مجلة الرسالة/العدد 967/الهازلون في وقت الجد!
مجلة الرسالة/العدد 967/الهازلون في وقت الجد!
للأستاذ أنور المعداوي
في ليلة السبت 5 يناير عام 1952 سهرت السويس حتى الصباح، وكذلك سهرت القاهرة. . كانت السويس البائسة تضج بالألم وهي تستمع لصوت الرصاص وكانت القاهرة السعيدة تفيض باللذة وهي تستمع لصوت أم كلثوم! كان هناك مأتم وكان هناك عرس. كانت هناك دماء وكان هناك غناء. . السويس والقاهرة إن لم تكن تعلم قطعتان أصليتان من أرض مصر، مصر التي يقال عنها إنها تنظر إلى المأساة بعين واحدة، وتتلقى أنباءها بشعور واحد!
في تلك الليلة، ليلة السبت 5 يناير عام 1952، كان المجاهدون من أبناء السويس وحدهم في المعركة، يواجهون قوى الشر والغدر والطغيان. . دماؤهم فوق أسنة الحراب، وأجسادهم تحت أقدام اللصوص، وعيونهم أبدا إلى الأفق البعيد! أما القاهرة فقد تلقت الأنباء المفجعة في الساعة الثامنة والنصف، ومع ذلك فقد بدت في الساعة التاسعة والنصف وكأنها لم تسمع شيئا ولم تشعر بشيء. . وأعذروها فقد كانت في غمرة الطرب ونشوة الأنغام، كانت تنصت لأم كلثوم وتصفق لأم كلثوم!
ماذا يقول الناس عن هذه العاصمة السعيدة المرحة التي لا تعرف الحياء؟ العاصمة التي لا يضيرها أن تطرب وهناك من يئن، وأن تسعد وهناك من يشقى، وأن تضحك وهناك من يبكي، وأن تحيا وهناك من يموت؟!
شهيد واحد من شهدائنا تستقر في رأسه مائة رصاصة. . ترى هل استحالت الرؤوس في نظر الأنذال إلى حصون وقلاع؟ إن تلك الرصاصات المائة لكفيلة بأن تشعل في النفوس نار الأسى على الشهيد الذاهب، ونار الحقد على العدو الظالم، ونار التطلع إلى انتقام سريع. . إنها لكفيلة بأن تقض المضاجع، وأن تؤرق الجفون، وأن تجعلنا ساهرين حتى الصباح! ولقد فعلنا ذلك منذ أيام. . غنت كوكب الشرق، وصفق السكارى والمعربدون، واشتركت في المهزلة محطة الإذاعة الحكومية، تلك المحطة التي لا يشرف عليها غير أصحاب الثقافة القاصرة والشعور البليد!
ترى هل قدر لمدن القنال أن تعيش وحدها في الجحيم، وأن تحمل وحدها العبء الفادح، وأن تخوض وحدها غمار المعركة، دون أن يجد أهلها من يشاركهم في الشعور إن لم يقاسمهم المصير؟ لقد كنت أنتظر حين تجرح بور سعيد أن تضمد جراحها الإسكندرية، وحين تبكي السويس أن تكفكف دموعها القاهرة، وأن تؤلف بين نفوسنا وحدة الدم وأن تربط بين قلوبنا صرخة الوطن، في هذا الوقت الذي نوجه فيه سطو اللصوص على كل ما نملك من رصيد الشرف والكرامة. . كنت أنتظر هذا كله وما هو أكثر منه، ولكن القاهرة الماجنة قد نقلتني من عالم الخيال الجميل إلى عالم الواقع الدميم، حين أرسلت ضحكاتها الصاخبة عبر الفضاء لتحبى بها أنين الضحايا على ضفاف القنال!
إن الدم ليفور في عروقي وأنا أبحث عن الرجل الذي يملك سوط الجلاد فلا أجده، الرجل الذي يلهب ظهور اللاهين في ساعة الجد، والعابثين في وقت الشدة، والهازلين ورحى المعركة تدور. . أين هذا الرجل ليرد أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب الغفلة إلى الوعي، وأين سوطه ليعلم أصحاب المجون معنى الوقار؟! ما أشد حاجتنا إلى هذا الرجل ما دام الذوق قد تحجر، وما دام الحس قد تلبد، وما دام الضمير قد مات!!
لو وجد هذا الرجل لما امتلأت القهوات بالفارغين، ولما ازدحمت الشوارع بالمتسكعين، ولما ضاقت الأندية على سعتها بالرقعاء من لاعبي القمار. . لو وجد هذا الرجل لساق هؤلاء جميعا إلى هناك إلى تلك البقعة المجاهدة ليتلقوا في رحابها الدروس، دروس العزة والبذل والتضحية وإنكار الذات! لو وجد هذا الرجل لساقهم سوق العبيد ليفهموا معنى الحرية، ولأخذهم أخذ الأذلاء ليدركوا شرف الكرامة، ولأيقظهم بصوت القوى القاهر من هذا السبات العميق!!
إنهم في هذه المحنة القاسية وفي هذه اللحظة الحاسمة، محتاجون حقا إلى من يقنعهم بأن زمن اللهو قد انقضى وبأن وقت الهزل قد فات، ولن يقنعهم على التحقيق غير شيء واحد هو سوط الجلاد. . وما أشد افتقارنا إليه في مثل هذه الأيام!
أنور المعداوي