مجلة الرسالة/العدد 98/أيا صوفيا

مجلة الرسالة/العدد 98/أيا صوفيا

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1935



للأستاذ علي الطنطاوي

كنا في (أوتيل مكة المكرمة)، ذلك القصر الفخم، الذي كان للشريف عدنان حمى منيعاً، وحصناً حصيناً، يهاب الجبابرة الدنو من بابه، وتخشى الطير التحليق في سمائه، ويتجنب الناس النظر إليه إلا نظر الخائف الحذر، لأنهم يعلمون أن الكلمة متى خرجت من فم صاحبه كانت كسهم القضاء، من أصابت أصمت، وأنه ليس بين أحدهم وبين أن يقتل أو يدفن حياً في جب القصر المظلم، أو تهب أمواله، أو تحرق دوره. . . إلا أن يشي به إلى الشريف واش، أو تصيبه عرضاً نقمة من نقماته!

وكنا في الردهة الكبرى التي بناها فأجاد بنيانها، وزخرفها فبالغ في زخرفها، حتى كانت تحفة من التحف، وآية من آيات العمران، نعجب من تصاريف القدر، وأحداث الزمان: كيف ذهب الملك، واندثر السلطان، وغدا الشريف الجبار، الذي كان يتبختر في ثياب الوشي، وأردية الديباج، وتمشى أمامه العبيد بالسيوف، والخدم بالمجامر، ويسير وراءه الوجهاء والأعيان. . . كيف غدا بعد هذا الجمال الناظر، عظاماً نخرة، في حفرة مقفرة، وكيف استبدل بالقصر الكبير، هذا القبر الحقير، وكيف ذهب المال والولد، والخدم والعبيد، والحجاب والأعوان، والعداء الأخوان، ومات الحب والبغض، والخوف والرجاء. . . حتى لكأنما لم يمر يوماً سيد مكة وجبارها، وكيف ورثنا القصر أياماً وليالي نطؤه مطمئنين، وننام فيه آمنين، ونأمر فيه مطاعين، لا نذكر صاحبه وبانيه، ولا نقيم له وزناً، ولا نحسب له حساباً!

كنا جالسين مع إخواننا رجال الوفد السوري، نتحدث أن لا بقاء للإنسان. وأن لا خلود في الدنيا، وأن الأيام دول، والدهر دولاب، فكم من عزيز قد ذل، ومن ذليل قد عز، ومن ملوك كانوا أعز من النجم، وأمنع من السحاب، ضاعوا وضاعت ذكراهم، فلا يغرن امرؤ بالدنيا:

فما الدنيا بباقية لحي وما حي على الدنيا بباق ولا يدخرون وسعاً في كسب الذكر للدنيا والأجر للآخرة، فما الحياة إلا حياة التاريخ، وحياة الجنة. . .

وكنت لا أني أسأل عن (الرسالة)، وألح على مدير الأوتيل وهو من المشتركين فيها، أن يأتيني بالأعداد الأخيرة منها، وقد كنت في دمشق إذا تأخرت (الرسالة) يوماً قلقت من تأخرها، وأشتد شوقي إليها، فكيف وقد مرت أربعة أعداد لم أرها؟ صدرت ونحن على هامش الحياة، من وراء حدود العالم، نسير في الصحراء سبعة عشر يوماً من دمشق إلى المدينة، لم نر فيها إلا ثلاث قرى، مالقينا من دونها بشراً ولا شجراً، ولا وحشاً ولا طائراً، وما أبصرنا إلا سلاسل الجبال، وتلال الرمل التي تتعاقب لا حد لها، فتانة متموجة، كأنها قد مرت عليها يد نقاش صناع، سبعة عشر يوماً، ملأت فصلاً طويلاً من سفر حياتي، بأعمق الشعور، وأشد العواطف

فلما جاءني خادم الأوتيل بأعداد الرسالة، أقبلت أصفحها وأقرأ من كل مقالة عنوانها، فرابني منها عنوان مقالة، ما إن قرأتها حتى سقطت الرسالة من يدي وعرتني رجفة وأحسست أن قد دبر بي خبر هائل تصدع له القلوب، قلوب المؤمنين حزناً وألماً، وتندى له الجباه حياء وخجلاً، وتكل عن وصفه الألسنة دهشة وتفظعاً

ذلك إن الجمهورية التركية، لم يشف غيض قلوبها، كل ما صنعته بالإسلام، وما أنزلته بأهله، فعمدت إلى بيت من بيوت الله، تقام فيه شعائر الله، فجعلته بيتاً للأصنام، ومثابة للوثنية، أماتت فيه التوحيد، وأحيت فيه الشرك، وطمست منه آي القرآن، وأظهرت فيه الصور والأوثان، لم تضق بها الأرض حتى ما تجد مكاناً لمتحفها هذا إلا المسجد الجامع، ولكن النفوس الملحدة ضاقت بهذا المسجد، وأحس أصحابها كأن هذه المآذن في عيونهم، وكأن هذه القبة على ظهورهم، وعشيت أبصارهم من نور الله، فأرادوا ليطفئوه بأفواههم، ويمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها أسمه، فعطلت الصلاة في أيا صوفيا فلا تقام فيها بعد اليوم - وسكت المؤذن فلا يدعو في مآذنها إلى الله - ولا يصدع بالتهليل والتكبير، ونأى عنها المؤمنون فلا يدخلونها إلا مستعبرين باكين، يندبون فيها مجد الإسلام، وعظمة الخلافة، وجلالة السلطان، وذل فيها المسلمون وصاروا غرباء عنها وهم أصحابها وأهلوها، وعز فيها المشركون، وشعروا أن أيا صوفيا قد ختمت فيها صفحة الإسلام، باسم هذا الـ. . (أتاتورك) كما فتحت باسم (محمد الفاتح)!

