مجلة الرسالة/العدد 970/القصص
مجلة الرسالة/العدد 970/القصص
الجنية العاشقة
للكاتب الفرنسي أميل زولا
أرهفي أذنك يا نينون! إن مطر ديسمبر يلطم الزجاج، والهواء يرسل أنينه، ويردد شكواه. . إنها أمسية من الأماسي الباردة، التي يقضقض البائس فيها من القر، أمام قصر الغني الغارق في اللذائذ تحت توهج الذهب!. . . اخلعي حذاءك هناك. . . وضعي حليتك الثمينة هنا. . وتعالي إلى أحضاني، فسأروى لك قصة من أروع قصص الجان.
نينون! هناك على ذروة الجبل قصر عتيق ساد الظلام فيه وجثم الحزن فوقه. . ما ترين إلا أبراجاً صاعدة نحو السماء، وأسوار منيعة شماء، وجسوراً متحركة جهزت بالسلاسل، وملئت برجال أولى بأس شديد، لبؤسهم الحديد، يسهرون الليل والنهار على الشرفات، ولا يجدون راحة أو سلوة إلا بجانب سيد الحصن الجبار، الكونت أنكيرون.
لو كنت رأيت ذلك الكونت يا نينون، وهو يتنزه في مماشي القصر الضيقة، وسمعت قرقعة صوته بندر بالوعيد، إذن لأصابك الجزع، واضطربت كما تضطرب أوديت أبنة أخيه؛ تلك الحسناء الرعبيب التي تفتحت أنوثتها بين فرسان قساة، كما تتفتح زهرة الأقاح، إذا تنفس الصبح، تحت قبلات الشمس الضحوك بين أشواك الجبال.
كانت وهي طفلة، إذا أبصرت عمها الشيخ، وقد ضمت إلى صدرها الدمى زرت، عيناها وهبت مذعورة. تذرف الدمع. أما الآن فهي في ربيع الحياة. إن ثدييها يا فتاتي يبثان الشكوى ويرسلان الآهات. وما يزال الخوف يستولي على نفسها كلما طلع أمامها هذا المحارب القديم. . .
وكانت تأتي إلى برج بعيد، تتلهى فيه بحياكة أعلام ورايات فإذا أعياها هذا العمل الموئس لجأت إلى الله تبثه حزنها وتدعوه، أو قلبت طرفها في السماء الضاحكة وسرحت بصرها في المروج الحادرة. . . وكم من المرات، يا نينون، كانت تقوم من مهجعها وقد سجا الليل وهف النسيم لتنظر إلى النجوم. . . وكم من المرات كان قلبها يخفق لهذا المشهد الساحر، ويحن إلى تلك المروج المتوائبة نحو الأفق البعيد، ثم تسائل الكواكب عن ذاك الشيء الذي يتلاعب بروحها ويثير شجونها. . .
ودت بعد تلك الليالي التي ساهرت فيها النجم وبعد ذلك الحنين اللاهف للحب لو أنها ضربت يوما عنق هذا الفارس الهرم فوقصتها ولكن، وأسفاه! ما كان لها حول ولا قوة. . . إن كلامه جاف يرعب، وإن نظراته جامدة تفزع. . . فكانت تأخذ الإبرة مضطربة الحواس واجفة القلب وتعود إلى وشيها الشاق!
إنك تأسفين، يا نينون، يا نينون، لتلك الحسناء، إنها كالزهرة الريانة ذات العبير الطيب والأريج الشذي التي يصدف الناس عن رائحتها ويلهون عن جمالها. . .!
كانت ترنو يوما بعينين حالمتين إلى قمريتين تريدان الهرب من الحصن، فسمعت صوتاً عذباً يتعالى عند باب القصر، فانحنت من الكوة، وإذا شاب حلو القسمات وسيم المنظر، تأنس العين لمرآه، يطلب المبيت، مرسلا أنشودة بصوت رخيم ما فهمت لها معنى ولكن خفق لها قلبها. ورأرأ الدمع في عينيها، ثم فاض. . . فساقطت دراً من نرجس، وبللت غصنا من المارجولين كان بين يديها. .
وساد سكون عميق، وبقيت الأبواب مغلقة. ونادى فارس من أعلى الأبراج قائلاً.
أذهب وشأنك أيها الغريب، فليس هنا سوى فرسان محاربين. .
وهم الطارق أن يذهب. ولكن أوديت، التي علق بصرها به، فما يطرف أو يتحول، تركت الغصن رطباً بالدمع، يفلت منها، ليقع تحت أقدامه ورفع الشاب رأسه، فإذا وجه صبوح بطل عليه. . . والتقط الغصن ليشبعه لثماً وتقبيلا. ثم ابتعد عن القصر، وهو ينظر كل لحظة إلى الفتاة.
