مجلة الرسالة/العدد 979/القصص

مجلة الرسالة/العدد 979/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 04 - 1952



الشيطان والعجوز

عن الكاتب التشكوسلوفاكي جي راب

للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان

جلست عجوز شمطاء إلى مائدة بين الأشجار، في حديقة الحانة، بعيدة عن البقعة التي يتحلق فيها الراقصون من فتيات وفتيان، يدورون وينقرون بأقدامهم على ألواح الخشب التي رصت على أرض الحديقة فغدت صالحة للرقص

ظلت العجوز تتأمل ما يجري أمامها دون أن يبدو عليها أنها تهتم بها، وقد كانت هي الوحيدة التي تجس وحدها منزوية في تلك الحانة! فبذلك لفتت انتباه إحدى الفتيات، فقالت لفتاها ساخرة:

- أنظر، تلك عجوز تتصبى، ما أمكر نظراتها. . ما لها لا ترقص وإيانا؟!

فتمتمت العجوز:

- أين الذي يراقصني. .؟ إنني مستعدة، حتى لو طلب إلي الشيطان أن أراقصه لما رفضت

عندئذ تقدم رجل غريب، أسمر اللون، يلبس قبعة خضراء واسعة، قامت عليها ريشة طويلة، فانحنى أمام العجوز قائلا:

- أتمنحينني شرف هذه الرقصة؟

. . فرقصا. . وبالرغم من برودة الجو ورطوبة المناخ استمرا يرقصان بنشاط غريب وبشكل عجيب! وكلما تلكأت الموسيقى وفترت قليلا رمى ذلك الرجل الغريب قطعا من النقود الذهبية إلى أفراد الفرقة الموسيقية وأمرهم بالاستمرار. .

أستمر الرقص حتى منتصف الليل! فتوقف الرجل الغريب ثم سحب زميلته العجوز مبتعدا بها عن ذلك المكان! بعدئذ صمتت الموسيقى فمسح العازفون جباههم. ولم يلبثوا أن فتحوا عيونهم داهشين ينظرون إلى الرجل الغريب والعجوز وهما يبتعدان متوغلين في الغابة القريبة! وحين هم الرجل بمفارقه زميلته العجوز تشبثت به قائلة:

- اسمح لي بمرافقتك حتى مسكنك

فقال لها - إن مسكني بعيد، بعيد جداً

فقالت - سأرافقك. لن أتركك ولو كان مسكنك في القطب الشمالي!

فقال - كما تريدين. ألقي نفسك على ظهري. وتعلقي برقبتي جيدا

فلما فعل ضرب الرجل بقدمه اليسرى فانشقت الأرض، ولمع ضوء كضوء البرق، كما دوى صوت كصوت الرعد! فهبط الاثنان إلى أعماق الأرض! كان ذلك الرجل الغريب شيطانا رجيما!

فلما وصل بالعجوز إلى الجحيم، أراد أن ينزلها من ظهره فأبت! فحاول ثانية فعصت! كانت تطوق عنقه بقوة حتى ظهرت عروق وجهه وجبهته زرقاء نافرة! لم تنجح محاولاته الكثيرة. . فطفق يتجول بحمله الثقيل في أشد محلات الجحيم سعيرا وأكثرها أهوالا! لكنها بقيت تطوق عنقه بشدة! حتى ضاق ذرعا فتوجه إلى ملك الجحيم يسأله حيلة يتخلص بها من حمله. فضحك ملك الجحيم من حاله وقال له:

- الطريقة الوحيدة للنجاة - أيها المجنون - هي أن تعود بها إلى الأرض، فتتركها حيثما وجدتها

رجع الشيطان إلى الأرض يصب كل اللعنات الجهنمية على عجوزه وعلى الساعة التي عرفها فيها. فسار في البرية يلهث من التعب، فصادف راعيا شابا يغطي جسده بجلد من جلود الأغنام وما إن رأى الشيطان لاهثا حتى قال له هازئا:

- يا لها من طريقة لحمل النساء الفاتنات!

فقال الشيطان كاتما حنقه - هذه هي الطريقة التي ترتاح إليها عند السفر

أجاب الراعي قائلا - لم أقصد هذا، إن حملك الجميل ثقيل جدا، بحيث جعلك تلهث تعبا، هل أستطيع مساعدتك؟

فلم يكد يسمع الشيطان هذا القول حتى تنفس الصعداء، وأسرع يجيب متوسلا وقد تقاطرت من عينيه الدموع:

- بربك أيها الصديق ارحمني، أشفق علي، فإني أكاد أختنق وأكاد أموت تعبا، إني بحاجة إلى الراحة، ولا أستطيع السير خطوة أخرى. .

حينئذ قرب الراعي رأسه إلى عنق الشيطان، فرأت العجوز في الراعي شابا قويا، له رداء فاخر، فوجدته خيرا من الشيطان، فأسرعت وتركت عنق الشيطان وطوقت عنق الراعي الشاب بقوة شديدة!

