مجلة الرسالة/العدد 976/القصص

مجلة الرسالة/العدد 976/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 03 - 1952



من الشارع

للأستاذ أحمد عبد القادر الصاوي

المواكب تمتد. الجماعات تتشابك. الطبول تدق. الغناء يعلو وأنا وحيد. . تتراقص في ذهنه أخيلة قاتمة، ورأيت أن أمضي إلى الجموع الحافلة أتصيد اللهو والمتعة. . .

وفي مدى دقيقتين توسطت حقل السلوى. وسافرت بين جوانحي تنهدة طويلة. وسال في وجداني شعور بالرضى. .

وسارت بي الخطا في زقاق غير بعيد، شاهدت كومة مهملة من الخرق ملقاة على الأرض غافلة عما حولها من الضجيج.

ومر الشرطي فركلها ليفحصها. وبلغت دهشتي غايتها، إذ تجمعت الكومة - رويدا. وارتفعت، وشاهدت هلاهيل داخلها إنسان. . أحد أبناء الطريق ممن ينتشرون فيها حائرين كاسدين. وسأله.

- أين أبوك؟

- لا أب لي؟

- وأمك؟

- لا أم لي

- أين تبيت؟

- هنا!!

ونجاه، وأنطلق متكبرا.

وتراجع الغلام إلى مكانه. وتراخى، وشمله نوم عميق. ووقفت حياله. وثورة من العواطف تجتاحني.

وعبست السماء، وتلبدت السحب، وأظلت غمامة، ودمعت ثم برحت. وأسرعت أوقظه، فلم يسمع لي. صحت فيه

- قم!

- ليس هذا مكان أحد. لن أقوم - المطر ينهمر!

- لينهمر! ليست هذه أول مرة

- قم!

- لا شأن لك بي

- اختطفته. فانزعج. فطمأنته

- لا بأس عليك

- رمقني بطرف ساج ثم تبعني

وخرجت معه عن دائرة الفوضى. وطلبت منه أن يصحبني فأطاع. .

وكنت أسكن وحدي. فأعددت له فرشا. ونام كما تنام الهرة مستكينة مستسلمة.

وأصبح الصباح واكتشفت أنه ألف وديع. وودعته وغدوت إلى عملي.

وعدت ظهرا. وتلألأت فرحة بين جنبي. . الحجرات تبتسم، والأثاث يشرق، وزجاج النوافذ يضئ. كان الأثاث قد رتبترتيبا ساذجا، أقرب إلى التنسيق والنظام.

وفركت عيني. وعادتا تتصفحان مرة ثانية قطع الدار. لقد أصبحت قشيبة.

وسرت البهجة إلى قلبي باردة ناعمة. . سأدخل حياة جديدة، جميع نواحيها هدوء واستقرار.

وواجهته والضحك يتزاحم على فمه. واستحالت الضحكات كلمات بليغة راقية.

ومدحت تصرفه، وسطت على فمه ابتسامة ردا على كلمات الإطراء التي أمطرته بها.

وتناولنا غداءنا وخرجت إلى بعض صحبي. وحملت إليه عند أوبتي ملابس من النوع الرخيص. وتهلل وذهب يستحم.

ألف الحياة التي تحيطه. وعامل أشخاصا من الحي تربطنا بهم الحاجة. وأثنوا عليه.

وأرسلته إلى الكواء. وعاد عابسا. وأظهر أكثر من العبوس، حين قدمت أليه أتعاب العامل ليؤديها إليه فقال:

- هذا كثير فهززت كتفي وقلت:

وما الحيلة؟

- أستطيع أن أحتال لك وكيف؟

- اشترى لي مكواة وسترى

- لا خبرة لك

- خبرتها هناك

- تهزل؟

- أجد

وأعجبت كثيرا حين وجدت الأقمصة والبدل، كأنها صقلها يد الكواء

ستون قرشا أو تزيد استقرت في جيبي آخر كل شهر. وعالج الغسيل، ورتق الجوارب، وطهو الطعام ونجح. وبلغ في نجاحه. وبلغ في نجاحه مدى بعيدا

ولقيته مرة حزينا فاستفسرت فقال:

- أحست معي!

أربعة قروش ومليمان صابون. وقرش وخمسة مليمات خبز. وقرش وثلاثة مليمات شاي، وقرش وسبعة مليمات زهرة وملح. . .

وكم مجموعها؟

- ثمانية قروش وسبعة مليمات

- فإذا كان معي عشرة قروش، فكم يتبقى؟

- قرش وثلاثة مليمات

- معي قرش

- لا عليك!

وتلعثم واكفهر

- سأتعلم الحساب

- من يعلمك؟

- أنت

وتبدو الوثبة الثانية، وأجد أن أحب شيء لدى حين أجلس لألقنه، وتشرب الاسفنجة الجافة ما ألقيته إليها. وعت ووعت، ولم تتشبع ولم تمتلئ.

