مجلة الرسالة/العدد 968/القصص

مجلة الرسالة/العدد 968/القصص

ملاحظات: بائعة الكبريت الصغيرة Den lille Pige med Svovlstikkerne هي قصة قصيرة بقلم هانس كريستيان أندرسن نشرت عام 1848. نشرت هذه الترجمة في العدد 968 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 21 يناير 1952



البائعة الصغيرة

للكاتب الدانمركي هانز أندرسون

كان البرد يشتد، والثلج ينهمل، والظلام يحلو لك، والليل يسدف لينبلج عن صبح عام جديد. وكانت تضرب في بهمة الليل وصبارة القر فتاة حاسرة الرأس عارية القدمين: كانت تنتعل خفين عندما غادرت منزلها، ولكنهما كانتا واسعتين فقد كانتا قبل لأمها، وبينما هي تعبر الطريق أمام عربتين مسرعتين أضاعت خفيها. فأما الأولى فلم تجد لها أثراً، وأما الأخرى فقد خطفها طفل وجرى. فراحت الطفلة تجوب الطرقات وقد تعرت قدماها، واحمرتا من برد وازرقتا. وكانت تحمل في جيب ثوبها العتيق حزماً من الثقاب، وفي يسراها حزماً، وقد أدبر النهار وما باعت منها شيئاً، ولا حصلت ليومها فلساً.

كانت تقضقض من البرد وترتعد من الجوع، وتسير متحاملة على نفسها تجر قدميها جرا. . . كانت صورة من التعاسة تلك الفتاة المسكينة! وقد تغطي بالثلج شعرها الأصفر المسترسل الجميل، وتدلت منه خصلات ناست على جيدها الأبيض الناصع. ولكن تلك الفكرة لم تكن لتطيف بذهنها إذ ذاك؛ فقد كان النور يشع من النوافذ، ورائحة الإوز المشوي تفوح في الفضاء مؤذنة بميلاد عام جديد. فانتبذت ركناً منزوياً فجئت على ركبتيها، وتقبعت في مكانها، والبرد يسري في أعضائها قارساً لذاعاً. ولكنها لم تكن لتجرؤ على الذهاب إلى منزلها، وما باعت من ثقابها شيئاً، فعصا الأب نترقب، وسقف البيت مهدم خاو تعبث به الريح، ويصفر فيه الهواء.

كان البرد يخدر يديها الصغيرتين، فتفكر في عود من الثقاب تأخذه من الحزمة، فتشعله في الحائط، فتدفئ يديها على لهبه وما تمالكت أن فعلت فأضاء العود بلهب ساطع كنور الشمعة، فخيل للفتاة أنها جالسة إزاء موقد ذي ألوان، له قاعدة من نحاس وغطاء من نحاس لامع. ما أجمل النار تبعث الدفء في الأطراف، والطمأنينة في النفس! ولكن اللهب الضئيل لم يلبث إلا قليلاً حتى خبا، فتبخر في الهوى موقدها النحاسي اللامع، ولم يبق بيدها سوى رماد العود المحترق. فأشعلت عوداً ثانياً، فالتهب فوقع نوره على الحائط، فصيره كقناع شف استطاعت أن ترى الحجرة من خلاله. رأت مائدة بسط عليها قماش أبيض صفت عليه آنية العشاء، وتوسطته إوزه مشوية يفوح منها بخار له نكهة وطيب، ويملأ جوفها تفاح وبرقوق مجفف. ثم يا للعجب! لقد قفزت الإوزة من الطبق وتهادت على أرض الحجرة ثم أقبلت على الطفلة وفي صدرها شوكة وسكين! ثم انطفأ العود فلم تبصر الفتاة إلا حائطاً رطباً سميكاً بارداً، فأشعلت عوداً ثالثاً فإذا هي جالسة تحت شجرة جميلة من أشجار عيد الميلاد تشتعل على أوراقها آلاف من الشموع، فتغمر بنورها صوراً ملونة جذابة كتلك التي كانت تراها في المكتبات، فمدت الفتاة يديها نحوها فانطفأ العود، وارتفعت أنوار عيد العام، فرأتها الفتاة نجوما في السماء، سقط أحدها فرسم خطاً طويلاً من النار، ففكرت الفتاة الصغيرة: الآن يموت أحد. فكذاك علمتها جدتها العجوز التي درجت إلى القبر وما كان للطفلة غيرها يحبها ويرعاها. وأشعلت الفتاة عوداً رابعاً، فسطع النور مرة أخرى، فتمثلت لها جدتها تشع نوراً وحناناً. فصاحت الطفلة: (جدتاه، خذيني معك، سوف تذهبين إذا ما خبا نور الثقاب، ويزول طيفك الحبيب مثلما ذوت النار الدافئة، والإوزة الشهية، وشجرة عيد الميلاد)، وأقبلت على الثقاب تشعله كيلا تذهب جدتها، فتلهب بنور أسطع من الشمس وضحاها، وتتمثل لها جدتها أبهى مما كانت وأجل. ثم أقبلت الجدة على الطفلة فاحتضنتها، وطارت بها في عالم البهاء والسرور، وحلقت بها في السماوات العلى، وحملتها من الأرض حيث لا برد ولا جوع.

غير أن الطفلة كانت تجلس في ركنها، مستندة إلى الحائط واحمرت وجنتاها، وانفجرت شفتاها عن ابتسامة سعيدة. هناك كانت ترقد أيبسها القر، وقد احترقت علبة من ثقابها، فقال الناس: (لقد أرادت أن تدفئ نفسها) وما علم الناس أي جمال رأت، ولا بأي احتفال حملت إلى السماء ليلة العيد. . .

ش. ع