فلم يصدق الشيطان ذلك، لم يصدق أنه أصبح حراً، وأنه تخلص من تلك العجوز إلا بعد مرور وقت طويل. .! فشكر للراعي صنيعه، وتناول عصاه وأنشأ يقود القطيع تاركا إياه مع حمله. . خلفه

وبعد قليل رأى الشيطان صديقه الراعي يلحق به راكضا. . وحده! دون أن يرى للعجوز أثراً على ظهره. . ففرك الشيطان عينيه وأعاد النظر! فلم يصدق ما يرى. .! حتى أقترب الراعي وقال:

- لا تدهش فقد تخلصت منها ببساطة. قصدت بحيرة قريبة فنزعت ردائي وكانت العجوز متعلقة بطوقه، فألقيته في أعمق مكان من البحيرة. ولم يلبث الرداء أن طفا على سطح البحيرة تاركاً العجوز تحت الماء. . فأخذته وأسرعت إليك، إذ يجب أن أسرع في إعادة القطيع إلى الحظيرة

أجاب الشيطان مسرورا - إني عاجز عن شكرك، وأرى من الواجب علي أن أرد لك مثل هذا الجميل الذي قدمته لي. . سأتوجه إلى مدينة (براغ) فأحل في جسد ابنة الملك وسيحاول الملك طردي، مستعينا بكافة الوسائل، لكنني لن اترك الفتاة. فسيضطر إلى جعل مكافأة كبيرة لمن يخلص ابنته الوحيدة مني، وما عليك عندئذ إلا أن تأتى أنت، فتهمس في أذن الفتاة قائلا لي (أنا صاحبك الراعي) فأخرج بسرعة فتشقى الفتاة، وبذلك تنال أنت جزاء إحسانك إلي

وما أن أنتهى الشيطان من كلامه حتى واجه الريح، ناشرا ذراعيه، ثم أنطلق طائراً في الجو، وتوارى بعد لحظات

فقطع الراعي مسافات كبيرة متوجها إلى (براغ) حتى وصلها بعد أيام. فوجد السكان محتشدين في كل ركن من الشوارع يتهامسون ويتناقشون! في تلك المصيبة التي حلت بالأميرة ابنة الملك. وبعد قليل توسط الساحة العامة المنادي الرسمي وتلا البيان التالي الصادر من الملك:

(بما أن ابنتنا الأميرة المحبوبة مريضة، قد دخلها شيطان خبيث، فنحن نتألم لأجلها أشد الألم. ونتوقع أن يأتي من يخلصها من ذلك الشيطان. فليسمع جميع أفراد الرعية ويكن معلوما أن من يستطيع ذلك سيتزوج الأميرة في الحال، وسيكون وزيري الأول في إدارة المملكة)

فمضى الراعي ودخل القصر الملكي، فرأى هناك رجلين يضربان بالسياط، جزاء لهما على فشلهما في طرد الشيطان! فأدخل الراعي على الملك. فنظر إليه هذا كأنه يرتاب في صدق زعمه، بيد أنه أدخله حجرة ابنته، إذ كان مستعدا لتجربة كل علاج واتباع كل طريقة. فوجد الراعي الأميرة شاحبة الوجه، مستلقية في فراشها ناظرة إلى الأعلى بعيون شاردة كأنها لا ترى شيئا! فاستدار إلى الملك وطلب إليه أن يترك وحده، فأجيب إلى طلبه وعندما اختلى الراعي بالأميرة تقدم وهمس في أذنيها بما لقنه الشيطان، فأجابه الشيطان (وداعا، أنا راحل، ولكن أعلم أنها المرة الأولى والأخيرة التي أطيع فيها أمرك) وهنا لمع بريق خاطف صاحبه دوي عنيف، أحدثهما انطلاق الشيطان ومروقه من النافذة

فأصبح الراعي زوج الأميرة، كما أصبح الوزير الأول في المملكة، فقضى أياما مريحة هانئا

بعد أن غادر الشيطان جسد الأميرة حن ثانية إلى. . . أميرة أخرى. كأنه وجد لذة في أجساد الأميرات! فقد جاء إلى مدينة (براغ) رسول من المملكة المجاورة يلتمس من الوزير (الراعي) أن يتفضل لإشفاء ابنة الملك التي سقطت طريحة الفراش بعد أن داخلها الشيطان! فتذكر الوزير الراعي ما قال له الشيطان فاعتذر عن إجابة الملك المجاور، فأرسل هذا وفود كثيرة، وألح في الطلب، بيد أن الوزير كان يقول: إنه غير قادر على ذلك (حتى لم يطلق الملك الجار صبرا فأرسل يهدد الوزير بالحرب إذا هو رفض معالجة ابنته فلم يسع الوزير الراعي إلا أن ينزل عن رأيه، فودع زوجته وركب فرسه قاصدا المملكة المجاورة

وعندما أدخل على ابنة الملك سمع صوت الشيطان يصيح به من خلال جسد الفتاة (ماذا تريد؟ إني لن أطيعك هذه المرة أنسيت قولي، أنك فاشل، فأنا سأبقى هنا ولن أفارق الفتاة، فمن الخير لك أن تنسحب). لكن الوزير لم ينسحب، بل صمت مفكرا ثم تقدم وهمس في أذن المريضة مخاطبا الشيطان

- إنني أسف، فلا غاية لي من ذلك أبدا، إني أريد أن أخدمك أنت. ولك أن تبقي حيث أنت، لقد جئت أخبرك - أيها الصديق - أن تلك العجوز لم تغرق في البحيرة، لقد نجت وقد رأيتها تجد السير في طريقها إلى هذا المكان!

وهنا رأى الوزير ستائر النافذة تتمزق شر تمزيق؟ كما رأى العليلة تستوي جالسة، فقد غادر الشيطان. . . وغادر الغرفة بسرعة غريبة، بحيث لم تحدث صوتا ولا ضوء ولا حركة. . إلا أن الستائر تمزقت عند مروقه منها

ومنذ ذلك اليوم لم تعرف تلك البقعة من الأرض مصيبة أخرى من مصائب الشيطان؟

نزيل البحرين

كارنيك جورج ميناسبان