مجلة الرسالة/العدد 964/القصص

مجلة الرسالة/العدد 964/القصص

ملاحظات: بقية حية Живые мощи هي قصة للكاتب الروسي إيفان تورغينيف ونشرت ضمن مجمعة مذكرات صياد. نشرت هذه الترجمة في مجلة الرسالة بتاريخ: 24 - 12 - 1951



بقية حية

للكاتب الروسي تورجنيف

كان تورجنيف خلال صيد يفتش عن ملجأ من المطر في مزرعة لامه. فهبط كوخا مهجورا ووجد خصا في زاوية من زوايا سرير خشبي يرقد عليه شكل إنساني صغير) قال تورجنيف:

دنوت ولكن الدهشة سمرتني في مكاني. أن إزائي كائنا حيا، ولكن ما هو هذا الكائن؟

وجه غاض منه ماء الحياة، وغشيه لون برنزي كأنما يرى فيه الناظر صورة قديسة قديمة، وأنف دق مارنه حتى أشبه حد المدية، وشفتان دقيقتان نحيفتان لا تكادان تحسان، وعينان لامعتان، وأسنان بيضاء، وبعض غدائر شقراء ناست تحت النقاب، وفي أطواء الفضاء تتحرك ببطيء أصابع يدين ووجه لا يسمه القبح، وإنما هو جميل، ولكنه غريب مؤثر، وكان اشد ما اثر في نفسي ما لمحته على الخدين المتصلبين من صورة ابتسامة تجهد نفسها عبثا لتظهر

- ألا تعرفني يا سيدي؟

تردد ذلك الصوت الذي راح يردده هذا الكائن كنفحة، تحركت به شفتان بعناء

- إنني (لو كريا) هل تذكرني؟ أنا التي كنت أرسل الأغاني وأثير الضحك عند أمك!

- أأنت (لو كريا) انت؟ هذا مستحيل

- أنا هي بذاتها

وما كان لي إلا القول والنظر كالمجذوب في هذا الوجه الأربد، وفي هاتين العينين اللامعتين الشاخصتين بدون حياة.

أهذه المومياء هي (لو كريا) أجمل وأبهى إمائنا، من كانت بضة الإهاب وردية اللون، ترقص وتضحك وتمرح وتغني؟ لو كريا. . . الرقيقة التي فتنت رفاقها، ومن كنت أبسم لها خفية حينما كنت في السادسة عشرة؟

آه يا لو كريا ماذا أصابك؟

- حادثة مروعة، ولكن لا تخش يا سيدي، ولا تعرك السآمة من حالي. اجلس مني قريب على هذه الخابية لأنك لا تستطيع الإصغاء إلى بعيدا. أي صوت لي الآن؟ إنني جد مسرورة برؤيتك. .

(وهنا تقص عليه لو كريا قصتها، وأنها في ساعة عرسها سقطت عن السلم فأصابها هذا الشلل الذي عطل حركتها. وقد جربوا عبثاً أن يجدوا لها الدواء. وأخيراً قادوها إلى هذه المزرعة عند بعض الأقارب)

- وهل تظلين مضطجعة هكذا دائما؟

- نعم! وقد مر علي سبعة أعوام، في الصيف أمكث في هذا الخص الصغير، وفي الشتاء يحملوني إلى مدخل هناك

- ومن يعني بك ويقوم بحاجاتك؟

- أن هنا رجالا كرماء لا يتركونني ولكن في الغالب لا احتاج إلى شيء. كدت استغني عن الطعام والشراب، وتراني اكثر الأوقات مطروحة جانب هذا الينبوع البارد، وأستطيع أن أبلغ مقري وحدي، إذ لا تزال إحدى يدي سليمة. وهناك فترة صغيرة يتيمة ترافقني كثيرا فليجزها الله عني! كانت هنا قبل لحظة، ألم تلاقها في طريقك؟ أنها غادة شقراء تحمل إلى أزهارا احبها. كان عندنا من الروضة أزهار ولكنها ذوت. أما أزهار الحقول فهي جميلة أيضاً وشذاها أضوع! ماذا تريد أحسن من ذلك؟

- ولكن الحياة، إلا تجدينها كئيبة ثقيلة عليك يا لو كريا البائسة؟

- ما العمل؟ لا اقدر أن اكذب. كانت أيام مصابي الأولى أياما ثقيلة قاسية، ثم ما لبثت أن تعودت، وللإنسان من دهره ما تعود، وصبرت وذكرت أن آخرين - هنالك - قد يكونون أحق بالشكوى مني. .

- وكيف ذلك؟

- من لا مأوى لهم مثلا، والعميان والصم! أما أنا - فشكرا لله - ابصر وارى، واسمع ما خفت من الأصوات إذا شق خلد منفذا في الأرض فإني اسمعه، وأتروح كل العطور حتى الضئيل منها. لا تزهر شجرة في الحقول أو زيزفونة في البستان دون أن اخبر بذلك، فإذا مرت عليها الريح أكون أول كائن يحس ما تنطوي عليه هذه الريح! لا لا. . ولماذا العن حظي؟ هنالك آخرون حظهم أقسى، وكذلك الأشخاص المعافون تدفع بهم ميولهم كثيرا إلى عمل الشر. أما أنا فالخطيئة تركتني

- وهل أنت وحيدة دائما يا لو كريا؟ كيف تعملين لتطردي الأفكار عن نفسك؟ وعلى الأقل ألا تنامين كل الوقت؟

- لا يا سيدي! لا أستطيع أن أنام. حينما أريد وبدون أن أحس الآلام الكبيرة أجد في أعماق نفسي آلاما صماء تتمشى في عظامي، وهذا ما يحرمني النوم. لا أظل على حالة واحدة هادئة دون تفكير أحس أنني أحيا. أنني أتتنفس، وهذه كل حياتي، أنني انظر واسمع. تدوي أسراب النحل وتسقط حمامة على السقف وتمشي، ودجاجة تقاسم فراخها فتاتاً أو عصفورة أو فراشة تحوم. هذا كله يدخل السرور في نفسي، ومن عامين طرق السنونو هذا المكان، وبنى - هنا - عشا، ما اجمل هذا!

