مجلة الرسالة/العدد 969/من وحي التاريخ
مجلة الرسالة/العدد 969/من وحي التاريخ
عمر بن عبد العزيز
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
سأل الاسكندر حكيماً: من يصلح للملك؟ فقال له. . إما ملك حكيم أو ملك ملتمس للحكمة. . والحكمة في هذا المقام معناها الفلسفة. . وقد قرن هذا الحكيم السياسة بالفلسفة واعتبرها أداة من أدوات الحكم ووسيلة من وسائل العدل. . واشترط على الحاكم أن يكون فيلسوفاً أو ملتمساً للفلسفة ليعم الأمن وينتشر السلام وتستقيم الأمور وتصلح الأحوال، وكثيراً ما كتب الحكماء في نظم عامة ابتدعها أخيلتهم وزعموها توفر على الناس في هذه الدنيا اللذة والسعادة وتنفى عنهم الألم والشقاوة. فعل ذلك أفلاطون في الجمهورية والفارابي في أهل المدينة الفاضلة وتوماس مور في أو طوبيا كما فعله كثير غير هؤلاء ممن ترسم آثار أفلاطون ونسج على منواله. . ومن كتاب هذا العصر الذين تناولوا هذه الناحية كاتب اسمه (موروا) وله كتاب اسمه فن الحياة. . من فصول هذا الكتاب فصل في فن الحكم يتكلم فيه المؤلف عل أخلاق الرؤساء الذين يسوسون أمور الناس. والرئيس الكبير في نظره هو صاحب الخلق الكبير. . ومهما قال الحكماء أو تحدث الكتاب، ومهما اختلفت الآراء وتباينت وجهات النظر. . فإن السياسة تعتمد اعتماداً كبيراً على الأخلاق. . لأن السياسة التي خلق لها إنما هي سياسة لا تلبث أن تتلاشى كما يتلاشى الدخان في الفضاء وما نجحت سياسة بعض رجال العرب في الماضي إلا لأن أصحابها كانوا على خلق عظيم. . من بين هؤلاء الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز الذي ألقت إليه المقادير بزمام الحكم بعد موت سليمان بن عبد الملك دون أن يكون له طمع في خلافة أو رغبة في حكم. . وقد نهج في حكمه نهج جده العظيم عمر الفاروق واحتذى مثاله وسار بالناس في طريق الخير حتى كان عهده من أحسن عهود التاريخ وأعظمها مكانة وأوفرها خيراً وبركة. . وستظل سيرة عمر بن عبد العزيز قصيدة شعرية رائعة يقرأها الناس في كل مكان وزمان ليتمتعوا بما فيها من روعة وجمال، وعظمة وجلال؛ فالأثر العميق الذي تركه عهد عمر في تاريخ الإسلام برغم أن مدة حكمه لم تزد على العامين يدل على أن الخليفة كان ذا صفات عالية. . دقيق الحسن في إدراك الحقائق الواقعة.
ولد عمر بن عبد العزيز بالمدينة سنة 61هـ. . وقيل سنة 63هـ ولا يغيب عن بال أحد أن المدينة كان لها أعظم الفضل في تاريخ الإسلام والمسلمين. . وبها كان أكثر التشريع الإسلامي؛ وكانت منبعاً لأكثر الأحداث التاريخية في صدر الإسلام؛ وبها حدث النبي ﷺ أكثر حديثه. وكانت مركز الخلافة في أهم عصر من عصور الإسلام أيام أبي بكر وعمر وعثمان وبها كان كثير من أكابر الصحابة قد شاهدوا ما فعل النبي وسمعوا ما قال وكانوا شركاء في بعض ما وقع من غزوات وفتوح؛ فهم يحدثون بما سمعوا وشاهدوا. . وكانت مكة والمدينة من أهم مراكز الحياة العلمية في ذلك العصر يقصدهما طلاب الحديث وطلاب التاريخ وقد فاقت المدينة مكة في ذلك؛ لأن أشهر من أسلم من أهل مكة هاجر مع النبي ﷺ إلى المدينة. وكان من يسلم بعد الهجرة من أهل مكة يهاجر كذلك خصوصاً إذا كان من رجالات قريش وعقلائها. . وكان طلبة العلم يبعثون إلى المدينة ويرسلون إليها لينهلوا من علومها ويغترفوا من آدابها ويأخذون عن علمائها. وقد نشأ عمر وشب وترعرع في هذه البيئة العلمية الزاكية. . ونثقف على أساتذتها وروى الحديث ونلقى الفقه عن جماعة من الصحابة - فشغف بالعلم وعلمائه وبالحديث ومحدثيه ونشأت بينه وبين وبينهم صلة طيبة وعلاقة قوية متينة حتى أنه كان يقول (لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إليَّ من الدنيا وما فيها) والمقصود بذلك هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المتوفى سنة 99هـ والذي يقول فيه أيضاً (ما رويت عن عبد الله بن عتبة أكثر مما رويت عن جميع الناس). كما كانت المدينة تزخرف تلك الحقبة بالحياة الأدبية فأخذ عمر بحظه من الثقافة الأدبية. وقد قال عن نفسه (لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلاماً من الغلمان ثم تاقت نفسي إلى العلم بالعربية والشعر فأصبت منه حاجتي). وقد أثرت هذه البيئة العلمية في تكوين شخصية عمر. . فحذق العلوم حتى صار فيها إماماً ضليعاً. . ولذلك يقول فيه ميمون بن مهران المتوفى سنة 117هـ (ما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذ). . وهناك عامل آخر أثر في تكوين شخصية عمر، غير عامل البيئة. . ذلك هو عامل الوراثة. . فأبوه عبد العزيز بن مروان كان والياً على مصر وأقام بها عشرين عاماً منذ سنة 65هـ إلى أن مات سنة 85هـ وجده مروان بن الحكم الذي ولي الخلافة من سنة 64 - 65هـ. وأما نسبه لأمه فأمه ليلى أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وقد ورث كثيراً من صفات عمر وأخلاقه كما كان يحاول التشبه بخاله. . ويروى أنه وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر لمكان أمه منه ثم يرجع إلى أمه فيقول. . يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي)!
