مجلة الرسالة/العدد 965/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 965/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
موقفنا من الاتحاد السوفيتي
في الحرب العالمية الأخيرة، جاء يوم وقفت فيه بريطانيا وحيدة بلا حليف، وحيدة بلا صديق، وحيدة بلا قوة. . حليفتها فرنسا - تلك التي تستأسد اليوم في مراكش - أنت في ذلك الوقت قد ركعت على قدميها أمام جحافل الألمان. بالفترة التي استغرقتها الدولة (العظيمة) لتركع، فكانت طويلة جدا في حساب الزمن وحساب التاريخ. . كانت سبعة عشر وما كما (يزعم) المؤرخون أو صديقتها أميركا - تلك التي ناصر الحرية اليوم في كوريا - كانت في ذلك الوقت قد التزمت خطة الحياد المزيف، عملا بموقفها (الخالد) من حرية الشعوب! القوة التي كانت تعتز بها بريطانيا وتفخر، تلك التي كم أخمدت أصوات الكرام وأخضعت رءوس السادة، كانت هي الأخرى قد تبعثرت أشلاؤها تحت مخالب النسر الألماني في كل مكان!!
في ذلك اليوم الذي خسرت فيه بريطانيا كل حليف وفقدت كل صديق، وسلبت كل قوة. . راح ونستون تشرشل - كلب الإمبراطورية العجوز - راح يتطلع في حيرة اليائس إلى كل أفق يمكن أن تشع منه ومضة أمل تضيء في نفسه مسارب الرجاء. . ولم يطل بأسه ولم تطل حيرته، فقد أقبلت الفرصة المنتظرة التي أتاحت للكلب أن يسترد أنفاسه اللاهثة، وأن يلعق جراحة النازفة، وأن يرفع رأسه من الأرض ليثبت من جديد أنه قادر على النباح!!
أقبلت الفرصة المنتظرة حين أقدمت روسيا على خوض غمار الحرب. . وانتهزها الكلب العجوز لا ليعترف بالجميل ولا ليذكر الفضل، بل ليطالع العالم بوجهه الصفيق ويقول: في سبيل القضاء على العدو المشترك، أرى لزاما على أن أضع يدي في يد الشيطان. . لقد كان الشيطان الذي يعنيه هو روسيا السوفيتية، وبفضل هذا الشيطان وحده استطاع أن يتجنب الهزيمة، وأن يقود أمة اللصوص نحو النصر!!
أليس موقفنا اليوم شبيها بموقف بريطانيا بالأمس؟ إنه يشبهه من كل الوجوه. . إننا نقف وحدنا بلا حليف، وحدنا بلا صديق، وحدنا بلا قوة، اللهم إلا قوة الإيمان بحقنا في الحياة! إننا - نحن أبناء الشمال والجنوب - قد قدر لنا أن نواجه العدو المشترك وفي سبيل القضاء عليه، لماذا لا نضع أيدينا في يد الشيطان؟ الحقيقة المرة هي أننا لا نزال نتحرج، ولا نزال نتردد، وأننا لا نثق كثيرا بمنطق التاريخ. . التاريخ الذي ينحني لنا في أسف، ويقول لنا في صدق، وعلى شفتيه ابتسامة رثاء: مساكين. . إن (شيطنة) روسيا ما هي إلا أسطورة ضخمة من صنع المخيلة البريطانية. . أسطورة صدقتموها لأنكم أمة تعيش على الأساطير!!
لو كنا نثق بمنطق التاريخ لما خدعنا منطق اللصوص. . لما تحرجنا من مصافحة الشيطان وقد صافحوه، لما ترددنا من محالفة الشيطان وقد حالفوه، لما وقفنا وحدنا نتطلع إلى الصديق ولا صديق! إن هذا الشيطان إذا لم تحني الذاكرة، قد ناصرنا مرة حين لجأ النقراشي إلى مجلس الأمن، وناصرنا مرة أخرى حين لجأ صلاح الدين إلى هيئة الأمم، وناصرنا مرة ثالثة حين لجأت الوفود العربية إلى تلك الهيئة لتعرض عليها قضية مراكش؛ ومع هذا كله فنحن لا نزال متحرجين ومترددين: نعرض عن المودة الروسية والصداقة الروسية، لأنهما في رأي عشاق الأساطير من رجس الشياطين!!
