مجلة الرسالة/العدد 964/المسرح والسينما
مجلة الرسالة/العدد 964/المسرح والسينما
مسرحية. . .
دنشواي الحمراء. . .
للأستاذ أنور فتح الله
تأليف: الأستاذ خليل الرحيمي
إخراج: الأستاذ زكي طليمات
تمثيل: فرقة المسرح الحديث
. . دنشواي. . قرية صغيرة من قرى الريف المصري، كانت تعيش هادئة آمنة إلى أن شاء القدر أن تبرز هذه القرية في صفحات التاريخ. فتهز مأساتها الضمير الإنساني، وتلطخ بالعار تاريخ الإمبراطورية العجوز. . ومنذ سنة 1906، أصبح أسم دنشواي يقترن بأبشع صور الظلم الإنساني.
ولقد أراد المؤلف خدمة القضية الوطنية بتصوير الحاضر وإثارة الشعور ببعث الماضي الذي مثل فيه الإنجليز بنا أشنع تمثيل، فأتخذ من حادث دنشواي صورة الماضي. . . . ورمزا للحاضر. .
ولما كانت هذه المسرحية، هي المسرحية الأولى التي يساهم المسرح المصري بها في خدمة القضية الوطنية مساهمة مباشرة. . فقد رأينا أن نتجه في نقدنا لها اتجاها (تحليليا)، متتبعين خطوطها الفنية، ومسجلين الأثر الذي تركته في نفوسنا؛ لنعطي للقارئ صورة صادقة لها.
. . تبدأ أحداث المسرحية في الإسماعيلية، حيث نرى أسرة مكونة من أب، وأم، وأبن، وخطيبته
. . أما الابن (عادل) فإنه يساهم في خدمة وطنه بالاشتراك غفي كتائب التحرير التي أعلنت حرب العصابات على المستعمر. . ولقد علمت الأم (رزقة) بما أعتزمه ولدها، فحاولت منعه لتدرأ عنه الخطر المحدق به. ولكنه يصر على الثأر للوطن من الغاصب المستبد. فتستعين بالأب (عبد الرازق)، وإذا به يأذن لولده بالخروج ليؤدي واجبه، فتصرخ الأم باكية، فيذكرها بماضيها في دنشواي. .
وفي دنشواي، نرى حادث قتل أم محمد، شقيقة عبد الرازق برصاصة أحد جنود الجيش البريطاني، ونرى مستر متشل المستشار الإنجليزي لوزارة العدل يجري التحقيق في منزل العمدة، وقد أتهم في الحادث حسن محظوظ والد رزقة، وعبد الرزاق خطيبها. . وينفذ حكم الإعدام في حسن محفوظ وزميليه. . ويفر عبد الرازق ورزقة إلى الإسماعيلية. .
وتنتهي حوادث المسرحية في الإسماعيلية، حيث ينقذ عبد الرازق ولده عادل وخطيبته سلوى ورزقة، ويقف وحده ليواجه جنود الجيش البريطاني الذين جاءوا للقبض على ولده، وينسف المنزل على نفسه وعلى أعدائه. .
. . ومن هذا العرض السريع للمسرحية، يتضح لنا أن المسرحية تصور الحاضر، والماضي. ولقد ربط المؤلف بين الماضي والحاضر بشخصيتي الأب والأم ولجأ إلى الرمز في تصويره للحاضر، فاختار أحداثه من المخيلة ليرمز للواقع وأتجه في تصويره للحقائق التاريخية إلى التركيز، فاتخذ قمم الأحداث وأستعان بالخيال في تصوير الدوافع النفسية التي تحرك أشخاص التاريخ، وبهذا بعث فيهم الحياة، وأبرز الماضي في صورة تثير الفكر والعاطفة.
. . والجو العام لهذه المسرحية مزيج من الدراما والكوميديا. . الدراما التي تمثل مآسي الظلم. والكوميديا التي تصور السخرية الثائرة على الأوضاع المقلوبة في الحياة. . ولقد بدت مشاهد الكوميديا موزعة في المسرحية لنمهد لضربات المأساة. وكانت شخصية الأسطى عطية تمثل الخط الكوميدي في الجزء الذي يصور الحاضر، وشخصية الشيخ محمد تصور امتداد هذا الخط في الجزء الذي يصور الماضي. ولقد كان الضحك في هذا الخط نتيجة للمفارقات الطبيعية المتصلة بالأحداث، كموقف الشيخ محمد عند التحامه بمستر متشل، ومحاولته تضليل ضابط البوليس حتى لا ينقبض على عبد الرازق.