فلما غيبة الطريق المنحدر قامت أودية تدعوا الله وتصلي له، ثم شكرت للسماء وأحست السعادة فرقصت فرحاً وهي لا تدري لكل ذلك سبباً. . .!
فلما كان الغسق جلست إلى رابة تصلحها، وهي تفكر في ذلك الفتى، ثم داعب النعاس أجفانها فأذبلها وارتمت على فراشها. . . واستسلمت لنوم غرق مضطرب، ورأت حلما. . . إنه حلم ساحر يا نينون! خيل إليها أنها ترى غصن المارجولين الذي أفلت من يديها، وإذا بجنية، ما رأت العين أجمل منها تخرج من زهرة تتفتح بين أوراق الغصن المرتعشة. ولها أجنحة من اللهب، وتاج من الأزهار، تتدثر برداء أزرق، لونه رمز الأمل، وتناديها بصوت حلو النبرات: أوديت! أنا الجنية العاشقة! أنا التي أرسلت إليك لويس هذا الصباح ذاك الفتى ذا الصوت الحنون. . . أنا التي، وقد رأيتك تذرفين الدمع، جئت لأجففه. . أضرب في الأرض، وأؤلف بين قلوب العاشقين!. . . أزور الكوخ، كما أزور القصر، وأجمع عصا الراعي إلى صولجان الملك. أنا التي أزرع الورد تحت أقدام المحبين. .! ثم أربط بينهم ببنتين تختلج القلوب لهم فرحاً. أعيش بين الأعشاب، وفي جذوة الموقد المتآكلة، وتحت رفارف أسرة الأزواج. .! وحيث أضع قدمي فهناك يقوم حديث الغزل، ويكون همس القبل! لا تبكي أوديت، فقد أتيت لأجفف دموعك. . .
وعادت الجنية إلى الزهرة التي خرجت منها، واختفت هناك. .
أنت تعرفين يا نينونأن جنيتنا في الوجود. . انظري إليها ترقص في الموقد، وتألمي لمن لا يفكر بها.
واستيقظت أوديت وأشعة الشمس تنير غرفتها والعصافير تصدح بالأغاني والنسيم الصافي يداعب شعرها المغدودن الأشقر، وقد حمل عبير القبلة الأولى التي سرقها من الأزهار على عجل. فنهضت والنفس مفعمة بالفرح، وقضت يومها تغني تارة وتنفض الحقول أخرى، وترسل ابتسامة رقيقة لكل عصفور يحلق، والأماني تغريها فتقفز هنا وترقص هناك، ثم تضرب كفيها الصغيرتين بعضهما إلى بعض بقوة وسرور. . .
فلما كان الطفل تركت مخدعها، وهبطت إلى ردهة القصر الكبرى فوجدت فارسا يصغي إلى حديث عمها الكونت، فعمدت إلى مغزلها وانتبذت مكانا إلى جانب الموقد تسمع إلى صرصر يغني.
ونظرت إلى الشاب، فإذا غصن المارجولين بين يديه، يا الله! إنه لوئيس. . . وعلت وجنتيها حمرة ونضرة، وكادت ترسل صرخة، تدوي في فضاء الردهة، ولكنها انحنت على الموقد تؤرث النار فيسمع لها حسيس كأنه بث الأحزان، ويتمايل اللهب، ويفور الموقد، وتهيج النار. وفجأة ينجس من الموقد نور شديد وتظهر الجنية العاشقة، وقد افتر منها الثغر، ومال منها الجيد. . . فتجمع ثوبها الأزرق بين يديها، وتنطلق في الغرفة دون أن يراها أحد إلا أوديت. . .
أما الكونت فكان مسترسلا في حديثه بقص نبأ معركة هائلة وقعت مع الكفار، ويقول: فتحابوا يا أولادي. . ودعوا أشباح الشيخوخة الزاهدة. أبقوا لها الأقاصيص بجانب النار المشتعلة، ولا تجمعوا الآن إلى زفير النار سوى وسوسة القبل. .! سيكون لكم يا أولادي من ذكرى هذه الساعات التي ذقتم بها اللذة ما يخيف أحزانكم وهمومكم فيها بعد. . . والمرء عندما يحب وهو في السادسة عشرة من عمره، فالكلام لا يجديه آنئذ نفعا. إن نظرة واحدة خير من خطاب طويل. تحابوا يا أولادي وتركوا الشيخوخة تتكلم. . .
وأظلت الجنية العاشقين بأجنحتها، فغدا الكونت لويس الحبيب، وهو يطبع قلبته الأولى على جبين أوديت الحبيبة المرتعشة!