يا حضرات السادة، يا حضرات الزعماء، يا من بيدكم مقاليد الأمور في هذا البلد: فكروا مرة، مرة واحدة في محالفة الشيطان! أقسم لكم أن الشيطان لم يحتل بلادنا، ولم يسرق أقواتنا، ولم يسفك دماءنا، ولم يهدم بيوتنا، وإنما الذي احتل وسرق وسفك وهدم. . هم (الملائكة)!!
الشعر المرسل أو الشعر المنثور
شاع في هذه الآونة لون جديد من ألوان الأدب، أخذت تقدمه لنا الصحف والمجلات الأدبية باسم (الشعر المنثور) تارة وباسم (الشعر المرسل) تارة أخرى!
ولست أدري والله معنى هذين التعبيرين، وما هو المقصود بهما! وأية متعة فنية أو أدبية يجنيها الإنسان من قراءة كلمات متناثرة هنا وهناك، تفصل بينها النقاط الكثيرة، وعلامات التعجب والاستفهام، دون أن يربط بينهما رابط من اللفظ والمعنى فما هي إلا أفكار مشوشة مضطربة، وخواطر غريبة متنافرة لا تجمع بينها وحدة الفكر، ولا وحدة القافية!
أنا لا أستطيع أن أفهم أن هناك (شعرا منثورا) بل الذي أفهمه أن هناك شعرا له أصوله وقواعده وقيوده، وأن هناك نثرا له مقاييسه الخاصة به، وله صفاته التي تميزه عن الشعر. . فما هذا الخلط؟ وما هذه الفوضى الأدبية؟
لقد غفرنا لأولئك الأدباء الذين ينقلون إلى العربية روائع الأدب العالمي تحررهم من تلك القيود التي يخضع لها الشعر العربي، بغية المحافظة على روحية الشاعر ووحدة فكرته التي يهدف إلى عرضها للقارئ بأسلوب فني ووفق نظام بديع. ولكن ما الذي يدعونا إلى التماس المغفرة لهؤلاء الأدباء أو (المتأدبين) الذين جاءوا بهذه (البدعة) الأدبية الجديدة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز عن الإبداع الفني، وقصور عن إدراك ذروة الجمال في التعبير الشعري الذي يجب أن يخضع للأسلوب الفني المنظم!
أرجو من الأستاذ الناقد إفادتي برأيه في هذا الموضوع مع بيان تأثير هذه البدعة على الشعر العربي الحديث.
(بغداد)
منير آل ياسين
أنا مع الأديب العراقي الفاضل في هذه الآراء التي يبديها حول الشعر المرسل أو الشعر المنثور، ذلك لأني لست من أنصار (الشعوذة) الفكرية و (البدع) الأدبية التي يسميها الفاشلون فنا والفن منها براء. . ولو رجع الأديب العراقي إلى كتاب (نماذج فنية) لوجدني أؤيده كل التأييد فيما ذهب إليه، حين ينعت التحرر من بعض القيود في الفن بأنه (الفوضى) الناتجة عن عوامل العجز والقصور! هذا حق لا شك فيه، وأية متعة فنية أو أدبية يجنيها الإنسان كما يقول، من قراءة كلمات متناثرة هنا وهناك، تفصل بينهما النقاط الكثيرة وعلامات التعجب والاستفهام، دون أن يربط بينها رابط من اللفظ والمعنى؟
إنه سؤال يوجهه إلى الأديب العراقي، وأعود إلى بعض ما قلته بالأمس حول مشكلة القيود في الفن لأقدم إليه هذا الجواب: (إن تحرير الفن من كل قيد معناه الحرية المطلقة وإن الحرية المطلقة ليست هي الجمال الذي نتطلع إليه. . إننا حين نفرض القيود على الفن فإنما نفرضها بغية أن نبث فيه روح النظام وما هو الجمال في الفن إذا لم يكن هو الجمال على التحقيق؟ وحين نرفض الحرية المطلقة فإنما نرفضها خشية أن نبث فيه روح الفوضى، وما هو القبح في الفن إذا لم يكن هو الفوضى بلا جدال؟ لابد إذن من قواعد وأصول حين نحتاج في (تنظيم) الفن إلى تلك القواعد والأصول، ولا بد إذن من القيود التي تقررها المقاييس النقدية لتحديد القيم الجمالية!. . إن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكة التي نسيمها (ملكة التنظيم) وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه، كل فن يخلو من عمل هذه الملكة لا يعد فنا، بل هو (فوضى فكرية) أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. . إننا ننشد النظام، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن!