وفي بعض خطراتي اردد صلوات، ولكني لا اعرف منها كثيراً، ولماذا اضجر الإله الصالح مني؟ وماذا اطلب اليه؟ أنه يعلم حاجتي اكثر مني. أنه أرسل إلى صليبه وهذه علامة محبته لي. اعرف صلاة (يا أبانا) وصلاة (السلام عليك يا مريم) ثم أراني احلم في شيء. . . وهكذا الزمن يمضي

(وهنا يعرض عليها (تورجنيف) أن يقتادها إلى مستشفى في المدينة ولكنها ترجوه ألا يفعل)

- أنني اعرف يا سيدي أن فيما تعمله خيرا لي، ولكن هل في الإمكان مساعدة لآخرين؟ هل يمكن قراءة ما في النفوس؟ إنما يجب على الإنسان أن يجد مساعدة في نفسه. انك لا تؤمن به. في بعض خطراتي وأنا مضطجعة وحدي أحس أن لا أحد على الأرض غيري، وان لا أحد لي سواي، واشعر بان بركة تتنزل على. . . تساورني أفكار تبعث على الدهشة

- وأية أفكار تساورك يا لو كريا؟

- يستحيل الإفضاء بها يا سيدي! لأنها مما لا يمكن التعبير عنه. ثم أنساها. ثم يعرض لي ذلك كسحابة تمر فوقي. وعنها أحس نداوة تغمرني. ما هذا! لا اعلم عنه شيئاً. ولكني أقول: لو كان واحد معي لما وجد له مكانا. لا أحس شيئا إلا رزيئتي

وهنا تنهدت لو كريا تنهدا شديدا ولكن صدرها لم يسعفها على التنهد اكثر من بقية أعضائها - سيدي! أنني هجت فيك حس الشفقة كثيرا، فلا تأسف أصغ إلى ما سأقوله لك. . . انك تعلم، أو تذكر إنني كنت طلابة للمرح كثيرا في عهدي الأول. وتعلم كم كنت اغني!

وأنت تغنين أيضا!

- نعم: أردد أغاني القديمة، أنواعا كثيرة من الأغاني، أعرف منها كثيرا ولم أنسها ولكن الحان الرقص أصبحت لا ارددها لأن حالتي لا تساعدني

- انك تغنيها لنفسك بدون شك؟

- لنفسي. . . ارددها عاليا، قد لا اقدر أن اغني عاليا جدا، ولكن سامعها يفهمها. إنني حدثتك الآن عن غادة صغيرة تعودني. لقد علمتها إياها وأصبحت تعرف منها اربعا، وعما قليل ترى.

تنفست (لو كريا) وهذه الفكرة التي بدأت ترددها هذه الغادة الفانية قد أيقظت في نفسي هولا لا قبل لي به. ولكني قبل أن انبس بكلمة تصاعدت رنة تتعالى بصعوبة ولكنها صافية مستقيمة ملأت أذني، ثم رنة أخرى تلتها ثم أخرى. . . ولو كريا لا تزال تردد:

(في هذه المروج، هذه المروج، في هذه المروج الجميلة الخضراء) كانت تشدو دون أن تتبدل ملامح وجهها وعيناها لا تتحولان. ولكنها كانت ترسل صوتها يرن مؤثرا، هذا الصوت الضعيف الذي كان يجهد نفسه متصاعدا كأنه خيط دخان، متدفقا من كل نفسها. أصبحت لا أحس ذلك الرعب بل حل محله شفقة عنيفة تضغط قلبي.

أنت فجأة وقالت:

- لا أقدر. . . إن قوتي تخونني إن فرحي كثير برؤيتك وهنا أغمضت عينيها، ولمست بيدي أصابعها الباردة فنظرت إلى نظرة خفيفة، ثم رأيت حاجبيها الكثيفتين المنتهيين بخطوط ذهبية كخطوط الهياكل القديمة قد اغلقا كنت بالقرب من الباب عندما ذكرتني. . .

- هل تذكر يا سيدي (وقد بدت ملامح غريبة على عينيها وشفتيها) هل تذكر جديلتي الصغيرة؟ كانت تسقط حتى ركبتي مضى على ذلك عهد طويل وأصبحت لا أجزم. كانت غدائر جميلة وإني لي أن اعمل المشط فيها على هذه الحالة؟ فاضطررت إلى قصها. . . عفوا يا سيدي. . . لا أستطيع!

مرت أسابيع معدودة علمت خلالها لو أن لو كريا غادرت هذا العالم. وهنالك يقصون - إنها في يوم موتها - كانت تسمع بدون انقطاع نواقيس تقرع. وكانت لو كريا تزعم أن هذا اللحن الذي تسمعه لا يقبل من الكنيسة ولكنه يقبل من العالم الأعلى وكأنها لا تجرؤ أن تقول أنه من السماء

خ. هـ