مجلة الرسالة/العدد 978/الطبيعية والصنعة في الفن

مجلة الرسالة/العدد 978/الطبيعية والصنعة في الفن

مجلة الرسالة - العدد 978
الطبيعية والصنعة في الفن
ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1952



للأستاذ أحمد مصطفى حافظ

الفنانون: الشاعر، والأديب المترسل، والموسيقار، والمصور، والمطرب، والمثال،

والرسام. . أفراد في مجموع قبل كل شيء

والفرد في المجتمع يعطي ويأخذ ويؤثر ويتأثر. . .

وعلى قدر استعداد الفرد لتلقى تأثير المجتمع - من غير أن يشل هذا التأثير حيوية نزعة من نزعاته - يكون نجاحه المتكامل في الحياة الاجتماعية. والطراز الإنطوائي من الناس إذا وجد في الفن متنفسا طاقته المكنونة، كسائر (الرومانسيين، قد يصل تعبيره إلى أقصى ما يوصل إليه الأداء الفني من الروعة والإبداع. . . وهذا يتفق كثيراً لشاعرة كفدوى طوقان، التي تقو في قصيدتها الأخيرة (الصخرة) بالعدد 972 من الرسالة:

أنظر هنا! الصخرة السوداء شدت فوق صدري

بسلاسل القدر العتي

بسلاسل الدنيا البغي

أنظر إليها كيف تطحن تحتها ثمري وزهري

نحتت مع الأيام ذاتي

سحقت مع الدنيا حياتي

دعني فلن تقوى عليها. لن تفك قيود أسري

سأظل وحدي في انطواء

ما دام سجاني القضاء

إلى أن تقول:

ستظل روحي في أقفال

سأظل وحدي في نضال

وحدي مع الألم الكبير. مع الزمان. مع القدر

وحدي وهذي الصخرة البكماء تطحن. . لا مفر!

كما اتفق كثيرا لشاعر كالمرحوم فخري أبو السعود الذي يقول مناجيا الموت.

لأنت بلاغ النفس حيرى مروعة ... بوادي شكوك جمة وهموم

وفيك ابتعاد عن جهالة جاهل ... وعن قول مأفون وفعل لئيم

وعندك نسيان وطول زهاد ... لكل مراد في الحياة عقيم

لعمري ما حي بأروح منزلا ... على الأرض من بال بها ورميم

ولو علم الجاني لما جاد عامداً ... على خصمه بالموت جود كريم

وتمحو يداك الحقد والخوف والأسى ... وكل بلاء في النفوس قديم

وأنت تريح الفكر من كل معضل ... يظل له في حيرة ووجوم

وتطوي عن الأجفان صفحة عالم ... ملئ بأنواع الشرور ذميم

وتطوي كتاب الأمس طيا وما مضى ... به من بغيض ذكره وأليم

. . . عزاء لبعض الناس أنك قادم ... وأن شقاء العيش غير مقيم

هذان الشاهدان اللذان سقناهما فيهما صدق وعمق فنيان، نتجا عن شعور صحيح، أجنحته أحزان الوحدة وصروف القدر. . . ولكن آفة الانطواء أن ينفعل الشاعر تحت تأثير القيم الاجتماعية انفعالا فنيا مصنوعا لا مطبوعا، فيكون تعبيره الفني واجبا ملتزما به، أو تقليداً منساقاً إليه. . لا أداء حرا صادرا عن فاعلية فائضة من النفس. . . فشاعر كبشار الضرير، حين يقول متغزلا:

يا منظرا حسنا رأيته ... من وجه جارية فديته

بعثت إي تسومني ... ثوب الشباب وقد طويته

لا يخفى ما يقوله هذا من بعد عن الصدق والواقعية، علاوة على ركاكة النسج وتكلف المعنى والقافية تكلفا ظاهرا. . وإلا فمن (هو) في ميدان الوسامة والغرام، حتى. . تسأله هي أن يغازلها؟ وإذا أردت دليلا قريبا على ذلك فلاحظ معي، إن شئت، الظروف الاجتماعية في عصر المرحوم أحمد شوقي بك، التي كانت تزين له أن يتصدر ندوة الشعر، تجد أن دولة الشعر كان عليها في هذا العصر واجبات، تقتضيها الضرورة السياسية ومن هنا كان نجاح شوقي غير متكامل في الحياة الاجتماعية. . فجاء شعره الوطني والاجتماعي دون وطنيات واجتماعيات شاعر الني الاجتماعي النزعة. . . ذلك لأن شوقي لم يكن اجتماعي النزعة كحافظ وليس هذا عيبا؛ وقد قدر أن يكون لكل فرد نوازعه النفسية. . فشوقي كان من الطراز الإنطوائي. . .

لو ترك العنان لشاعرية شوقي لفاضت فيضا ذاتيا لا أثر للأحداث السياسية والاجتماعية فيه، ولأخلص لناموس الطبيعة وحرية الفن؛ وإن كان هذا لا يمنعنا من الإقرار بروعة شعره الذي صدر - في غير الأغراض التي أشرت إليها - عن فاعلية فائضة من أعماق وجدانه. . .

وما أرق خمريات أبي نؤاس، الذي نراه يبلغ الذروة فيها لطبيعة انفعاله، اضطرم نتيجة هيام بالخمر معروف عنه، بلغ حد الهوس؟ فجعله يقول:

دع عنك لومي فان اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء

رقت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافة، وجفا عن شكلها الماء

فلم مزجت بها نورا لمازجها ... حتى تولد أنوار وأضواء

دارت على فتية دان أزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا

لتلك أبكي ولا ابكي لمنزلة ... كانت تحل بها هند وأسماء

وجعه يقول:

أئن على الخمر بآلائها ... وسمها احسن أسمائها

لا تجعل الماء لها قاهرا ... ولا تسلطها على مائها

كرخية قد عتقت حقبة ... حتى مضى أكثر أجزائها!

فلم يكد يدرك خمارها ... منها سوى آخر حوبائها

داريت فأحييت غير مذمومة ... نفوس حراها وأنضائها

والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدو بأكفانها!

ويقول:

قم يا غلام فقد بدا الفجر ... واسق النديم فما به سكر

من قهوة ما كنت أحسبها ... في الكأس. . لولا اللون والنشر

رقت. . فما تدري أبارقها ... أبها هواء، أم بها خمر!

وأخيراً، وليس أخراً، ليت أدباءنا - الذين يصرون على أن يكونوا شعراء على الرغم من افتعالهم وتعملهم وإمحالهم وضعف أداتهم الشعرية - يتأسون ويعتبرون بصدق أبن المقفع وصراحته، حين أجاب من سأله عن السبب في عدم قوله الشعر، بقوله: (الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيء لا أرضاه) ومن رأيي أن أبن المقفع أسوة حسنة، وقدوة صالحة. . .

فهل تنفع شيئا ليت؟ الحق أن يستجيب هؤلاء ويتفضلون بإراحة أنفسهم وإراحة الناس وإراحة الفن جميعاً؟

إنا لمنتظرون؛ ونخشى أن يطول انتظارنا إلى يوم يبعثون!!

السويس

أحمد مصطفى حافظ