مجلة الرسالة/العدد 964/تعقيب:

مجلة الرسالة/العدد 964/تعقيب:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 12 - 1951



الأدب وطلقات المدافع

للأستاذ علي متولي صلاح

ربما كان من أحب التهم إلى نفس الأديب تهمة (شهوة الكلام) الذي تفضل الصديق الكريم الأستاذ محمد عبد الغني حسن فرماني بها! فإن امتلاء النفس بشهوة الكلام وجيشان المعاني في صدر الإنسان واحتدام رغبته في أن يكتب ويعبر. . . هي الدلالة الصادقة على أنه الأديب حقا، فما بالك إذا كان ذلك منه للرغبة الخالصة في الدفاع عن الكتابة والأدب؟ وما بالك إذا كانت شهوته هذه لم تواته في المواسم والأعياد وحفلات الوداع والاستقبال وما إلى ذلك! وإنما واتته لدفع تهمة خطيرة عن الأدب وقيمته وأثره في حياتنا الراهنة؟ وعلم الله ما أردت تجريح الصديق الكريم ولا الزراية به، فله عندي حرمة الصديق القديم. ولكن ها لني أن يكيل الأستاذ التهم للأدب كأنه له العدو المبين! ها لني أن يرى الأدب عملا (غير جدي) كما يقول وها لني أن يحمد الأستاذ في أمته (الأفعال لا الأقوال) كما يقول أيضاً، وها لني أن يكون رأيه في الأقوال هكذا:

هذه الأقوال لا تحمى شهيدا ... من ضحايا الحق أو تشفي أواما

أطلقوا المدفع. . لا حنجرة ... وارجعوا للسيف في الحق احتكاما

وها لني أن ينادي - وهو الكاتب - في الناس بهذه الأقوال:

لا تردوا عنكموا غدر الأعادي ... بالعبارات نثارا ونظاما

الكلام اليوم لا يحمى حقوقا ... والبيان اليوم لا يرعى ذماما

وكانت الطامة الكبرى عندي أن يقول (. . فنحن اليوم إلى سلاح صوال، احوج منا إلى لسان قوال)!

ها لني ذلك وخشيت أن يتأثر به بعض ذوي العقول الساذجة من الناس، فملكتني (شهوة الكلام) لأصحح هذا الوهم ولأدفع هذا الظن، ولأبين للناس أن الأدب هو الذي يطلق المدافع ويسوق الجيوش ويحرك الجحافل، وان الأدب هو الذي يستنهض الهمم ويشحذ العزائم، وان الأدب هو الذي يحمي الحقوق ويرى الذمام ويرد غدر الأعادي. . أردت هذا فانبرى الصديق الأستاذ محمد عبد الغني حسن يعقب على كلامي بسلسلة متصلة من التهكم اللطيف لا تمس هذا الموضوع من قريب أو من بعيد!

ولكنني - برغم هذا - حمدت للأستاذ الصديق رجوعه إلى الحق وأعترافه بأنه (لا ينكر خطر (الكلمة) وفعلها في النفوس وأثرها في العواطف) ولكنني رأيت الأستاذ يستشهد على خطر هذه (الكلمة) فيقول (أليست الكلمة هي من روح الله التي تجلت للجبل أمام موسى الكليم فجعلته دكا وخر موسى صعقا؟ أليست الكلمة هي التي أوحت إلى النحل أن تسلك سبل ربها ذللا فتأكل من كل الثمرات ثم تلفظها شهدا شهيا فيه شفاء للناس؟) فلم أستطع - والحق يقال - أن أتبين علاقة هذين الأمرين بما نحن بصدده من بيان خطر الأدب والكتابة وأثرهما في الحياة! أما الأولى فهي أن موسى عليه السلام طلب أن يرى الله وقال (رب أرني أنظر إليك قال أن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن أستقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) فلا أدب هنا ولا أدباء ولكن الله تعالى أراد أن يعلم موسى أنه طلب أمرا عظيما حين طلب رؤيته فدك الجبل به وبمن طلب الرؤية لهم معه وخر موسى صعقا (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين). وأما الثانية فهي هداية من الله للنحل والهام لها بقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) فلا أدب هنا ولا أدباء أيضا، ولكنه وحي والهام من الله وآية على قدرته، فما إقحام هذين الأمرين في موضوع تأثير الأدب في الحياة ومدى فعله فيها؟

وأستشهد الأستاذ على تفاهة قدر القلم بالبيت الشهير الذي يحفظه التلاميذ جميعا وهو:

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب

ولا أدري كيف غاب عن الأستاذ الصديق أن أبا تمام لم يكن في هذا البيت يكتب موضوعا إنشائيا جميلا لطلاب المدارس (على حد تعبير الأستاذ الفاضل) يوازن فيه بين السيف والكتاب، ولكنه كان يفند أقوال المنجمين الذين أشاروا على الخليفة (المتوكل) إلا يخرج للحرب في يوم من الأيام لتطهيرهم منه وتوقعهم له الهزيمة والفشل في ذلك اليوم، فلم يستجب الخليفة لتنجيمهم ومضى إلى الحرب فكان الفائز المنتصر! فابتدره أبو تمام بقوله: (السيف أصدق أنباء من الكتب) أي من المنجمين! ويعترف صديقنا بان صديقته لم تكن (كفرا بالأدب ولكنها في الحق كفر بالخطب وكفر بالمقالات والكتب) كما يقول، ولا أدري أيريد الأستاذ بذلك أن يقول أن الخطب والمقالات والكتب ليست من الأدب في شيء؟ أن كان الأمر كذلك فتلك هي الآفة الكبرى التي أجل أدب الأستاذ وفهمه عنها! فإن الخطب والمقالات والكتب هي أشياء من صميم الأدب وبخاصة في مقام الاستحثاث والاستنهاض الذي نحن بصدده!

ولا أدري يا صديقي كيف وأنت تزعم قراءة عصور الأدب الفرنسي والإنجليزي جميعها إذ تقول (لقد قرأت من زمان طويل ما قاله (هازلت) فنازلا و (سارتر) فصاعدا. . ولعلك خبير بتسلسل هذه العصور في فرنسا وإنجلترا) لا ادري يا صديقي أي شيء يكون (صاعدا) بعد سارتر؟ والذي اعلمه علم يقين أن ليس بعده شيء! وانه حي يرزق! وانه لا يزيد عمره على عمرك المبارك إلا قليلا، وان مذهبه - واعني به الوجودية - هو آخر المذاهب الأدبية التي اعتورت الأدب من عصوره اليونانية القديمة إلى يومنا هذا! وهو مذهب تتفتح بوا كيره ولم يعم انتشاره بعد!

يا أخي: أن الأدب - رضيت أو لم ترض - هو الحركة الأولى لكل شيء في الحياة. وكل ثروة حربية إنما سبقتها ثورة أدبية مهدت لها وأدت اليها، والكلام في هذا يطول والشواهد عليه لا تحصى، فأما أن تقول كلاما في الموضوع وأما أن تتقبل تحيتي وسلامي!

علي متولي صلاح