والزمن في المسرحية يبدأ بالحاضر، ثم يعود إلى الماضي، ثم يرجع إلى الحاضر. وهذه الحركة تسمى في السينما وهي نادرة الحدوث في المسرح. ولقد استخدمها المؤلف في هذه المسرحية لتحقيق غرضين. . الأول رمزي. . فهو يرد شعورنا بكراهية الإنجليز اليوم إلى الألم الكامن في اللاشعور المصري نتيجة لكبت الظلم في الماضي. أما للغرض الثاني فهو فن. . قصد به التخلص من التسلسل التاريخي الذي ينجح بالمسرحية إلى العرض. . وأريد به المقابلة بين أحداث الحاضر وأحداث الماضي، وهذه المقابلة تزيد من قوة الحادث المسرحي. . وأحداث الماضي، وهذه المقابلة تزيد من قوة الحادث المسرحي. . ومن ناحية أخرى فإن هذه الرجعية الزمنية تساير حركة الفكر عندما يعود إلى تذكر الماضي.
. . والحادث المسرحي يصور حياة أسرة مصرية في الماضي والحاضر، وحياة هذه الأسرة تمثل حياة مصر في الماضي وفي الحاضر. . والصراع بين هذه الأسرة وبين البريطانيين نتيجة لما حل بها من ألم وظلم يمثل الصراع بين مصر وبينهم. . والرابطة بين ماضي الأسرة في المسرحية وحاضرها هي رابطة الدم التي تصل عبد الرزاق بولده. . وهي تمثل نفس الرابطة التي تصل أبناء اليوم بآباء الأمس الذين حل بهم الظلم في دنشواي وغيرها من مآسي الاستعمار. . وبهذا قابل المؤلف بين حياة تلك الأسرة الصغيرة التي ظهرت على المسرح. . وحياة الأسرة الكبرى التي يرمز إليها. . واستطاع بهذا أن ينقل التجربة التي تلقاها من الحياة ويطبقها في عمله الفني.
ومن حيث تصوير الأشخاص. . اتجه المؤلف في تصويرهم اتجاها رمزيا. . فعبد الرازق يرمز للماضي المستعمر في الحاضر. . وعادل يرمز للحاضر المستعمر في المستقبل. . والشيخ محمد والأسطي عطية يرمزان لروح الشعب المصري في الماضي والحاضر، وسلوى تمثل الفتاة المصرية التي تساهم بنصيبها في الجهاد. . ومستر متشل يمثل روح الاستعمار البريطاني. وسنتناول بالتحليل شخصيتين: الأولى خلقها المؤلف من المخيلة. . والثانية استمد اسمها ودورها من التاريخ، أما بقية الصور فمن خلقه. .
. . فقد أبرز الشيخ محمد مؤمنا بالله، صادقا بفطرته، طيب القلب ساخطا على الظلم، يعبر عن سخطه المكبوت بسخريته اللاذهعة، وإذا جرح شعوره الديني فإنه يثور ثورة عابثة ولا يبالي بالحياة. . ولقد حرص المؤلف على أن يجعل الأحداث التي يشترك فيها تبرز هذه الخطوط، وفي نطاق الواقع النفسي والفكري للشخصية المصرية
ولقد أبرز المستر متشل متظاهراً بالعدل وهو ظالم، يتهم بالقتل وهو قاتل، ويغضب من الحق، ويؤمن بالباطل، وبهذه الخطوط لخص المؤلف روح الاستعمار في شخصية متشل، وعبر بأفعالها وأقوالها عن المنطق الاستعماري أبلغ تعبير. . ولقد سار المؤلف على ذلك في رسم الشخوص الأخرى. . كالعمدة؛ وجندي البوليس، وشيخ البلد، وشيخ الخفر. أما شخصية عبد الرازق وعادل فإنهما ترمزان لجيلين؛ ولهذا كان المؤلف ملتزما في تصويره لهما. ولقد قيد هذا الالتزام حريته في التصوير فغلبت عليهما النموذجية، وذلك حتى لا تبعد الصورة عن الرمز. وكان الجانب الإنساني بارزا في تصوير الأم لتأرجحها بين العاطفة والواجب. . والطابع العام في رسم الأشخاص هو الصدق في التصوير والتعبير، والتفكير.
. . . والبناء في مثل هذه المسرحية (الملتزمة) يعد من أصعب الأمور على المؤلف المسرحي، لأنه عامل أساسي في التأثير على المشاهد، ونقل التجربة النفسية إليه وإذا اهتز البناء في يد المؤلف، فالمسرحية أما أن تصبح عرضا مسرحياً، أو تميل إلى الخطب المنبرية. وسنحاول هنا أن نستعرض بناء المسرحية لنرى إلى أي حد وفق المؤلف فيه. .