هذه الكلمات الموجزة يستطيع الأديب العراقي أن يخرج منها بما يؤيد وجهة نظره حين يقول (إن الشعر المنثور ما هو إلا أفكار مشوشة مضطربة، وخواطر غريبة متنافرة، لا تجمع بينها وحدة الفكر ولا وحدة القافية. . أنا لا أستطيع أن أفهم أن هناك شعرا منثورا، بل إن الذي أفهمه أن هناك شعرا له أصوله وقواعده وقيوده، وأن هناك نثرا له مقاييسه الخاصة به، وله صفاته التي تميزه عن الشعر، فما هذا الخلط، وما هذه الفوضى الأدبية)؟
هذا رأي جميل، وإنه ليذكرني بذلك الرأي الذي عقبت به يوما على سؤال لأحد الأدباء العراقيين، حين تعرض لقيود القافية في فن الشعر ذاهبا إلى أنها تحد من حرية الشاعر، لأنها كثيرا ما نسوقه مرغما إلى كلام لم يقصد إليه ولم يهدف إلى معناه. . لقد قلت يومئذ وأنا في معرض الجواب حيث يغني الإيجار عن كل إطناب: (بقى أن أقول للمحامي الأديب في مجال الرد على ما أورده حول قيود القافية في فن الشعر، إن هذه القيود كما عرض لها حق لا شك فيه؛ من ناحية أنها تفرض على الشاعر لونا من التعبير قد لا يرتضيه. ولكن الأستاذ قد نسى أن تلك القيود لازمة من لوازم الشعر ليكون شعرا، له ذلك القالب الفني الذي يميزه عن قالب النثر، ويشير إلى ما بين القالبين من فروق)!
بعد هذا أنتقل إلى السؤال الأخير في هذه الرسالة المتزنة الواعية لأقول: لا خطر في رأي من هذه البدعة على الشعر العربي الحديث، لأن أصحابها لا وزن لهم عند من يفهمون رسالة الفن على وجهها الصحيح، ويحددون لها الغاية ويرسمون الطريق ويقررون المصير. . لا وزن لهم مهما شجعتهم على مثل هذه (الشعوذة) صحف تزعم أنها تحمل مشعل التجديد، وهي في الواقع تظلم التجديد كل الظلم حين تنظر إليه في ضوء هذا الفهم السقيم!!
حول مسرحية (دنشواي الحمراء):
أريد أن أعرض عليك مشكلة لست أدري ماذا يكون صداها لديك، ولدي القائمين بشئون المسرح العربي!. . كنت ضمن النظارة الذين شاهدوا المسرحية الوطنية الكبرى (دنشواي الحمراء)، فلاحظت أن الستار يسدل عقب انتهاء كل منظر من مناظر المسرحية العديدة والأنفاس معلقة. . ثم لا يلبث أن يرفع مرة أخرى فإذا بالمثلين قد أحنوا قاماتهم لجمهور النظارة الذي ألهب أكفه بالتصفيق إعجابا بفنهم الرفيع.
