة التي تنتظرها تسميها المستقبل. ويا لحمق هذه الكائنات التي تتناسى أن النقطة التي تسميها الماضي هي نفسها التي كانت تسميها المستقبل قبل أن تصل إليها، فليس الأمر سوى خداع أسماء، وكم لخداع الأسماء من ضحايا!

بين الماضي والمستقبل:

لتنظر معي رعاك الله إلى هذا الوجود، وتأمل فيه: متى وجد.؟. . . وأين كان قبل أن يوجد؟. . . خذ أي شيء وتأمله، وقف بالله عليك قبل أن تلتهم هذا العنقود من العنب، وفكر (من أين جيء به؟). . (من كرمته). . (حسنا، ومتى جيء به؟). . (حسنا، وأين كان قبل هذا الموسم؟) أين. . أين. . في العدم؟). . .

ولكن يا صاحبي كيف يأتي شيء من لا شيء؟ إنه كان لاشك في ضمير العنب، أي قبل هذا الموسم بشهور مثلا: كان في المستقبل. ولكن. . هل كان وجوده مشخصا حقيقيا في هذا الغيب؟

مثل هذه المشكلة حلها (أرسطو) بمفتاحه السحري: مفتاح (القوة والفعل) أو (الإمكان والواقع) فالشيء قبل أن يكون، لم يكن معدوما بل كان موجودا بالقوة، أي كان وجوده ممكنا وليس واقعا متحققا ظاهرا مشخصا، فأي شيء هو بالقوة قبل أن يوجد ويخرج من القوة إلى الفعل بتأثير مؤثر، فمثلا: البذرة الآن بذرة بالفعل وشجرة بالقوة، لأنها سوف تكون شجرة. والطفل الآن طفل بالفعل وفي الواقع ولكنه سيكون رجلا في المستقبل، فهو رجل بالقوة.

وقد قلنا إن الوجود هو المستقبل قد نسج وهو الماضى، ومستقبل ينسج وهو الحاضر، ومستقبل سينسج وهو الذي عرف وحده بالمستقبل، فكأن المستقبل هو الوجود بالقوة والماضي هو الوجود بالفعل. فالفرق بين الماضي والمستقبل: هو الفرق بين الإمكان والواقع. وليس الفرق بين الإمكان والواقع واسع الشقة مهول المسافة، بل لا يبدو ذلك إلا لذوى النظر الضيق، أما أصحاب النظر السليم فإنهم لا يرون كبير فرق بين الإمكان والفعل، لأن لهم من قوة بصرهم ما يربهم المستقبل حاضرا، والإمكان وقعا.

إن الزمان عبارة عن الحركة، أو أن الحركة هي جوهر الزمان، فمثلا: تصور أن الأرض ثابتة، وأن الشمس طالعة أبدا، وأنك وحدك على الأرض ثابت لا تريم. . هل تشعر بشيء؟ لا يمكن أن تشعر بشيء مطلقا، إذا لم يكن هناك حركة ولو أقلها تقرن نفسك بها، وتشعر بوجودك بالنسبة إليها، فأنت إذا كنت ترى صخرة أو شجرة مثلا، ولم يكن في طوقك الحركة حتى تبلغها، ولا في طوقها الحركة حتى تبلغك؛ فلن تشعر بوجودها، وقد لا تشعر بوجودك أيضا. أما الذي يجعلك تشعر بوجودك ووجودها فهو الحركة، فالشجرة مثلا بعيدة الآن، وهاأنذا تقترب منها، فأنت تشعر بوجودك ووجود الكون بناء على التغير أو النقلة، فشيء غير موجود الآن يجعله التغير والانتقال موجودا. فالشيء الذي يشعر الإنسان بذاته ووجوده هو المستقبل؛ لأن النقلة والتغير تصير إليه، ولو لم يكن هناك مستقبل لما كان هناك وجود ولا زمان ولا شعور للإنسان بذاته وبالكون. والنزوع إلى تحقيق ما هو غير محقق الآن، هو أدل شيء على شعور الإنسان بالوجود وبذاته، فالإرادة والشوق والأمل، هي علائم الوجود وشواهده التي لا تكذب، فيها يشعر الإنسان بأنه موجود حقا ولا يخالجه أدنى ريبة في وجود ذاته. وحينما تتعلق القدرة بالإرادة، ويستطيع الإنسان تحقيق رغبته في العالم الخارجي، فحينئذ يتأكد له وجود ذاته ووجود العالم الخارجي.