يقول فيه جرير عندما كان واليا على المدينة
إليك رحلت يا عمر بن ليلى ... على ثقة أزورك واعتمادا
إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى ... ومروان الذي رفع العمادا
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا
وأنت ابن الخضارم من قريش ... هم نصروا النبوة والجهادا
وكان يقال له (أشج بني أمية) وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت أباه ولامته؛ إذ لم يجعل معه حاضنا؛ فقال لها عبد العزيز (اسكتي يا أم عاصم فطوبى لك أن كان أشج بني أمية) وقيل كان ابن عمر يقول (يا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً)؟
ولى المدينة سمة 87هـ. . ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك ضم إليه بعد ذلك مكة والطائف فأصبح عمر بذلك أميراً على الحجاز كله. . وولى الخلافة سنة 99هـ إلى سنة 101هـ.
على أن عمر في عنفوان شبابه لم ينس نصيبه من حياة الترف في حدود الاستمتاع الحلال المشروع حتى إذا حمل أعباء الخلافة نفض يده من الدنيا جملة. . تقول كتب التاريخ في هذا الصدد (ذكروا أن عمر كان أعظم أموي ترفها. فلا يمر في طريق ولا يجلس في مكان إلا عرف برائحته. وكان يمشي مشية تسمى العمرية كان الجواري يتعلمنها من حسنها وتبختره فيها. وقد ترك كل شيء كان فيه لما استخلف غير مشيته فإنه لم يستطع تركها. . قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا عليه قميص وسخ فقلت لامرأته فاطمة وكانت أخت مسلمة (اغسلوا ثياب أمير المسلمين، فقالت نفعل؛ ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت ألم آمركم أن تغسلوا قميصه؟ فقالت: والله ما له غيره!
كل هذا يصور لنا بجلاء أنه لم ينس نصيبه من الدنيا في شرخ صباه فلما أن أولى الخلافة خرج عن جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع.
وناحية أخرى تميز بها عمر عن باقي خلفاء بني أمية. . فما إن تولى خلافة المسلمين حتى جد في تنفيذ برنامجه الإصلاحي. . ولقد كان له من زهده ومناصرة العلماء له ومواتاة أهل بيته: زوجه فاطمة وابنه عبد الملك وأخيه سهل ومولاه مزاحم أقوى عون على ما أراد. . بدأ بمنصب الخلافة ممثلاً فيه فجرده من كل مظاهر الأبهة ورده إلى بساطته القديمة. . قم أنه أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها. . فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يد سليمان وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة. . وكان يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة الفاطمة؛ وكان يكتفي باليسير فإذا عرف وجه مظلمة ردها عليه ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من ظلم الولاة قبله للناس. . فلما بلغت الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل. يقول ابن الأثير: ولما رجع عمر من جنازة سليمان بن عبد الملك رآه مولى له مغتماً فسأله: فقال. ليس أحد من أمة محمد في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه. . وقالت فاطمة امرأته: دخلت عليه وهو في مصلاه ودموعه تجرى على لحيته فقلت أحدث شيء؟ فقال: إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذوي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أني ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، فخشيت أن لا نثبت حجتي عند الخصومة فرحمت نفسي فبكيت. . وقال عبد الملك لأبيه عمر: يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحيه وباطلاً لم تمته؟ فقال يا بني: إن أجدادك قد دعوا الناس عن الحق. . فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها. . ولكن أليس حسناً وجميلاً أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطلاً إلا نفسه وأهله، فلم ير ولي قوم أعف عن ما لم منه، ولم ير أهل بيت أصبر على الطعام الخشن والثوب المرقوع والبيت المتهدم منه ومن أهل بيته. ولقد أراح عمر الناس ولكنه أتعب نفسه، فكان حركة دائمة يعمل ليل نهار حتى ذهبت نضرته واحترق جسمه. . توفى عمر بعد ذلك في رجب سنة إحدى ومائة، وكانت حياة قصيرة حافلة بجلائل الأعمال وعظائم الأمور. . ولما مرض قيل له لو تداويت! قال لو كان دوائي في مسح أدنى ما مسحتها. نعم المذهوب إليه ربي! قال ميمون بن مهران قال عمر بن عبد العزيز. . لما وضعت الوليد في حفرته نظرت فإذا وجهه قد أسود؛ فإذا مت ودفنت فاكشف عن وجهي.
ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه. .
رحم الله عمر! ورحم فيه صفاته النبيلة التي ستظل ساطعة على جبين الدهر. . محفوظة في سجل الزمن.
رحم الله عمر. . ورحم فيه ورعه وتقواه. . وعدله وهداه. .
لقد عاش عمر. . ومات عمر. . ولكن أسمه سيظل حيا في مماته كما كان حيا في حياته.
عبد الباسط محمد حسن