مجلة الرسالة/العدد 971/نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:
مجلة الرسالة/العدد 971/نفس كبيرة ثائرة وعقل راجح حكيم:
السيد جمال الدين الأفغاني
للأستاذ حمدي الحسيني
- 3 -
أقام السيد جمال الدين في الهند فترة من الزمن وضع خلالها رسالته في الرد على الدهريين. وما أن حدثت ثورة عرابي في مصر حتى أسرعت حكومة الهند فوضعته في نطاق من الرقابة الشديدة خشية أن تهب نسمة من روحه القوية على تلك الحركة الثورية فتزيد في اشتعالها وتؤجج من نيرانها فتقطع على الاستعمار الإنكليزي طريقه إلى مصر واحتلال مصر. ومنذ اطمأن الإنكليز على خطتهم في مصر سمحوا له بمغادرة الهند فغادرها إلى باريس حيث التقى بصديقه الأستاذ العلامة الشيخ محمد عبده رحمه الله فأصدر جريدة العروة الوثقى لدعوة المسلمين إلى الوحدة الإسلامية تحت لواء الخلافة العظمى حتى اشتدت مقاومة الاستعمار الإنكليزي لها فأغلق دونها أبواب الهند ومصر فتوقفت عن الصدور، وكان قد وصل في ذلك الوقت صدى تلك المقالات القوية التي نشرتها العروة الوثقى عن الاستعمار الإنكليزي في البلاد العربية والإسلامية إلى لندن، وكانت حركة المهدي لا تزال في السودان مندلعة النار فيتخذ الاستعمار الإنكليزي من الحجة في إخمادها وسيلة للسيطرة على مصر والتدخل في شئونها. فاستدعى سالسبري رئيس وزراء إنكلترا في ذلك الوقت السيد جمال بحجة استطلاع رأيه في المهدي وظهوره وقصده الحقيقي أن يحك هذه النفس الكبيرة بما عنده من جاه وسلطان ظنا منه أن مثل هذه النفس تلين بمثل هذا الإغراء الرخيص الذي كان الاستعمار يستعين به على كم أفواه الرجال فذهب جمال الدين إلى لندن واجتمع بسالسبري اجتماعا عرض سالسبري فيه على السيد جمال الدين أن يعينه سلطانا على السودان ليستأصل جذور فتنة المهدي ويمهد السبيل لإصلاحات بريطانيا فيه: (تكليف غريب وسفه في السياسة ما بعده سفه) بهذا أجاب السيد جمال الدين رئيس وزراء بريطانيا العظمى ثم قال له: هل تملكون السودان حتى تريدون أن تبعثوا إليه بسلطان؟ مصر للمصريين والسودان جزء متم لها. وصاحب الحق الخليفة الأعظ يرزق ولديه من الجيش المادي والمعنوي ما يتذلل معهما كل صعب وفتنة في الكون الإسلامي وأجزاء ممالكه. قال هذا وخرج ثم عاد إلى باريز فالتقى بالفيلسوف الفرنسي - رينان - وجرى بينهما حديث في العلم والإسلام وحقيقة القرآن والعمران (فشهد له رينان بصحة العلم وقوة الحجة ورجع عن كثير من آرائه في أن الإسلام والقرآن مانعان للحضارة والعمران).
قضى السيد جمال الدين ما يزيد على الثلاث سنوات في باريز بذل خلالها من الجهود العظيمة الموفقة في مكافحة الاستعمار الأوربي الطامع في البلاد العربية والإسلامية ما جعل هذا الاستعمار يشعر بالقلق والاضطراب في حركاته وسكناته والخوف والذعر في آماله وغاياته. وبينما كان هذا النسر المحلق في سماء مجده يهم برحلة واسعة شاملة في البلاد العربية إذ بشاه إيران يستقدمه إلى طهران فآثر تلبية الدعوة وذهب إلى طهران فاستقبله الشاه بالإكرام والإعظام واسند إليه وزارة الحربية في حكومته وجعله فوق مستشاره الخاص، فحمل أعباء عمليه العظيمين في الدولة وراح يرشد الشعب الفارسي إلى ما له من حقوق وما عليه من واجبات فالتفت حوله أمراء البلاد وعلماؤها وأقسموا له أن يصدعوا بما يأمرهم به فأوجس الشاه خيفة فتنكر له، فرأى أن يستأذن الشاه بمغادرة البلاد فغادرها إلى روسيا وكانت شهرته قد سبقته إليها فاستقبل فيها بالإجلال والاحترام. ودعاه القيصر واجتمع به وسمع حديثه عن أسباب الخلاف بينه بين شاه إيران، فقال له القيصر إني أرى الحق في جانب الشاه