مجلة الرسالة/العدد 970/إلي الشعب المصري

مجلة الرسالة/العدد 970/إليَّ الشعب المصري

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 02 - 1952



للأستاذ علي الطنطاوي

يا أهل مصر، اثبتوا على جهادكم، فإنا جميعاً معكم. قضيتكم قضيتنا، وعدوكم عدونا. ما ضرنا أن تفرق بيننا الحدود على الأرض، والألوان على المصور، ما دام يجمعنا الإسلام، وتوحد بيننا العروبة، وتربطنا الآلام والآمال، وذكر الماضي، وأماني المستقبل. فنحن الاخوة، تعددت بيننا المنازل؛ ولكن الدم بجمع الاخوة جميعاً، والجب والمنشأ والمصير. ومصر أختنا الكبرى، فلئن خذلنا مصر، إنا إذن لشر أخوة في الدنيا.

وما نسينا، والله يا أهل مصر، وموقفكم منا يوم عدا العادون من بني السين، دعاة الحرية. . وأحفاد من نادوا بحقوق الإنسان. . على جمهوريتنا وبرلماننا، وحريتنا في أوطاننا، أفتروننا نقعد عن نصرتكم وقد عدا عليكم العادون من أبناء التايمس، أدعياء الديمقراطية. وأبناء من (ابتدعوا) البرلمان!

فأين إذن، حقوق الأخوة، وأين واجبات الوفاء؟

أننام على فرش الأمن، وننعم بالدعة والخفض، ونشرب العذب من يردى، ونؤم الضاحي من سفوح قاسيون، نلهو ونتمتع، وإخواننا على حفا في النيل، وجوانب القناة، يخوضون اللهب، ويقحمون الحديد؟ وإخواننا هناك تهد بيوتهم، ويصرع فتيانهم، ويعتدي عليهم في أوطانهم؟

لا والله، ولكن تألم إن ألموا، ونجزع إن جرعوا، ونخوضها حمراء عابسة الوجه، يرقص فيها الموت، إن دعتنا إلى خوضها الأخوة، ونادانا الجذم والدين والسان، ولا منة لنا ولا فضل.

ولن نعيد مأساة فلسطين!

لن نعيدها. حلفنا وأيدينا مغموسة بدماء شهدائنا الذين أرادتهم المعركة مع اليهود، ونسائنا اللاتي بقرب بطونهن أكف يعود، وأطفالنا الذين ذبحهم أيدي يهودا!.

حلفنالنثأرن لهم، ولن ندع مأساة كمأساة فلسطين تمثل في ديارنا، بتخاذلنا وانقسامنا، واستسلامنا لخدع أعدائنا: الإنكليز وأحلاف الإنكليز.

نهضنا لنصر مصر على قدم واحدة، اجتمعنا على ذلك على اختلاف الأحزاب والمذه والآراء. وتعالوا انظروا، تروا الشباب في الطريق، والشيوخ في الأسواق، والطلاب في المدارس والنساء في البيوت، وحول كل راد، وأمام كل بائع جريدة، على ألسنتهم جميعا حديث مصر، وفي قلوبهم جميعا حب مصر، وفي عروقهم تغلي الدماء لمصر، وشوقا إلى السفر لمصر، للجهاد مع أهل مصر.

الشعب هنا كله معكم، والحكومة معكم، كلهم مع الحق الذي هو معكم، وعلى الباطل الذي هو مع عدوكم.

وسيكون الظفر والله معكم.

أن هذا المصائب امتحان للشعوب، لصبرها ولرجولتها. وإن هذا الشعب العربي قد جاز آلاف المحن، وخرج منها فائزا مجليا.

أي أرض فوق الأرض، وأي مكان تحت النجم، لم يوار فيه هذا الشعب شهيدا من شهدائه، ولم يبلغه رائد من رواده، ولم يرفع علمه يوما عليه، ولم يشهد ظفرا له، ولم يسمع العسكري، يهتف به الجندي المسلم، فيرتج منه كل واد، ويرتجف كل جبل، وتميد كل فلاة: (الله أكبر).

