مجلة الرسالة/العدد 963/على هامش (الوجودية)

مجلة الرسالة/العدد 963/على هامش (الوجودية)

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1951



راعى الغنم في باريس

للدكتور على شرف الدين

كانت بقايا الشمس الغاربة ترف في جباه العمائر القائمة في ميدان سان جرمان، فيجرى ذائب نضارها في سواد عرانيها، كما يجرى الشاحب الحزين في لمة طافت بها الذكريات. وكان الليل قد أخذ ينشر ذوائبه الغبش على جبين النهار، ويغزو بسكونه الرهيب ضجة الحضارة الصاخبة. بينما كان راعى الغنم قد انتحى جانباً مستنداً إلى جذع شجرة هناك، ومن حوله أسرته الخالدة يؤلفها عنزاته الأربع، وكلبه القروي: أسرة هي رمز الوفاء في كتاب الأيام.

كانت صفارته ترسل أنغاماً واهنة لا تكاد تصل إلى السمع إلا بشيء من عمل النفس، ولكنها على هوادتها كانت تصعد في السماء رائعة لتستحيل إلى دعوات ضارعة في عالم اللانهاية والخلود.

كانت ألحانه لا تحتاج إلى خيال شاعر، ليرددها إلى عالم آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه، ولقد ذكرت عندها قول أندريه جيد في السيمفوني باستورال، وهو يجري آراءه في الحياة والفن على لسان الباستير، انه يري (أن الموسيقى لا تصور العالم كما كان، ولكنها تصوره كما يمكن أن يكون لو خلا من الشرور والخطايا).

كان لألحان الراعي روعة في النفس يزيد منها إقبال الليل في سكونه، حتى كأنها دعوة السماء إلى القلب، فانعطفت قبالته وأحسست كأنما أنظر في باريس إلى أثر مقدس، يثنيني عن التقدم إليه جلال الزمن. وروعة الماضي. كان هو الراعي في كل شيء غير سراويلات لم يشهدها الشرق في رعاته، أوربي تغمره الضارة المادية، وتأخذ حياته من أقطارها ولكنه كان عنها بعيداً، وفيها زاهدا لقد ورث عن أبيه (الراعي الخالد) هذا الوجه الهادئ، الذي لفحته حرارة الصحراء، فتركت فيه هذا الرضا العميق، يكشف عن نفس يعمرها اليقين والأمل. ولقد كنت تقرأ في أسارير وجهه شيئا آخر أقوى من اليقين والثقة، كنت تقرأ فيها فلسفة العزلة التي تظهر فيها النفس الإنسانية أقوى ما تكون فهماً وإشراقاً. فيلسوف لم يأخذ فلسفته عن منهج ديكارت، ولكنه أخذها عن أستاذ لا يضل أبدا: عن الطبيعة التي لقنت أجداده أبلغ الحكمة. لقد عرف الأمل في الشروق، وعرف العراك والألم والصبر في رائعة النهار، كما عرف الهدوء والرضا في صفحة الغروب، وسمع خطيب الليل الصامت يلقى على الإنسانية فلسفة الجنوح والاستسلام إلى قوة غالبة، يجد في جوارها السلم والعافية، واستقام له من كل ما قرأ في كتاب الوجود فلسفة راسخة قوية، لا يغريها الأمل، ولا يوهنها اليأس، لأنها أقوى من إغراء الأمل، وأسمى من تخاذل اليأس. إنها فلسفة الرضا المقرون بإشراق الحقيقة، يطل منه على هذه الحضارة الصاخبة المجنونة.

لم تكن أنغاما تتألف من مقاطع، ولكنها صلوات القلب في محراب الطبيعة، تتألف من ضراعات الرهبان، ونسك العابدين، لست أدرى أهي حفيف ذكريات الزمن البعيد، أم أنها الترانيم الهامسة منذ الأزل في فضاء الوجود. أنها رسول السلام والأمن أقبل من السماء إلى الأرض ليغفر ما جرحت أيدي الحضارة وليبارك الضعاف الأقوياء الذين شرعوا أقوم المثل في الصبر والرضا، حتى إذا أقبل الليل وجدوا فيه متنفساً لآلامهم ودموعهم. .

قال لي تراعى في صفارته: (إن أمانينا ستظل رسول العذاب إلى قلوبنا، وستظل سبب شقوتنا في الحياة، حتى نغير النظرة بأخرى، وحتى نستبدل مقياس السعادة بآخر إلى النفس بصلة، وحتى ننصرف طوعا وترفعاً عن روعة لو اختبرناها لظهر زيفها وباطلها. . .)

(إن فلسفتي هي أقوم ما انتهت إليه الفلسفة المتحضرة: حياة ساذجة لا صنعة فيها، وعزوف عن الظاهر البراق لا زهداً ولا يأسا، ولا حتى تدينا، ولكن إيثارا للحقيقة، وإدراكا لجمالها، وتلبية لنداء النفس المطبوعة التي لا تخطيء في الدعاء. .)

(إن فلسفتي لا تعني بغير نشيد الكون في جملته، وما بحثت قطر عن مم يتألف النشيد، ولا حاولت أن تعرف مقاطع نغمه، وضروب إيقاعه. وإذا جهلت أنا شيئا من هذا فان ذلك لا يحرمني السرور بجمال الأنشودة في جملتها، وإن عناصر الكون الحافلة بالأسرار لتتجمع كلها في لحن واحد، ما أيسر أن تحس النفس جماله، وتنعم بإدراكه، فعلام إذاً أشقى في تحليل المقاطع، ومناقشة العناصر. .)