إذ كيف يرضى ملك أن يحكم فيه فلاحو مملكته. فقال له جمال الدين أعتقد يا جلالة القيصر إن عرش الملك إذا كانت ملايين الرعية أصدقاء له خيرا من أن تكون أعداءَ يترقبون الفرص ويكنون في الصدور سموم الحقد ونيران الانتقام. فغضب القيصر وأوعز إلى رجال بلاطه بأن يخرجوه من بلاده بأقصى حدود السرعة. فخرج منها إلى أوربا وأخذ يتنقل في عواصمها حتى التقى في ميونيخ بصاحبه شاه إيران ثانية فاعتذر له الشاه عما فرط منه نحوه، ودعاه لمرافقته إلى طهران فقبل جمال الدين الدعوة وسار معه إلى بلاد فارس. ولم تكد رجلاه تطاءان أرض فارس حتى عاد الناس فالتفوا حوله كما فعلوا في المرة الماضية وقد كلفه الشاه هذه المرة أن يضع ما يراه مناسبا للمصلحة العامة من القوانين، فسن قانونا أساسيا للمملكة يقضي بأن تكون الحكومة ملكية شورية (دستورية) ولكن ما كاد الشاه يطلع على ذلك حتى طار صوابه. فقال للسيد جمال الدين: أيصح يا حضرة السيد أن أكون وأنا ملك ملوك الفرس كأحد أفراد الفلاحين؛ فقال له جمال الدين اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هي الآن. فنفر منه الشاه وأعرض عنه فأحس بهذا النفور فأستأذن بالذهاب إلى بلدة (شاه عبد العظيم) فأذن له. فذهب إليها وتبعه عدد كبير من الزعماء وقادة الرأي في البلاد فخاف الشاه عاقبة ذلك فأمر بالقبض عليه فأنتزع من فراشه وهو محموم وأوصل إلى حدود العراق، فذهب إلى البصرة وأقام فيها حتى عادت إليه صحته فغادرها إلى لندن. وهناك جاءته من عبد الحميد دعوة إلى الآستانة فذهب إليها وكان في استقباله ياور السلطان فسأله أين الصناديق أيها السيد؟ فقال له: ليس معي غير صناديق الثياب وصناديق الكتب. فقال الياور أين هي؟ فقال جمال الدين أما صناديق الكتب فها هي، وأشار إلى صدره، وأما صناديق الثياب فهذه وأشار إلى جبته. ذهب السيد جمال الدين لمقابلة السلطان فاستقبله أحسن استقبال وأرسله إلى قصر كان قد أمر بإعداده له. وما أن خرج من حضرة السلطان حتى قال له كبير الياوران في شيء من الاستغراب والعتاب: إن إجلال السلطان لحضرتك لم يسبق له مثيل. واليوم رأيناك تخاطبه بلهجة غريبة وأنت تلعب بالمسبحة في حضرته. فقال له جمال الدين: سبحان الله! إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الأمة على هواه ولا يعترضه منهم أحد؛ أفلا يكون لجمال الدين حق أن يلعب بمسبحته كيف يشاء؟!
أما إكرام السلطان لجمال الدين واحتفاؤه به وإقباله عليه فكان عظيما جدا. وأما إعجاب جمال الدين بالسلطان فكان إعجابا آخذا عليه جوانب نفسه؛ ولكن إعجابه هذا بالسلطان لم يمنعه من أن يقول له في صراحة ووضوح وفي شجاعة وعزم: خذ بعزم جدك محمود، وأقص الخائنين من خاصتك، واظهر للملأ ظهورا يقطع من الخائنين الظهور، واعتقد أن نعم الحارس الأجل. مما جعل السلطان يتنفس الصعداء ويعتذر له عما دعاه إليه بما في بيئته من الفساد، ويعده أن يفعل ما دعاه إليه في المستقبل.
قد عرض السلطان على جمال الدين مشيخة الإسلام ليصلحها فأبى ذلك وطلب من السلطان أن يعمل عملا يتغير معه شكل الحكم تغييرا أساسيا وهو يعني بهذا الرجوع إلى الشورى في الحكم، كما عرض عليه أضخم الوظائف وأعلى الرتب وأسمى النياشين فرفضها كلها قائلا: إن وظيفة العالم ليست بمنصب ذي راتب بل بصحيح الإرشاد والتعليم، ورتبته ما يحسن من العلوم مع حسن العمل بالعلم.
قضى جمال الدين في الآستانة أربع سنين ضيفا على السلطان كان خلالها حركة خير دائمة، بوعظه وإرشاده حتى دهمه داء السرطان فمات رحمه الله سنة 1897 ميلادية.
رمى السرطان الليث والليث خادر ... ورب ضعيف نافذ الرميات
حمدي الحسيني