(الله أكبر) هذا هو نشيدنا في حزبنا، وهتافا لصلاتنا، لأن (الله أكبر) من إنكلترا، ومن يشد أزرها. (الله أكبر) من مدافع الإنكليز، ودباباتهم، وطياراتهم، وأسطولهم.

فلا تخافوا سلاحهم فإن أجدادنا ما حاربوا الأبيض والأسود، ولا فتحوا الشرق والغرب، ولا ملكوا ثلثي العالم المتمدن في الثلث قرن، لأن سلاحهم أمضى، أو لأن عددهم أكثر ما انتصروا إلا بالإيمان.

الإيمان مكن للفئة منهم أن تغلب الجيش الكبير من أعدائهم. الإيمان جعل السيوف الملفوفة بالخرق، أمضى في أيديهم من المهندات المذهبات في أيدي خصومهم. الإيمان أظفر الأمة البدوية الجاهلة المتفرقة، وإمبراطوريتي الزمان: فارس والروم، ففتحت بلادهما، ووزنت أرضعتها، ثم أنشأت حضارة خيرا من حضارتهما، ومدينة أزهى وانتفع من مدنيتها.

الإيمان بالله، والإيمان بأن الحق معهم.

فإذا كنتم مؤمنين بأنكم تدافعون عن حقكم، فلن يغلبكم أحد، لا الإنكليز ولا حلفاء الإنكليز.

ولقد حاربت جماعات من أهل الشام فرنسا، يوم كانت فرنسا أقوى دول أوربة في البر، في أعقاب الحرب العالمية الأولى وما كان لهم سلاح إلا الذي يأخذون من جنود فرنسا؛ ومع ذلك فقد وقفت فرنسا بدباباتها ومدافعها سنتين أمام مئات من الثوار، يقودهم خفير عامي من دمشق اسمه حسن الخراط.

فكيف ومصر الدولة العربية الكبرى، وفي مصر العدد والعدد والمال، ومع مصر كل قطر عربي، وكل بلد مسلم!

إنه ليس على ظهر الأرض شعب كهذا الشعب الذي صب محمد البطولة في أعصابه، حتى لا يكون المرء عربياً ولا يكون مسلماً حتى يكون بطلاً.

أما ترون العربي إذا دعى باسم العرض، أو دعى باسم الأرض، أو دعى باسم الدين، كيف تغلى دماؤه في عروقه فيحس حرها في قحف رأسه؟ وكيف تشتد أعصابه، وتفور عزيمته، حتى ليقحم النار، ويركب الأخطار؟

أما ضرب هذا الشعب على بطولته ونخوته الآلاف الأمثلة في الماضي وفي هذه الأيام؟

أما حارب عبد القادر فرنسا سبع عشرة سنة؟ أما نازل عبد الكريم فرنسا وأسبانيا معاً؟ أما قاتل العراقيون الإنكليز في الرميثة؟ أما فعل الفلسطينيون سنة 1936 الأفاعيل؟

أما كان لمصر سنة 1919 الأيام الغر المحجلات في مواكب الزمان؟

فإن مضى سعد، فكلكم يا أهل مصر سعد تسعد به مصر.

فإلى السلاح جميعاً، وإلى الحرب. وإن فقدتم السلاح فحاربوا بالعصي، وحاربوا بأيديكم، واطلبوا الموت يعجزوا عنكم، لأنهم لا يستطيعون أن يقتلوا عشرين مليوناً تريد الموت.

وقبل حرب الميدان، حاربوهم بالعلم، وبالأخلاق، وبالدستور الاقتصادي الصحيح، وأعدوا لهم كل أنواع القوى: قوة الجسم وقوة العقل وقوة القلب وقوة المال وقوة الجيش.

ونحن جميعاً معكم:

هذي يدي عن بنى (قومي) تصافحكم ... فصافحوها تصافح نفسها العرب

دمشق

علي الطنطاوي

قاضي دمشق