مجلة الرسالة/العدد 970/نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:

مجلة الرسالة/العدد 970/نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 02 - 1952



السيد جمال الدين الأفغاني

للأستاذ حمدي الحسيني

- 2 -

أما جمال الدين فظل في كابل لم يمسه الأمير بسوء احتراماً لشخصيته الكبيرة وعشيرته القوية مؤجلاً الفتك به إلى فرصة مناسبة. فرأي جمال الدين أن يغادر البلاد، وللحر عن دار القلي متحول. فعزم على الذهاب إلى الهند والنزول فيها على أحد أصدقائه التجار البسطاء. وكم كانت دهشته عظيمة عندما رأي على الحدود استقبالاً فخماً رسمياً تستقبله به حكومة الهند وليس له من الصفة الرسمية ما يستوجب هذا الاستقبال العظيم فقال: مأرب والله لا حفارة كريم. وأول سؤال ألقى على جمال الدين من الحكومة الهندية ما هو الزمن الذي تريد أن تقضيه في الهند؟ قال لا أكثر من شهرين. قبلت الحكومة ذلك منه ولكنها أحاطته بجيش جرار من الجواسيس والعيون تحصى عليه أنفاسه وتعد عليه حركاته وسكناته؛ ولكن هذه المراقبة الشديدة الدقيقة لم تمنع الهنود من الإقبال عليه والإجماع به والاستماع له فأصبح كعبة يحج إليها الهنود على اختلاف طبقاتهم وتباعد ديارهم، فضاقت الحكومة الهندية ذرعاً وكشفت نقاب الحياء عن وجهها وأرسلت لجمال الدين وهو في مجلس حافل برجالات الهند أحد رجالها ليبلغه بأن حالة البلاد لا تساعد على بقائه في الهند أكثر من المدة التي قضاها. فتأثر الهنود الحاضرون من هذا الأمر وأرادوا أن يحتجوا فكفهم جمال الدين عن هذا والتفت إلى رجل الحكومة فقال له: إن تخوف حكومة بريطانيا من زائر أعزل يسجل عليها وهن عزيمتها وضعف شوكتها وقلة عدلها وعدم أمنها في حكمها، وأنها في حقيقة حكمها لهذه الأقطار أضعف بكثير من شعوبها. ثم التفت إلى زائريه من الهنود وقال: يا أهل الهند وعزة الحق وسر العدل لو كنتم وأنتم تعدون بمئات الملايين ذباباً لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمى. ولو كنتم وأنتم مئات الملايين وقد مسخكم الله فجعل كلا منكم سلحفاة وخضتم البحر واحطتم بجزيرة بريطانيا العظمى لجررتموها إلى القمر وعدتم إلى وطنكم أحرارا. فما كاد يتم جمال الدين كلامه حتى أذرف الحاض الدموع فقال لهم حينذاك بصوت داو كالرعد: أعلموا أن البكاء للنساء. والسلطان محمود الغزنوي ما أتي إلى الهند باكياً بل أتى شاكياً للسلاح. ولا حياة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغر باسم: ثم نهض مسرعاً إلى رجل الحكومة لكي يذهب معه حيث شاء فقال له: مهلاً فالسفر غداً. فقال جمال الدين: إلى أين تريدون أن أذهب؟ قال الرجل: إلى حيث تشاء بعد أن تبرج الهند. وفي الصباح سيرته الحكومة إلى السويس ومنها إلى مصر فمكث فيها نحواً من أربعين يوماً تردد خلالها على الأزهر وتعرف إلى الصفوة المختارة من رجال العلم والثقافة، فأحبهم وأحبوه وطلبوا منه أن يقرأ لهم شرح الإظهار فقرأ لهم جانباً منه في بيته. ثم سافر إلى الآستانة فالتقى بالصدر الأعظم علي باشا فعرف له الصدر فضله وأحله محلا لم يسبق لمثله أن حل فيه. وبعد ستة شهور من إقامته في الآستانة عين عضواً في مجلس المعارف فأدى حق النصح لتعميم التعليم بطرق لم يوافقه عليها رفقاؤه في المجلس ومنها ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه فأضمر له الشر حتى كلفه مدير كلية دار الفنون أن يلقى خطاباً يحث به على الصناعات. فألقى ضافياً في هذا الموضوع فشبه المعيشة الإنسانية بالبدن وأن كل صناعة منزلة العضو من ذلك البدن، أما روح ذلك البدن فهي إما النبوة أو الحكمة فاصطنع شيخ الإسلام الحاقد من هذا القول وسيلة للنيل من جمال الدين بحجة أن جمال الدين يزعم أن النبوة حرفة من الحرف، فدافع جمال الدين عن نفسه وطلب محاكمة شيخ الإسلام على هذه القرية، ولكن الصدر الأعظم المعجب بجمال الدين من جهة والمسئول عن الحكومة من الجهة الأخرى رأي أن يغادر جمال الدين الآستانة كحل لهذه المشكلة، فغارها إلى مصر. فكانت فرصة سعيدة لمصر والعالم العربي