وفي غصون عام - أصبح في مستوى طالب الشهادة الابتدائية يكتب بطلانه وخعة أصيلتين.

وضبط الحساب وضغطه، فلم يفلت منه مليم، وتطلعت إلى المكث في بيتي. وارتاح صديقي الصغير إلى، واتخذني أخا ومرشدا. واستوى الحول، ووجدت يدي تتحكم في ثلاثين جنيها. مبلغ ضخم! يا لله!.

وازددت حدبا عليه، وأزداد كلفا بي، والأيام تعدو وتنطلق وفتاي ينمو نموا مطردا، ووجهه يتدفق جمالا، وقومه يتناسق ويرشق. ولم ألتفت إليه.

وحرك فضولي أن صوته كان يرق، وخشونته كانت ترهف، والأنوثة كانت تطل من أعضائه وملامحه. ويلاه!

وأخذت المفاجأة طريقها في سرعة.

ومضى شهر. وفي خلال الشهر الذي يليه كان يعلو صدره.

وفي الشهر الثالث برز له صدر فتاة؛ وهو إذ ذاك في الرابعة عشرة ولكنه يحث خطأه إلى النضوج الباكر العاجل. وينتقل من حال إلى نقيضه!

وأثار في كثرة ترددها على الحلاق ليقص لها كالفتيات. وأثارني أكثر إصرارها على ما هي عليه، وتمردها على أنوثتها

وتتساقط الأيام، ويدور الزمن فيصقلها دور انه ويهذبها. ولا يزال الصقل والتهذيب حتى يخلص إلى تمثال تتوهج الأنوثة الكامنة فيه.

ويكاد الحسن يضطرم على صفحة الوجه الناصع الصغير.

يا رحمة الله ساعديني!

واحتاجت إلى ملابس، فانتقيت لها مجموعة منمقة. إحدى التشكيلات التي تسر الفتيات وتبهجهن.

وجاءت فرحة لتفضها. وحدقت في الألوان الزاهية عينيها وفقدت مقاومتها، وانطلقت إلى الحجرة الأخرى. . تطعن بأظافرها الحشايا وتولول. وذهبت إليها وما دريت أن الكتمان الطويل الذي لفت نفسها به، سيهتك سريعا. ولكنها أنثى!.

ومرت الليالي. وخضعت لرغبة الطبيعة، فظلت الساعات أمام المرآة تتعطر وتتزين.

لمن؟.

وكرهت مسكني، فقضيت أكثر وقتي خارجه إن وجودي فيه كان إحدى أماني الشيطان.

وتنتظرني بقلب واجف. . تتلقاني بالحساب العسير. وأنتحل الأسباب فلا تصدق. وتولي وهي تبكي. وتظرفت وتلطفت. وأقبلت. . تقول:

- كرهتني!

- أبدا

- ليتني فتى!

وتضحك خلال دموعها وتستأنف

- كنت أحببتني

- أحببتك في حالتيك

وتسوق بعض طرائفها في أسلوب هين رقيق

وعدت إلى المنزل يوما عقب عمل شاق. فوجدتنها ارتدت ثوبي واحتذت حذائي، وعقصت شعرها تحت طربوشي. واختطت شاربا، وواجهتني. ولم أتمالك أن تضاحكت. ورددت وضحكاتها ترف على وجهها، فتصبغه لونا زاهيا. . لون المرح والشباب

- أحببتني الساعة؟

- وكل ساعة

- ابق معي!

- أبقى؟

- أجل

- أنت في حجرة، وأنا في حجرة

وتعبس بعض الوقت

- ستكون أبعد منك خارجا

هذا شرطي - وتهمس

- خففه!

- قد خففت! وأتأفف. وتهز رأسها

- رضيت

وتعبث بأذني وأصابعي وتهمس

ألا زلت على قسوتك؟

وأضحك بعد العبوس

وكان دلالها الفطري، وحركتها الغريزية، وسهولتها المطلقة، أمورا جديدة على. . فمن حولي كلهم قد أخفتهم الصناعة خلف قناع كثيف

وأنا أقدس الحياة لا كلفة فيها

وانتهى الأمر بأن أحببتها!

وخرجنا معاً إلى عرض الطريق

وعلت الدهشة وجوه القوم. وتقولت جمهرتهم. ووشاعت الشائعات. ولم يكن هناك بد من قطع ألسنتها. . سأعقد عليها حالا.

وأسررت إليها برغبتي. واستخفها الطرب. وطارت إلى المرآة. وأقبلت، وكل جارحة في وجهها تبتسم

- أتراني لك أهلا؟

واحتواها ذراعاي

واستدعيت المأذون. فأقبل وتساءل

- أين العروس؟

وأقبلت ترتدي ثوبا بسيطا. وخيل إلى وهي في بساطتها أنها أبهى فتاة. وسبح قلبي في حيرة من السرور.