أيا صوفيا التي صيح في مآذنها خمسين وثلاثمائة واثنتين وسبعين وثمانمائة (872350) ألف مرة: حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. . . لا إله إلا الله، فاصطف فيها المسلمون خاشعة أبصارهم مؤمنة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، قد وضعوا الدنيا تحت أقدامهم، ودبر آذانهم، وأقبلوا على الله بخشوع وإخلاص، فجزاهم بما خشعوا وأخلصوا، قلوباً استنارت بالإيمان، وعمرت باليقين، وكان القلب منها وهو يخفق بين جوانح صاحبه، أكبر من الأرض وهي تجري في ملكوت الله. . . فملكوا بهذه القلوب الأرض، وفتحوا بها العالم!

أيا صوفيا التي بات فيها المسلمون سبعين وأربعمائة وأربعاً وسبعين ومائة ألف (174470) ليلة، ولهم في جوفها دوي بالتسبيح والتكبير والتهليل كدوي النحل، وما في أرضها شبر لم يكن موطئ قدم مصل، أو مجلس قارئ، أو مقام ذاكر، أو مقعد مدرس أو سامع، وليس يحصى إلا الله، كم ختم فيها من ختمة، وكم ألقى فيها من درس، وكم ذكر فيها الله، وكم أقيمت فيها الصلاة!

أيا صوفيا التي تشهد كل حجرة فيها، وتشهد أرضها وسماؤها، وتشهد قبتها المشمخرة، وتشهد مآذنها السامقة، ويشهد الناس، ويشهد الله وملائكته، أنها بيت من بيوت الله، وحصن من حصون التوحيد، ودار من دور العبادة. . .

أيا صوفيا. . . تعود للجبت والطاغوت، وتحمل الصور والأصنام، ويخسرها الإسلام والشرق، ليربحها الكفر والغرب؟ لقد أريقت حول أيا صوفيا دماء زكية، وزهقت في سبيل أيا صوفيا أرواح طاهرة، من لدن معاوية إلى عهد الفاتح، إلى عهد عبد الحميد. . . أفراحت الدماء هدراً وذهبت النفوس ضياعاً، وعادت أيا صوفيا بعد سبع وثمانين وأربعمائة سنة وكأنما لم يذكر فيها الله، ولم يتل فيها القرآن، ولم تقم فيها الأئمة، ولم تتجاوب مآذنها بالأذان؟

لقد بنى المسلمون هذا المجد على جماجمهم، وسقوه بدمائهم، وحموه بسيوفهم، ثم وقفوه على الإسلام، أفيأتي في ذيل الزمان، من يعبث بالوقف، ويهزأ بالدماء، ويلعب بالجماجم، ثم لا يردعه رادع، ولا يعظه واعظ؟

ومن هم الأتراك لولا الإسلام؟ على أي حسب يتكلمون، وبأي نسب يفخرون، وبأي ماض يعتزون، وبأي مجد يباهون؟ أبمجد رعاة البقر في تركستان، أم بمجد أرطغرل بك، وقد جاء من مشرق الشمس بدوياً جافياً فقيراً لا يملك إلا أعنة ركائبه، وطنب خيامه، يفترش الغبراء، ويلتحف السماء، فصار أحفاده بالإسلام سادة القارات الثلاث؟ أفرأيت من ينطح برأسه الصخر، ويشرب بفيه البحر، ذاك هو التركي حين ينكر الإسلام، ويسعى لإيذائه. إنه لا يحطم الصخر، ولا يجفف البحر، ولكن يمشي على رأسه إلى القبر، وإن الإسلام إلا يكن بالترك يكن بغيرهم، ولكن الترك إلا يكونوا بالإسلام لا يكونوا والله بغيره أبداً. . .

وعدنا نعتبر ونتحدث أن لا بقاء للإنسان، وأن لا خلود في الدنيا، وأن الأيام دول، والدهر دولاب، فكم من عزيز قد ذل، وكم ذليل قد عز، وكم من ملوك (ورؤساء جمهوريات) كانوا أعز من النجم، وأمنع من السحاب، ضاعوا وضاعت ذكراهم وأن (الشريف عدنان) مهما يكن جباراً قوياً، فنه سيصبح ويصبح أعوانه، رمماً بالية، في حفر خالية، وسيبقى الله، وسينصر دينه، ويؤيد حزبه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)

أيها (الشريف عدنان)! لاتغتر، قد ورثنا القصر، وورثت القبر، وهدمنا ما بنيت، وبنينا ما هدمت. . وما هدمت إذ هدمت، إلا مجدك في التاريخ، وأجرك في الآخرة. . .

مكة المكرمة

علي الطنطاوي