مجلة الرسالة/العدد 968/المسرح والسينما
مجلة الرسالة/العدد 968/المسرح والسينما
المسرح استثارة الواقع. . وليس الواقع. .
للأستاذ زكي طليمات
إنه موضع نظر، ما ذكره الأستاذ الدوياتي وتفضل بالتعقيب عليه محبذا الأستاذ أنور المعداوي، وذلك بشأن مرسم من مراسم العرض التمثيلي، وهو رفع الستار بعد هبوطه في نهاية كل فصل من فصول المسرحية، إذ يقف الممثلون يحيون الجمهور المصفق ويردون تحية إعجابه بما يناسبها من إبداء علامات الشكر والامتنان، هذا المرسم الذي وصفه كل من الأستاذين بأنه خروج على الواقع وأنه يعمل على هدم التجاوب الشعوري الذي يسود الممثل والمشاهد.
حق أن هذا الموضع نظر، بل إنها لمسألة شائكة يتجدد فيها القول ويطول، كلما حلا لنا أن نغلو في مهمة المسرح من حيث النقلة التي ينقل إليها الجمهور المشاهد بوساطته، فنأبى إلا أن نطالب المسرح بأن يقدم لنا صورة من الواقع تتجسد في الإطار المادي للمسرحية وفي شخوصها.
تقليد مسرحي سائد:
أما عن هذا المرسم، وإن شئت فقل هذه الحالة الشكلية التي يتخذها ممثلو المسرحية استجابة لتصفيق الجمهور، فأقول أنه لا حيلة للمسرح المصري في الأخذ بها، لأنها وليدة تقليد مسرحي صاحب العرض التمثيلي منذ أن أقام الرومان - وليس الإغريق - ذلك الستار الذي يفصل بين المسرح ومكان النظارة، والذي يهبط بانتهاء كل فصول المسرحية، وقد ساير هذا التقليد العرض التمثيلي في جميع مراحل نموه وتطويره حتى اليوم.
فإذا صح أن نطلق على هذا التقليد اسم (تقليعة) لنبوه عن المعقول، كما يذهب الأستاذ المعداوي - والمعقول مسألة نسبية تتفاوت درجات وتتباين مقاديره بتباين وجهات النظر إلى الشيء الواحد - إذا صح هذا لدى بعض النقاد الذين ينشدون الكمال المطلق ولا يبالون بتحميل الأشياء أكثر مما قدر لها أن تحمل وهذا جميل على كل حال لأنه وجهة نظر مثالية - فلن يجعل بنا - نحن رجال المسرح - أن نراه كذلك لأننا أدرى الناس بأ ليس الواقع بحذافيره وإنما هو استثارة للواقع.
أقول إن هذا التقليد، جاء إلينا من الغرب، إذا أننا في مسرحنا. . . ولا سيما في هذه المرحلة، مرحلة النقل والاستساغة واستخلاص الكيان الذاتي لمسرحنا الناش - مازلنا نتبع المسرحي الغربي، وخاصة المسرح اللاتيني. وما أظن أن الأستاذ المعداوي ينكر أن هذا (للتقليد) أو (التقليعة) يجري كل ليلة بأكثر مسارح العالم، وفي دار الأوبرا الملكية حيث تقدم الفرق الغربية الكبرى أعيان المسرحيات في أبرع عرض تمثيلي.
بيد أن واجب إنزال الأمور منازلها الصحيحة يقضى بأن نقرر أن هذا التقليد، قد مظاهر تطبيقية تبعاً للمزاج العام الذي عليه كل أمة، وإن كان لا مفر من الأخذ به.
فأكثر الفرق الإنجليزية من أن يحيي الممثلون الجمهور عقب كل فصل المسرحية، يكتفي بإتيان هذا الأمر مرة واحدة، وذلك في نهاية المسرحية، فنرى جميع ممثلي الرواية كبيرهم وصغيرهم، وقد انتظموا صفاً واحداً، يحيون الجمهور بما يتناسب وحرارة إعجابه وتأثره.
هذا لدى الشعوب الشمالية وهي شعوب تتسم بالمستوى الذهني الرفيع، وبالرزانة العاطفية وبالاعتدال في التعبير. . . ولا أقول (بالبرود).