نينون! يجب أن أتكلم لك على أجنحة جنيتي. . لقد كانت شفافة كالبلور، دقيقة كأجنحة الذباب، ولكنها أيضاً كانت تنقلب إلى ظلام دامس كثيف فلا يتجاوزها عندئذ رنين القبلات ووجيب الأفئدة. . . ليكون العاشقان بنجوة من العيون! وهكذا. . . وبينما الشيخ غارق في حديثه عن معركة المؤمنين والكفار، كانت معركة القبل قائمة بين لويس وأوديت. . .!
لقد حضن الجسم الريان، وقبل الخد الأسيل، ودغدغ النهد الناعم، وتمتع بالطرف الوسنان. . . والشيخ في حديثه غارق مسترسل. . .!
ليت شعري ما تلك الأجنحة. . .؟ إن الفتيات ليجدنهن أحياناً - كما قيل - فيأمن الأبوين ويتمعن بالحبيب، أحقاً ما يقال يا نينون. . .!
واختفت الجنية العاشقة، وقد أنهى الكونت قصته، وذهب لوئيس شاكراً لمضيفة الكونت. . . ونامت الفتاة تحفها السعادة، والأماني حولها حومترفرف، والعين قريرة والبال هادئ.
أما هذه الليلة، فقد رأت جبالا كلها أزاهير، زينت بالوف من الكواكب المصابيح نور كل منها أشد وضاءت من نور الشمس. . . .
وأصبح الغد، فلما متع النهار نزلت إلى حديقة القصر والتقت ثم بفارس حياها فردت له التحية، ولما ابتعد عنها نظرت إليه، فأذا غصن المارجولين معه رطب بالدمع. وها هي ذي أوديت تلتقي بالحبيب مرة أخرى. . . لقد عاد إلى القصر بعد أن تنكر بزي فارس. أواه يا نينون! لشد ما يكون السرور عظيما عندما تلقى الحبيبة بفتاها في وضح النهار. . .!
وأجلسها على مقعد مخضوضر من العشب تحت ظلال السنديان، واللسان صامت والعقل شارد، وراحت العيون تتناجى. . . والأفئدة تصغي. . .
لن أقول لك يا فالتي ما تحدثت به شجيرات السنديان عندما رأت الحبيبين. إن في سماع الحبيبة وهي بين يدي الحبيب لذة، لقد جاءت الطير كلها تستمع إلى لحن الحب، وتبنى أعشاشها فوق تلك الشجرات. . .
وسمعت الفتاة على حين بغتة وقع أقدام الكونت وهو يمشي في الممر الطويل. ز فأصابتها الرجفة وانتظرت شرا مستطيرا. ولكن إن الينبوع لا يزال يرسل خريره الحلو الشجي، وها هي ذي جنيتنا الحسناء تأتي فتظلل العاشقين بأجنحتها والهواء رخي، ويختفيان عن الأبصار، ويعاودان حديث القبلات. . ويقترب الكونت، فيأخذ العجب! إنه ليسمع أصواتا ولا يرى أناسا!.
وانبرات الجنية الحسناء تقول:
- أنا حامية الحب، أضرب على من لا يجب غشاوة فما يسمع أو يرى! لا تخافا بعد اليوم أمرا، أيُها العاشقان الجميلان. . بل أجيبا داعي الحب في وضح النهار، والجو صاف وفي الليل والنسيم يرف، وبجانب الينابيع والأوراق تحف. أرسلني الرب لأصرف عنكم أذى الرجال، هؤلاء الساخرين من كل فضيلة، وحباني بأجنحة من الحب وقال: (اذهبي ولتتحاب القلوب! فيا بشركم. إني هنا أحمي الحب وأرعاه. . .
ثم ذهب تلتقط الندى غذاءها الوحيد تاركة وراءها الحبيبين، وقد علق فم بفم، واشتبكت كف بكف. .
وبقيا حتى الليل؛ فلما دنت ساعة الفراق ظهر الأسى في نظراتهما، فأسرت الجنية إليهما بقول يخيل أنه راقهما، فانبسطت أسارير، ولمست به جبيني العاشقين.
وفجأة. . . أوه! يا نينون. ما لك دهشت.
هكذا. انتظري سأتمم قصتي. . وفجأة انقلب لوئيس مع أوديت إلى غصنين من أغصان المارجولين! نعم من المارجولين الغض الزاهي. نبتا جنبا إلى جنب، ولا مست أوراق الأول أوراق الثاني، واشتبكا. هنا يا فتاتي. تتفتح أزهار لن يمد الذبول إليها يده، بل تبقى. . ويبقى أريجها متضوعا إلى الأبد.
والآن يا نينون، عندما نعود عند المروج الخضراء سنبحث عن أغصان المارجولين وسنسألها في أية الزهرات تختبئ الجنية الحسناء. إن لقصتي يا صديقتي مغرى، وما كنت لأقصها عليك إلا لأنسيك مطر ديسمبر الذي يلطم الزجاج وأبعث فيك هذ1 المساء شيئاً من الحب. . . نحوي. . . أنا!
ص م