والإسلامي فقضى جمال الدين فيها ثماني سنين كان خلالها قطب رحا الحركة العلمية والأدبية ومحور دائرة السياسة العربية والإسلامية ليس في مصر فحسب بل في العالمين العربي والإسلامي قاطبة. هبط جمال الدين مصر في عهد إسماعيل وعهد إسماعيل عهد التقى فيه النقيضان، أفراح الإمارة وأفراح الشعب. واختلطت فيه رنات الضحك في قصور الأمراء بأنات الأسى والحزن في كل بيت من بيوت الشعب المصري وذلك بسبب ما كان عليه إسماعيل من التبذير في النفقات مما أضطره أن يقسو في فرض الضرائب على الشعب ويستدين فوق ذلك من الأجانب ما أثقل به كاهل الحكومة، هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى كان الجمود شاملاً جميع نواحي الحياة الدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية. حكم مطلق في يد ضعيفة مرتعشة، وقوانين ضائع معها العدل، وأنظمة مفقود في ظلها الخير. هال جمال الدين ما رأى وما سمع وهو الذي وقف حياته على محاربة الظلم والجهل، وشق عليه أن تكون مصر وهي قلب العروبة والإسلام النابض مباءة لكل هذه الشرور التي تبيض وتفرخ فتطاير إلى جميع البلاد العربية والإسلامية فتهددها بالخراب والدمار. فصمم وهو القوي الحازم على خوض المعركة ضد ذينك العدوين اللدودين الظلم والجهل. فجرد عليهما لسانا ذريا في مجالسه الخاصة وحلقات تدريسه العامة فالتف حوله شباب العرب من المصريين والسوريين والعراقيين والحجازيين وغيرهم ممن كانوا في مصر لطلب العلم، فأفرغ السيد جمال الدين في نفوسهم ما في نفسه الكبيرة من قوة، ومس أرواحهم بما في روحه العظيمة من حرارة وحماسة، فداروا حوله مستمدين القوة والعون بعد الله منه، وأخذوا يعملون في محاربة الظلم والجهل مع أستاذهم الأكبر وأمامهم الأعظم فجردوا ألسنتهم وأقلامهم في حرب طاحنة تجاوبت أصداؤها أجواء الشرق والغرب وامتد لهيبها إلى أيدي الظالمين فأحرقتها وإلى عقول الجاهلين فصهرت عنها الجمود والخمود. ولكن كيف يكون كل هذا ولا يتحرك في القلوب المريضة حسد له ولا يتململ في النفوس الصغيرة حقد عليه؟ فاتخذ الحاسدون الحاقدون سبيلهم للطعن عليه والنيل منه. وبينما كان الرجل في هذه المعركة من البناء والهدم إذ بالخديوي توفيق يتولى الحكم فيسر جمال الدين به وأنه شعر بأنه قد العهد أكثر قدرة على خدمة مصر من ذي قبل، فأندفع في مقاومة الاستعمار الإنكليزي وما يحوكه هذا الاستعمار من دسائس لمصر، وأطلق ما في نفسه الكبيرة من قوة تأثير على الأفراد والجماعات لدفعها في مقاومة الاستعمار ودسائسه وتحريك الشعب المصري للمطالبة بحقه في حكم نفسه بنفسه بالطرق الدستورية. وقد جره هذا النشاط السياسي الجبار إلى الاصطدام بالحفل الماسوني الاسكتلندي الذي كان منتسبا إليه وعازما على اتخاذه وسيلة لتحقيق أغراضه السياسية النبيلة، فحمل على المحفل حملة شعواء ندد فيها بما ينطوي عليه المحفل من الضعف والخور في خدمة الشعب المصري الخدمة التي تأخذ بيده إلى الحرية والسعادة. وعندنا اعتقد بأن لا فائدة ترجى من إصلاح هذا المحفل انسحب منه وأنشأ محفلا وطنيا تابعا للشرق الفرنسي، فأقبل على هذا المحل مئات من أصدقائه وتلاميذه وهم النخبة الطيبة والفئة القوية المؤمنة في مصر. وأول ما صمم عمله في محفل الجديد الدعوة لإصلاح جهاز الحكم كوسيلة لإعداد الشعب المصري ليحكم نفسه بنفسه بالطرق الدستورية. فألف داخل المحفل عدة لجان لتحقيق هذه الأغراض والاتصال برجال الحكومة (النظار) ومطالبتهم بالإصلاح على اختلاف أنواعه بأسلوب حازم ولهجة قوية ترددت أصداؤها في قصر عابدين، فأستزار الخديوي جمال الدين ليراه بعينيه ويسمع عنه بأذنيه، فكانت الزيارة. ورأى الخديوي من شخصية جمال الدين الكبيرة ما بهره ومن دفاعه عن الشعب المصري وحقوقه ما أخافه؛ فأمر بإخراجه من القطر المصري فذهب جمال الدين إلى السويس ليسافر منها إلى الهند فأتاه بعض مريديه من التجار يحملون مبلغا من المال عرضوه عليه فرفضه في أباء وشتم وقال لهم: انتم إلى هذا المال أحوج، والليث لا يعدم فريسة حيث ذهب.

للكلام بقية

حمدي الحسيني