وإني أميل إلى الأخذ بهذا أجدر بالممثلين وأكرم للجمهور وأحفظ لرواء الفن وليس لأي سبب آخر مما يتصل بهدم الواقع أو سواه، بل لقد أخذت به فعلا في النادر من المسرحيات التي قدمتها في أول عهدي بالإخراج المسرحي، ولكنني لم أوفق إلى إرضاء الجمهور والممثلين، فأقلعت عما أخذت به والأسباب معلومة معرفة. . . ولأعجب. . . فنحن شعب يستخفنا الطرب أيما استخفاف، وتطير بلبنا الهزة لأننا فطرنا على الاستجابة السريعة للبادرة التي يبطنها طبع صاحب حاد.
هذا ما يحضرني قوله في هذا التقليد، وهو تقليد أراه يرتفع إلى مرتبة المراسم، لأنه مستمد من طبيعة فن المثل ومن مزاج الجمهور المشاهد.
فالممثل، وهو عراض ماهر لمختلف المشاعر الإنسانية عن طريق المحاكاة ومحاولة الفناء في شخصية الدور الذي يؤديه يستهويه أن يرى أثر ما يعرضه على الجمهور الجالس أمامه والشاخص إليه بكل جوارحه، بل إن الممثل ليستهوي في أكثر مواقف دوره بهذا الأثر الذي يبديه الجمهور ليتابع أسلوبه في الأداء، أو ليبدل فيه أو ليطرق أسلوباً آخر.
والجمهور بدوره، وقد حضر التمثيل، مغري بأن يستجيب إلى الأثر ينسجه الممثلون عليه، مدفوع إلى أن يبدي إعجابه وعجبه بمن يرى، فكأننا والحالة هذه أمام استجابة حارة متبادلة بين الممثلين والنظارة، فلا حيلة - والأمر ههنا وههنا ما قررنا - أن نغير من طبيعة الممثل والجمهور. وإن صح لنا أن نضع لهذا ولذاك معالم وحدودها بحديث لا يجفوها منطق العرض التمثيلي ولا (معقولية) المرنة السمحة. وقد وضع الأقدمون من فقهاء المسرح هذا العالم والحدود، فجاء هذا التقليد الذي أسلفنا ذكره وأوضحنا مظاهره المختلفة لدى (اللاتينيين) ولدى أهل الشمال.
وأنه ليطيب لي بعد هذا أن أسأل الأستاذ المعداوي، وأن أسأله مخلصاً - لأنني أحب دائماً أن نعلم - أسأله ما الذي يقترحه في هذا الصدد. هذا مع اعترافي بأنني لم ولم أسمع أن هناك تقليدا مسرحيا يقضي بأن لا يرفع الستار عقب انتهاء أحد فصول المسرحية أو في نهاية فصولها ليستجيب فيه الممثلون إلى تصفيق الجمهور وهتافة فيظهرون أمامه وقد نحوا عنهم مسرح الأدوار التي كانوا يتقمصونها وأخذوا يردون التحية بما يناسبها.
المسرح استثارة الواقع:
قلت أنه يحلو لنا أحياناً أن نرى فيما يقدمه المسر أحياء كاملة من الواقع. . . ولا سيما في مصر، وذلك لأن العرض التمثيلي فيها، جاءها في العقد الثامن من القرن الماضي، متأثرا بالمدرسة الرومانسية وهي المدرسة التي كانت تسود عالم الأدب والفن في فرنسا. ثم تلا ذلك تأثير المدرسة الواقعية التي اشتط أصحابها في مهمة المسرح فحاولوا أن يجعلوا منه (قطعة من الحياة)، ولكن هذه وتلك، مدرستان لم يبق لهما في الأدب والفن كبير أثره ولا سيما بعد أن أخذت مكانها اتجاهات أدبية وفنية جديدة.