(إن الوجود في فلسفتنا معشر الرعاة ترنيمة تنفح بعبير السماء، تذيعها الطبيعة في لحنها صباح مساء. إنه النهر الجاري تصفق في جوانبه الجداول، وتنعم الطير على شاطئيه، ما سألت قط عن منبعه ولا مصبه، ولكنى أسير مع التيار شاديا مغردا، أسبح بهذا النعيم، وأشيد بجمال الحقيقة. .)

(وماذا يعنيني أن أبحث كما يبحث هذا الرجل المعذب (بالوجودية)، انه يشقى ويشقى الناس معه، ليثبت أن الوجود يسبق الجوهر، وان الإنسانية لهذا محكوم عليها بالألم الشقاء. إنه لا يفهم الإنسانية إلا على هذا النحو الأسود القاتم، ولا يراها غير فريسة للآلام، فراح يلتمس لنا في فلسفته، وقصصه؛ ومسرحياته كل جرح دام من جراح الإنسانية المعذبة، وسارت باريس في ركابه تحمل المناظر السوداء، لترى من خلالها هذا الوجود، حتى فترت صبوات القلوب العامرة باليقين والأمل. .)

(وإذا كان (عميد الوجودية) قد زحم مؤلفاته بالمآسي الإنسانية التي يدعم بها مذهبه فإنه نسى الكثير من مسرات الإنسانية. وما الخير في فلسفة لا تقوم إلا على تذكر الشرور والآلام، وتغفل عن مباهج الإنسانية الروحية؛ فقطعت عليه لحنه:

(أتنكر الألم في الوجود أيها الراعي؟ قال: (أفتنكر أنت أن أكثر من النصف في الوجود خير وبركة وجمال؟ رويدك فإن (الوجودية) تنكر المستقبل المسطور في السماء، وتلقى به بين يدي الإنسان ليصنعه بنفسه

قلت: فإنه يسرف في التعبير، ويستخدم من الألفاظ كفيلسوف ما يؤيد به مذهبه، وإنه ليريد أن ينسب (الاختيار) إلى الإنسان، وأن يعقد أمله بالأعمال فإن لها عنده قيمتها وأثرها قال: فسنعود إذاً إلى حديث الاختيار أو الحبر، وما أعرف أن الفلسفة العربية قد قصرت في مناقشتها، ففيم إذاً هذه الضجة؟

لقد كتب ابن سينا عن الجوهر والوجود، يعاونه في ذلك عقل الفيلسوف وخبرة الطبيب. كان فيلسوفا وطبيبا يدرك النفس، كما يدرك المنزل الذي تسكن فيه، فآخى بين الروح والمادة، وزاوج بين المجهول والمعروف، واستقام من ذلك منهج قويم. . سكت الراعي قليلا ثم أقبل في الحديث وقد جرى شعاع من النور في أسارير وجهه: (إن للشرق طريقة حسنة في فهم الوجود. ولقد حل المشكلة هذا الهندي المبارك، وضرب تاغور على الحياة بسرادق من الخير والجمال، وأنكر وجود الشر فيها، وإذا كان له وجود فإنه عدم في عالم الحقيقة، إنه كالخطأ في عملية حسابية له وجود على الأوراق، ولا وجود له في الحقيقة.

إنه كمن يحضر حفلا خاصا، ولا يحمل معه بطاقة الدعوة ممن أقام الحفل. إنه موجود بين المدعوين ولكنه وجود لا تعتبره الحقيقة. . ثم نظر إلى قائلا: (أترى ما قال تاغور هو الشعر، وهبه شعرا! ولكنه حسن جميل. .)

(لا يا سيدي إن لي زوجة جميلة تنتظرني، وإنها من مباهج الحياة عندى، فلم أنقب وأحصى ما لقيت من ألم في النهار، وأنا أعرف أن سروري بها يعدل أضعاف ما لقيت من ألم في النهار! وإن لي أصدقاء من الرعاة نسمر معا، ونتحدث عن مملكتنا المسحورة ذات المروج والجداول والطير. .)

(إن الرومانتسم في أدبنا الفرنسي لم تطبع بهذا الطابع الشاحب ذي المزاج الحزين إلا أن أطلق الشعراء تأملهم العميق في الوجود، وغالوا في التحليق بنفوسهم وهم يتحدثون إلى الطبيعة، حتى عبروا منطقة الجمال إلى مجاهل الفلسفة، وانتهوا في تأملهم إلى السؤال: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟ فلما عجزت عقولهم طوى العجز نفوسهم على ذواتها، فتألموا، واختلطت أفانين الجمال في شعرهم بنبرات من الحزن، تكشف عن نفس معذبة قبل أن تكشف عن نفس متأثرة حساسة.

سكت قليلا بينما كانت تخفق في جبينه طيوف من الحلم والذكريات، ومسمعته يردد في صوت خافت عبارة جينز: (لم يعد عند العلم قول يلقيه. . . وربما كان من الخير أن تقول إن العلم قد عدل عن إلقاء الأقوال، لأن نهر المعرفة قد انعطف في سيره مرات كثيرة بحيث لم يعد في مقدرتنا أن نحكم بالناحية التي فيها مصب النهر) قلت: فما بالك أيها الراعي تخلط بين العلوم الطبيعية وبين فلسفة الوجود، وأين هذا مما نحن فيه؟ قال: فهي إذاً كما قال تاغور: (الحياة حق، وحب، وخير وجمال). ثم نهض الراعي يتبعه كلبه وعنزاته، قلت: فأنى أريد أن أراك مرة أخرى. قال: فموعدنا قهوة الفلور، فقد يكون لنا حديث. قلت: ولم قهوة الفلور؟ فأشار إليها بصفارته قائلا: أما تراه يجلس في شرفتها المطلة على الخارج؟ فنظرت. . . فإذا.

جان بول سارتر

باريس علي شرف الدين

دكتور من جامعة باريس