. . فالمنظر الأول يمثل حياة الأسرة في الإسماعيلية. . ولقد بدأه المؤلف بداية مثيرة ليغمر المشاهد في الجو العام للمسرحية. . فابرز عادل وأعوانه يتآمرون في الظلام على جنود الاستعمار. . واستخدم التعارض بين موقف الأم والأب بالنسبة لابنهما في جذب انتباه المشاهد، وتسليط الأضواء على السر الذي يطويه عبد الرازق. . وفي نهاية المنظر جعل عبد الرازق يفصح عن السر في تشجيعه لابنه على محاربة الإنجليز. . فبدأ انتباه المشاهد يتجه إلى التفكير في العلاقة التي بين عبد الرازق وبين دنشواي. . وأصبح مشوقا إلى معرفتها. .
وفي المنظر الثاني يتغير الجو. . والزمن. . والأحداث. . ويرى المشاهد أشخاصا غير الأشخاص الذين رآهم في المنظر الأول. . وقرب منتصف المنظر يبدو عبد الرازق في ثوبه الريفي. . فيسترعي النظر لاختلاف حالته في الإسماعيلية عن حالته في دنشواي. ويصور المؤلف بدء العلاقة بين عبد الرازق ورزقة. . وقرب ارتباطهما بالزواج. . ثم يمهد المؤلف للمأساة حتى لا يفاجأ بها الجمهور. . فيذكر على لسان أحد الأشخاص أن فرقة إنجليزية عسكرية بالقرية. . ثم يأتي جندي البوليس فيخبرنا بان الجنود يصطادون الحمام. . ثم يشب الحريق في أحد الأجران. . ثم يضرب المؤلف ضربته الأخيرة فيعرض أحد الجنود وهو يصطاد الحمام فيخطئ الهدف ويصيب أم محمد. . وفي هذا المنظر كان المؤلف موفقا في مسرحة الحادث التاريخي، فجاء مشوقا كامل البناء. .
. . أما منظر التحقيق الذي أجراه المفتش الإنجليزي فيصور فيه الصراع في المأساة بين أهل القرية وممثل الاستعمار. . ولقد أعتمد المؤلف في تجسيم هذا الصراع على تصوير التعارض بين الصورة الحقيقية للحادث التي رآها المشاهد في المنظر السابق، وبين الصورة الباطلة التي يصورها ممثل الاستعمار. . وتصل المأساة إلى الأوج عندما نعلم أن المشانق قد أعدت قبل المحاكمة. . وفي هذا المنظر يبرز المؤلف العلاقة بين عبد الرازق والزوجة وبين الحادث. . فالأول أحد المتهمين الذين فروا. . والثانية ابنة أحد المتهمين الذين اعدموا. . ومن هذه الزاوية ربط المؤلف بين الحاضر والماضي، برباط طبيعي. . .
. . . وفي المنظر الخامس. . . يجسم المؤلف اثر المأساة في نفوس أبطال المسرحية. . فعبد الرازق يختفي عن أعين الاستعمار. . ورزقة تبكي أباها الذي أعدم. . ويستغل المؤلف مطاردة البوليس لعبد الرازق في تحريك قلب المشاهد، وينتهي هذا المنظر بنجاة عبد الرازق بعد أن غلب الضابط وطنيته على واجبه. وهذا المنظر يكاد يتكامل في بنائه لولا أن المؤلف أدخل عبد الرازق من أول المنظر، وبهذا قضى على التشويق في المشهد الذي جاء فيه شيخ الخفر ليخبر الأسرة بأنه علم أنه قد قبض على عبد الرازق. . وكنا نفضل أن لا يدخل عبد الرازق إلا بعد خروج شيخ الخفر. . لينتقل الشعور بالقلق الذي أحس به أشخاص الرواية إلى المشاهد. .
. . . والمنظر السادس يصور الجانب الإنساني في حياة عادل والجانب الوطني في حياة فتاة اليوم التي تمثلها سلوى. . وجو هذا المنظر خفيف بالنسبة لجو المأساة المكفهر في دنشواي. . وهو تمهيد للمأساة التي ستنتهي لها المسرحية. . وقد اتخذ المؤلف من زيارة عادل لخطيبته، والطلق الناري الذي سمع بعد خروجه مادته لتحريك المشاهد وجذب انتباهه. . . الا اننا نرى في اخبار عطية لسلوى بزيارة عادل قضاء على عنصر التشويق في هذه الزيارة. وكان من الخير أن يدخل عادل دون هذا التمهيد. . كذلك نلاحظ التكرار في سرد قصة تجاه عادل. . فقد ذكرها والد سلوى. . وذكرها عبد الرازق وكان الأفضل أن يذكرها عبد الرازق فقط. . وكان تتبع عبد الرازق لابنه غامضاً. . فقد قال عبد الرازق في ذلك. . أنه يرى بقلبه. . ويسير وراء ابنه خطوة خطوة. . وكان من السهل على المؤلف تبرير ذلك بان يذكر عبد الرازق أن عطية اخبره بزيارة والده لسلوى. . وبهذا يستقيم بناء هذا المنظر.