هل المسرح هو الواقع؟ هل المسرح هو الحياة؟ ولكن أي واقع وأية حياة؟ ومتى كان الفن لهذا قادرا ومقدرا! هذا ما لا يعلمه أكثر الجمهور، ولكن الذي أعلمه أن النقد المسرحي في مصر يجري حسابه تبعا لهذا الشعار. . . ومن هنا يأتي نقد الأستاذ الدوياتي، وهو نقد يتلخص في أن رفع الستار مرة أخرى بعد إسداله عقب انتهاء كل فصل يؤدي إلى (الانفعالية المفاجئة لدى النظارة، مما يحول نيتهم وبين التعاطف والاندماج في اللحظة التي أوشك أن يتم فيها التعاطف والاندماج).
فالأستاذ الودياتي قد أقتعد مكانه في الصالة وهو موقن بأنه سيرى الحياة منقولة فوق المسرح نقلا كاملا، فإذا تأثر بما يرى فلا يصح أن يقطع عليه تأثره تصفيق من الجمهور ولا ستار يرفع بعد أن يسدل ليظهر الممثلون بعد ذلك يحيون الجمهور. فإذا رقع هذا جاءت نقلته عليه مزاجه. . . وكان له أن يحتج، وفي الحق أنه غير ملوم في شعوره هذا.
غير أنني أعتقد أنه كان يرى هذا شيئاً عاديا لو أنه اتخذ مكانه في الصالة وهو موقن أنه سيشاهد (تمثيلا) أي مظهر من مظاهر فن التمثيل، وعرف أن فن التمثيل، وشأنه شأن سائر الفنون، لا يقدم (الطبيعة) وإنما يقدم مظاهر (الوجود)، وأن كل فن التمثيل، يتخذ من الحياة ركازا، ولكنه لا يعطى حقيقة الحياة كما هي. . . وأن الفن إذا أحيا الواقع على المسرح، فإنما يكون هذا بطريق الاستثارة لا النقل، ولو أراد الفنان أن ينسخ الواقع نسخاً دقيقاً لأعجزته الوسائل. وإذا افترضنا أن واتته تلك الوسائل فإن نتاجه يكون غير رفيع لأن كل عمل فني إنما يقوم على التركيز والتركيز ليس من الواقع، وكل عمل فني يخضع لقيم ومعايير، إن استلهمت من الطبيعة فإنها ليست الطبيعة منقولة منسوخة بعينها. ومما لا شك فيه أن العمل الفني لو جاء صورة فوتوغرافية من الواقع، لزهد الناس من مطالعته، ولاستغنوا عنه بالواقع المبذول أمامهم.
وواقية المسرح، وهي مناط القول في هذا، خاضعة بسورها لما تقدم ذكره، ويزيد عليها أن إمكانيات المسرح في نقل الواقع قاصرة محدودة، فالمسرح مناظره من القماش أو الورق المصور، وهذا غير الواقع، وهذا غير حقيقة الأشياء كما هي في الحياة.
وممثل دور (هملت) قد يكون مصرياً أو إنجليزياً، ويلعب دوره باللغة التي يتكلمها، هذا في حين أن (هملت) دانمركي المولد والنشأة ولا يتكلم غير اللغة الدنمراكية.
وفوق هذا، فإن المسرحية نفسها لا يتتابع فيها الحوار ولا ينعقد كما يتتابع في الحياة، إذ ليس من الحياة الواقعية أن تنتظم مشاهد الرواية كما أوردها مؤلفها بعد أن أخذ بالتركيز والإجمال، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، ابتغاء الوصول إلى هدفه في الحدود التي ترسمها شروط فن كتابة المسرحية.
وعليه يمكننا أن نقرر أن كل ما فوق المسرح إنما هو مظاهر لعناصر مستلهمة من الحياة والواقع تشابكت لإحياء صورة من الوجود وتعاونت لاستثارة الواقع وليس لنقله ونسخه، وهي في كل هذا تنسخ تأثيرها علينا بطريق التمويه أو الإبهام
والتمويه يشعرك بوجود الشيء ولكن بطريق عرض مظاهر وجوده، وليس بعرضه على حقيقته وواقعيته في الحياة.