هذا أمر طبيعي، لأن الممثل يجد لنفسه صدى يتمثل عنده في تصفيق الجمهور وإعجابه ومشاركته له مشاركة تامة في كل ما يحس من عواطف وانفعالات. . ولكن هنا المشكلة! إن أفكار النظارة الفردية تتحطم في المسرح وتستحيل إلى أفكار جماعية، فالانفعالات والاحساسات تسري في الجميع ويصير (الكل في واحد) كما يقول (نشيد الموتى). . ولكن رفع الستار مرة أخرى بعد إسداله عقب انتهاء كل منظر، يؤدي إلى (اللانفعالية) المفاجئة لدى النظارة، مما يحول بينهم وبين التعاطف والاندماج في اللحظة التي أوشك أن يتم فيها التعاطف والاندماج، فإذا بالجمهور لم ينظر إلى ما عرض على خشبة المسرح نظرة الجد بل أخذ يضحك بشكل أزعجني! إن الجمهور في ذلك معذور يا سيدي، لأن رفع الستار قد قضى على طاقته العاطفية أثناء التمثيل وأحالها فجأة إلى حالة طفيلية ذات وجود مستقل، وبهذا يفقد المسرح في رأيي عنصره الأصيل وهو التأثير المباشر! أليس كذلك، أم أنا مغال فيما أقول؟
إنني في انتظار رأيك، وتقبل إعجابي واحترامي
(القاهرة)
محمد رفعت الدوباني
كلام الأديب المصري الفاضل صحيح لا غبار عليه، ولقد شهدت هذه المسرحية وغيرها من المسرحيات ورأيت بعيني هذا الذي يقع على المسرح ويقدم عليه الممثلون. إنها (تقليعة) لا أستطيع أن أرضي عنها ولو رضى عنها ذلك الرجل الذي أقدره دون أن أعرفه، وأعني به الأستاذ زكي طليمات!
لقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية ساخطة على ذلك الممثل الذي بدور المستشار الإنجليزي المحقق في قضية دنشواي، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت إلى النقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد لينحني المستشار (الإنجليزي) تحية لجمهور النظارة من (المصريين). . ولقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية حزينة على (أم محمد) التي خرت صريعة برصاص الجنود الإنجليز، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت هي الأخرى إلى النقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد وظهرت (الشهيدة) في أحسن صحة وأكمل عافية، لتحي (الباكين) عليها (والمحزونين). . ولقد كان الجمهور مثلاً في حالة شعورية تتدفق إعجابا وحماسة وهو يرى (عبد الرزاق) وقد نسف البيت مضحيا بحياته، مادام هذا النسف سيودي بحياة عدد من جنود الاحتلال، ولكن تلك الحالة الشعورية قد انقلبت المرة الثالثة إلى نقيض حين رفعت الستارة بعد انتهاء المشهد، وبدا الفدائي (الصريع) واقفا على قدميه ليقدم شكره الخالص لحضرات (المفجوعين). . وهكذا كنت أرى تلك (التقليعة) المضحكة وهي تتكرر على خشبة المسرح وتقضي على كل عنصر من عناصر الإثارة النفسية!
إن مثل تلك الحركات البهلوانية كفيلة بهدم ذلك التجاوب الشعوري بين الممثل والمشاهد، وبالقضاء على الواقعية الفنية في العمل المسرحي حين نخرجه في الإطار المادي الذي نهدف من ورائه إلى التأثير في الجماهير. . إن وظيفة المسرح هي أن ينقلنا من عالم الخيال إلى عالم الواقع، هي أن يخدر مشاعرنا ذلك التخدير الذي نحس معه أن هذه الساحة الضيقة التي يتحرك فوقها الممثلون، قد استحالت إلى تلك الساحة الرحيبة الأخرى غير المحدودة، وأعني بها ساحة الحياة. . ترى هل يحتمل منطق تلك الساحة الأخيرة أن ينحني الإنجليز للمصريين، وأن يستيقظ الموتى من رقدة العدم دون أن يحدد الله موعد البعث والنشور؟
إن الجواب متروك للرجل الذي أقدره وأقدر جهوده في خدمة المسرح. . زكي طليمات! أنور المعداوي