والمستقبل هو الذي يمنح الحياة ويبعد عنه الثبات الذي هو الموت، وكسبه التجدد والتغير، فليس شيء في الوجود ثابتا مطلقا. فلو فرضنا أن هناك موجودا جمادا أو حيا، وليكن هذا الشيء (1) فإن (م) الآن غير (1) بعد دقيقة مثلا؛ لأنها ستكون (1) زائدا دقيقة) ولا شك أن (1) فقط لا تساوى (1 زائد دقيقة). وهكذا، فإن كل شيء في الوجود في تغير أو حركة نتيجة لإضافة المستقبل إليه. فالمستقبل هو الذي يجعل الوجود حيا. ولو لاه لما كان وجود ولا حياة. وهنا نرى أننا قد وصلنا إلى شيء جديد هو أن كل ما في الوجود لا يمكن فهمه إلا باندماج الزمان فيه واندماجه في الزمان - وحينما نقول الزمان فإنما نعنى الصورة ذات الأوجه الثلاثة التي يبدو فيها المستقبل (من مستقبل (ماض) ومستقبل (حاضر) ومستقبل (مستقبل) - فكأن هناك حدا لا تفهم الموجودات إلا بنسبتها إليه وقياسها عليه وهو الزمان أو المستقبل حقيقة. وهذا وصول إلى الحد الرابع الذي تقول به النسبية ولكن من طريق آخر غير طريق النسبية، بل من طريق وجودي مستقبلي تحليلي، لا يعتمد إلا على تحليل الوجود ومحاولة فهم العناصر التي تكونه، وليس استخراجا لهذا الحد من قوانين الحركة الحديثة التي تقول باستحالة استخراج الحركة المطلقة للمتحرك، وبناء عليه باستحالة التواقت المطلق والزمن المطلق، وتقرر أن الزمن نسبى والتواقت نسبى بناء عليه بالنسبة للمتحرك، وهى تبنى نتائجها وتجرى تجاربها على الحركة وقوانينها. أما نحن، فإنما اندمج الزمان بالمكان بناء على الوجود المستقبلي والشعور بسريانه، فالشعور بسريان الاندماج أصل، والقول بالحركة فرع.

ونقول إن هناك صورتين من الزمان: الزمان المفهوم من الحركة، وهو (الزمان الخارجي) الذي نفهم الأشياء الخارجية به؛ والزمان الذي نشعر به في أعماق وعينا، وهو (الزمان الحقيقي) وبمقدار شعورنا بالزمان يكون وعينا، فكلما كان وعينا قويا كان شعورنا بالزمان قويا كذلك؛ فهنالك تناسب طردي بين الوعي وبالتالي نصيبنا من الوجود، وبين الشعور بالزمن. وقد قلنا إن الذي يجعل الزمن زمنا هو (المستقبل) بل إن المستقبل هو الذي يميز بين هذين النوعين من الزمان: الزمان الشعوري والزمان الحركي. فالزمان الشعوري يمثل المستقبل فيه أكثر من شيء واحد، والأمل، والإحساس بالحياة، والرجاء، والوجل، والخوف، والاطمئنان، والانتظار، والترقب، وكذلك (التغيير والتبدل) - والحرية أو الجبرية في هذا التغير - أما الزمان الحركي فهو لا يشمل ولا يمثل إلا (التغيير والتبدل) واحتمالها فقط. وهذا هو الفرق بين الوجود الحي والوجود الميت. والفرق بين الوجود الأول والوجود الثاني هو الفرق بين الوجود الفعال والوجود الخامد المنفعل.

ولكن هل تسير الأمور بقوانين ثابتة لا تتحول، وبمقتضى سنن موضوعة لا تتبدل؟ بمعنى أن ما حدث في الماضي عن العلة (1) لابد أن يتبعه المعلول (ب)، ولو علمنا هذه القوانين فهل في مقدورنا أن نتنبأ بما سيحدث في المستقبل؟ هذا موضوع آخر: موضوع السببية والمستقبل. . وسنقدم بمرضنا لمشكلة السببية إن شاء الله في مقال تال.

للكلام صلة

عبد الجليل السيد حسن