وما دمنا أمام المسرح، نعيش في عالم الاستثارة والتمويه، فلن يعلن ارتفاع الستار بعد سدله في نهاية كل فصل من فصول الرواية وظهور الممثلين يحيون المشاهدين، لن يعمل هذا على قطع التعاطف والاندماج بيننا وبين المثلين، لأن هذا وذاك قائم فينا منذ بداية الرواية.
ولو صح هذا المسرح، وأردنا تطبيقه على فن التصوير، لكان علينا أن نعلق اللوحات المصورة في الهواء وبلا إطار، بدعوى أن رؤية الحائط الذي علقت عليه الصورة، وأن مطالعة الإطار الخشبي الذي يحوطها، يقطعان علينا تيار الانفعال الذي يكون قد سرى فينا، إذا اندمجنا بكليتنا فيما أجرته ريشة المصور.
وأعود إلى المسرح فأتساءل من الذي جعل الستار يرتفع بعد هبوطه ودفع بالممثلين إلى مقدمة المسرح يحيون الجمهور؟
أليس هو الجمهور نفسه وقد أخذ يصفق ويهتف مطالبا برؤيتهم؟ ولماذا فعل هذا؟
فعل هذا لأن الممثلين استطاعوا أن يموهوا عليه بتسجيل مظاهر الحياة والوجود للشخصيات التي يلعبونها، لأنهم قدروا أن يؤثروا فيه بأدائهم المتقن، فأعجب بمقدرتهم بعد أن سرت إليه الهزة التي أحسوها وهم متقمصون شخصيات أدوارهم. فعل هذا لأنه، على تأثيره بما رأى، يعلم أنه يشاهد تمثيلا، لا واقع حياة، وإلا لما ألهب يديه بالتصفيق، أننا في الحياة الواقعية لا نصفق لما ننفعل به.
ويسعدني أن أزيد على ما تقدم، أن المسرح في تطوره الأخير ولا سيما بعد أن قامت السينما تنازعه البقاء وتم لها الفوز في أن تنقل الحياة نقلا فوتوغرافيا في أشرطتها، أصبح المسرح يلوذ بمصادره الأولى القائمة على الرمز والإبحاء والتركيز المبالغ فيه، ثم إشعار المشاهد بأن ما يشاهده إنما هو مسرح وليس (الواقع) حتى ينفرد المسرح بطابع لا يستطيع أن ينزعه منه الفن السينمائي.
ففي روسيا - ومنها تأتي أحدث الاتجاهات في الإخراج المسرحي - تجد أعيان المخرجين أمثال (تايروف) و (فاجتنجوف) يعمدون إلى وسائل جديدة في سبيل هذا وإلى القارئ صورة من العرض التمثيلي في (المسرح الأكاديمي بموسكو) وهو المسرح الرسمي.
المسرح عار من الستار. . . أي الستار الذي في المقدمة كما هو الحال عندنا، والظلام يغمر هذا المسرح بحيث لا يرى المشاهد شيئاً مما يحتويه، فإذا جاء ميعاد التمثيل أضئ المسرح تدريجا فإذا بنا نرى عمال المسرح يقيمون المنظر، وينظمون الأثاث الخ، فإذا انتهوا، ظهر جميع ممثلي الرواية وهم ينظمون ثيابهم ويثبتون شعورهم المستعارة، وقد يوجهون إلى الجمهور حديثا عن الرواية، ثم يسود الظلام المسرح مرة ثانية، وبمعاودة إضاءته يبدأ تمثيل الراوية.
قد تعجب من هذا لأننا أرقاء الواقع، إذ خفيت عنا مصادر العرض التمثيلي في المرحلة السابقة، قبل أن تأتي هذه المدرسة الواقعية التي أصبحت الآن لا تتحكم بمؤثراتها القاصرة إلا في البلاد التي عرفت التمثيل في أواخر القرن الماضي.
وبعد، فأرجوا أن أكون وقفت بعض الشيء في أن أجملت ما يحتاج الإسهاب فيه إلى مقالات طويلة.
وشكري مزدوج للأستاذ المعداوي إذ أتاح لي فرصة الحديث في هذا، وإذ خصني بشارة من ثقته التي سأعتز بها دائماً. وارجوا أن يكون للمسرح المصري نصيب من المنصف ومن لفتاته البارعة.
زكي طليمات