- كم سنك؟

- لا أعرف

ودارت بي الدنيا

- ما اسمك؟

وتعثرت كلماتها. ووقف قلم الشيخ - أين شهادة ميلادك؟

ماذا تقول؟ لا أفهم!

والتفت إلى الشيخ وقال:

- لا تعرف اسمها، ولا تعرف سنها. أمر خطير. .

وقام مهرولا لا يلوي على شيء

وظل التمثال الرشيق مبهوتاً، يرى فتتسع عيناه، وتتهدل شفتاه،

ويحول لونه، ويتصلب وجهه.

ودنوت منها لأواسيها، لا تتنبه. وأتوسل إليها، فلا تتكلم. .

لا تتكلم مطلقا

وانحدرت إلى صدري نقمة شديدة على نفسي. فلو أحسنت تصرفي قليلا لتم لي سعادة الروح والجسد. وقد أنشأت بجهلي فراغا هائلا بيني وبين من أحب! وسارت الأمور سيرا كسيحا

وأخذت الفتاة تذبل وتذوب، والفتنة تخبو وتنطفئ.

وأحزان الملاك الجميل تتجمع عليه فتثقله. ويهبط قليلا قليلا. يقترب جداً من الأرض.

وتراءت في أحزانها كالبنفسجة الغافية، بيد أنها فقدت الإغراء والغواية، لا الشذا ولا العطر

وأنا بشر! ولي عين ترى، وأنف تشم

وحدثتني نفسي بها، وتجلدت، ولكن رغبات الجسد تكتسحني، مرة أغلبها، ومرارا لا أستطيع

وتمنعت في إباء وشمخت في كبرياء

وضقت بنفسي وبها

واهتديت أخيراً إلى حل، دعوت الطبيب ليقدر سنها ثم سنستوفي الشكل فيما بعد ليتم قراني بها

وعدت معه إلى المنزل

وطرقت غرفتها، ولم أنتظر الإذن ودخلت

رباه! ليست هناك. وبحثت وتقصيت ولا جدوى وأحسست أن صدري لا يستطيع أن يحتفظ بقلبي، فيتهاوى، وصرخت والألم يتلقفني، والأسنة المسمومة تراشقني وتأكدت أنني فقدت فتاة لها مميزات لن تتوفر سواها

وهبطت على أحداث عصيبة. وسجل فلبي فترات دثرتها ملاءة سوداء. واشتعل الزمان حولي. وتطايرت الدقائق تتناثر كالشر.

وكان كل ما في المنزل يتسم بطابعها، فيوقظ في أعماقي أحداثا تومض وتبتسم ثم تتلاقى. كيف أنسى؟

وهجرت المنزل إلى غيره ولكن ذكراها كانت تلاحقني. إليها وتمايلت

وما زال الزمن يسير بها حتى بعدت. . واختفت وراء الزمان. وما زال توغل بين طياته حتى ذابت فيه. وانتهى الحلم وصحوت!

وتتابعت السنوات

وفي ليلة ذهبت إلى المسرح لقضاء السهرة. واحتشدت حول واجهته الأضواء. وأرسلت عيني تقرآن الموزعة على الجدران، وبينما كنت أقرأ استيقظت على صوت يستجدي. واستدرت رأيت فتاة رثة تستعطفني

وشعرت أن تماساً خفيفا يتصل بين الفتاة وذاكرتي فحدقت فيها. وما برحت أزيل أكوام الماضي حتى بدت لي في الذاكرة صورة واضحة جلية. . بدت لي في قرارتها صورة وديعة مزينة

تلك ضالتي!

وفوجئت الفتاة. . وهمت بالهرب. وأسرعت إليها. . وقبضت بيدي على ساعدها. فنزعته بقحة ورعونة وقالت

- ماذا تريد؟

- أريدك. بحثت كثيرا عنك

- الفارق بيننا كبير

- متقارب

- بل كبير - تعالي. لا حساب لهذا عندي

- سلبت ما ترجوه مني!

وبدت تشنجات وحشية على شفتيها. وأخذت تتقلص وتنفرج، فتكتسي هيئة ذئبة ضارية

- دعني. فأنا نشأت هنا. وسأبقى هنا!

وتراخت يدي. وفجأة نزعت ساعدها مني. وشردت

وانطلقت عيناي وراءها تتبعانها. . شاهدت بقايا حبي، وهي تتأرجح في الظلام، وتمضي طائشة بلا وجهة، ثم تحول وتتضاءل ثم تختفي

وكان درسا علمتنيه فتاة من الشارع. وكانت عظة، وكم عظات ملقاة على جانبيه!

سر هناك وتأمل. . ستراها مجسدة أينما سلكت، في الأزقة والمنعطفات. . في الطريق العام والميادين. في كل مكان

أحمد عبد القادر الصاوي