. . . والمنظر الأخير من المسرحية يصور قصة اختفاء عادل أثناء هجومه على المعسكر البريطاني. ولقد لعب المؤلف فيه بقلب المشاهد وجعله حائراً بين الأمل في عودة عادل، واليأس من هذه العودة، وكنا نفضل أن تنتهي المسرحية بعودة عادل. وذلك لأن نسف عبد الرازق للمنزل على نفسه وعلى أعدائه كان سريعاً وبعيداً عن الطبيعة. . فكان في مقدوره أن يشعل فتيل الديناميت ويفر مع الذين فروا وبهذا يثأر لنفسه، وينتصر على أعدائه.
. . . ومن هذا العرض يمكننا أن نخرج بنتيجة عامة. . هي أن المسرحية تكاد تكون كاملة من حيث البناء لولا بعض الهنات التي بيناها في مواضعها. . وبهذا وفق المؤلف التأثير على المشاهد بهذه الصورة الحية الصادقة التي تمثل حياتنا العامة بها فيها من آلام وآمال.
ولقد كان المؤلف موفقاً في تصوير الأجواء المختلفة للمسرحية؛ فهو في الإسماعيلية يصور ذلك الجو الرهيب الذي يعيش فيه أهلها. . وفي الريف يجسم في صدق النفسية الريفية بما فطرت عليه من بساطة وبراءة وطهر. .
أما حوار هذه المسرحية فواقعي، بساير في واقعيته البيئات المختلفة للأشخاص. . وكان الحوار مساوقاً للحركة المسرحية، وبهذا خلت هذه المسرحية من النعمة الخطابية التي تغلب على المسرحيات التي تعالج موضوعاً قومياً.
وبعد. . فهذه مسرحية جريئة في موضوعها وبنائها، حاولنا أن نبرز للقارئ خطوطها الفنية. . ومؤثراتها النفسية، ونرجو أن نكون قد وفينا مؤلف هذا العمل الضخم حقه، ليتابع خطواته الفنية الناجحة. ولقد اخرج هذه المسرحية الأستاذ زكي طليمات ولقد حقق بالمناظر الإطار المادي للمسرحية في بيئاتها المختلفة. . مستخدما في ذلك الرمزية في بعض المناظر. . والواقعية المجسمة في البعض الآخر. . ويجدر بنا أن نسجل للمخرج بروزه في منظر الجرن. . حيث بدت المنازل الريفية في بساطتها. . والأفق من ورائها. . وكذلك منظر المشنقة الضخمة. . الذي يمثل طغيان الظالم وتجبره بهذه المشنقة الضخمة. . ولقد أستغل الأضواء في أحياء الأجواء النفسية. . وحرك المجموعات في مشهد المؤامرة، ومشهد الجرن، والمحاكمة في براعة فبدت حركاتها طبيعية.
ولقد برز في مشاهد الريف من الممثلين عبد الرحيم الزرقاني في دور العمدة، ومحمد السبع في دور حسن محفوظ، فقد استطاعا تجسيم الثورة على الظلم من العبارة المحدودة التي أملاها الموقف المسرحي. أما عبد الغني محمد قمر ممثل دور الشيخ محمد فقيه القرية فقد بلغ حد الإجادة في أداء دوره لولا حرصه على جذب المشاهد إليه ولو كان ذلك على حساب الجو العام للمشهد المسرحي
ولقد أجاد عدلي كاسب الذي قام بدور المستر متشل فقد أدى إتقانه لدوره إثارة سخط الجماهير عليه لأنه يمثل السلطة الغاشمة.
أما مشاهد الإسماعيلية فقد برز من ممثليها حمدي غيث الذي قام بدور عبد الرازق، فقد جسم بثورته النفسية المتأججة الثورة العارمة على الظلم، وجاوبته في هذا النجاح والتوفيق السيدة نعيمة وصفي التي قامت بدور الأم. ولعلها وصلت إلى القمة في مشهد إخفاء عبد الرازق في دنشواي.
أما ممثل الدور الأول في المسرحية، نبيل الألفي، الذي قام بدور عادل، فمع أن عمله الدراماتيكي كما حدده المؤلف كان خارج المسرح، إلا أنه ركز مقدرته الفنية وموهبته في المشاهد التي ظهر فيها على المسرح فكان فيها موفقا خير التوفيق
وأخيراً. . . فنحن نرى أنه قد تجلت في هذه المسرحية وحدة المدرسة الفنية. . فقد تعاون أبناء المدرسة الحديثة وعلى رأسهم الأستاذ زكي طليمات على تحقيق التكامل الفني في المسرحية.
أنور فتح الله