مجلة الرسالة/العدد 98/القصص

مجلة الرسالة/العدد 98/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1935



من أساطير الإغريق

بلوتو يخطف برسفونيه

أسطورة الربيع

للأستاذ دريني خشبة

كانت ديميتير الطيبة، ربة الخيرات ومغدقة البركات؛ الرحيمة البارة؛ ملونة الزهر، ومنضجة الثمر؛ واهبة الحقول خضرتها والبساتين نضرتها. . . كانت ديميتير الطيبة تسكن في قصر منيف يشرف على سهل إنا أروع سهول جزيرة صقلية جمالاً وأعذبها ماء وأطيبها هواءً، وكانت، حين يتنفس الصبح، تلبس تاجها اليانع الذي ضفرته من سنابل القمح، وتتناول باقة من زهرات الخشخاش ريانة، وتقبض بيمينها على صولجانها العتيد، المرصع بالزبرجد، ثم تستوي في عربتها المطهمة فتنطلق بها الصافنات الجياد تجوب أنحاء الأرض، وتمر بكل مزرعة، وتقف عند كل كرمة؛ تهب القمح من نفحاتها فيربو، والثمر من بركاتها فيزكو، والينع من أنفاسها فيطيب. ثم تعود إذ يجن الليل، فتهرع إليها ابنتها الصغيرة برسفونيه فرحة متهللة، لافة ذراعيها الجميلتين حول ساقي أمها، كأنما تبثهما ما في قلبها الصغير من لوعة وغليل!

وكانت الفتاة - برسفونيه - تقضي ساحبة النهار، إلى أن تؤوب أمها، في سرب من أترابها، بنات الغاب الحسان؛ فيظلن يقطفن الزهر، ويجمعن الرياحين، ثم تنشب بينهن معركة حامية من معارك الطفولة، وملحمة صاخبة من ملاحم الصبى؛ فيتراشقن بالورد، ويترامين بالزنبق الغض، ويتضاربن بأفواف السوسن. . . وهن فيما بين هذا وذاك يقرقعن بالضحك، ويتبادلن النكات، ويتغنين الأغاريد؛ فتستجيب الغابة لهن، وتترقرق الغدران من تحتهن، وتهدل الأطيار من فوقهن، وتمتلئ الدنيا حولهن نشوة وحبوراً

وكأن بلوتو: إله الموتى، ورب الدار الآخرة؛ قد مل هذا السكون المخيم في مملكته تحت الأرض: هيدز، وسم هذه الأشباح التي تطيف به هنا وهناك في الظلمات المحيطة به، وأرواح الموتى تئن وتتوجع في كل مكان من ملكه القابض الحزين؛ فأسرج عربته الضخمة، وألهب جيادها بسياطه القاسية، فانطلقت تعدو به إلى. . . الدار الأولى. . . هذه الحياة الدنيا!!

خرج بلوتو يروح عن نفسه، وينشق هذا النسيم الحلو الذي يغمر ملكوت أخيه زيوس، ويروي روحه الظامئة بالتفرج على عرائس الماء وبنات الغاب، إذ أبين جميعاً أن يشاركنه ملكه الرحيب، ورفضن التزوج منه، برغم ما أغراهن به من اللآلئ واليواقيت

وفيما هو ينهب الأرض بعربته، إذا به يسمع في غيضةٍ قريبة، ضحكات مرنة، وأصواتاً موسيقية متقنة، وأحاديث كأنها دنانير من ذهب في كف صيزفي حذق! فساقه الفضول إلى استكشاف أولئك الغيد اللائي يتضاحكن هكذا، كأنما يترنمن بالشدو، ويرجعن بالغناء! ففرق العساليج التي كانت تحجبهن، فرأى البدور البيض يتلاعبن على الحشيش الأخضر، كأنهن نغمات حلوة تنطلق من أوتار أرفيوس!

وجن جنون بلوتو!. . . وأقسم ليخطفن هذه الفتاة الخدلجة الممشوقة، التي تدل على الجميع كأنها فينوس في دولة الحب، أوديانا تخطر بين أماليد!

(إلام أظل في هذا الديجور الحالك وحدي؟! وحتام أقاسي منفاي السحيق من غير صديق أو رفيق؟! وما قيمة ملكي الشاسع، وأنهاري الفائرة بالحمم، مادمت لا سمير لي ولا مؤنس، إلا زبانيتي وكلابي؟ وإلا شارون المسخ الكئيب؟

لقد مللت! ولا بدلي من هذه الكاعب الحسناء، والغادة الهيفاء!

إن لها لفماً رقيقاً. . . . وإنها لتتثنى كالغصن، وتخطو كالقطاة!

يا للثدين!

مالهما بارزتين هكذا؟ أتطلبان حضناً قوياً كحضني؟ أم يملؤهما لبن الآلهة، ورحيق السماوات؟!

يا للفخذين الملتفتين الممتلئتين!!

إنهما مترعتان باللذة، فياضتان بالإغراء والترغيب! مالهما تنفجان شهوة هكذا؟!

وهاتان حماتا الساقين! ويلي عليهما وويلي منهما!!

إنهما حماتان خبيثتان كأبرع ما تنحت يدا فنان! إنهما تمتلئان لذاذة، وتطلقان رقي السحر في قلوب الناظرين! كورتا تكويراً خفيفاً من فوق، وانعقد دهاء الفتنة عند التفاف العضل فأفعمهما رغبة واشتهاء!!

وقدماها!!

يا للكعبين المستديرين، والجنة النائمة فيهما!!

والذراعين الناعمتين!

والظهر العاجي الناصع!

والشعر الذهبي الذي يداعبه النسيم كأنه خصلة من ظلال الخلد!

ويلي!

أنا لا أري إلا هذه الأعضاء السابية، وأغفل عن هذه الابتسامة التي ترف حول الفم!!

إنها أجمل من زهرة التفاح في أوائل شهر مايو، وأرق من بتلات أزهار اللوز في شهر أبريل!!

تلمظ يا فمي فإنك ظمئ إلى قبلة تطبعها على هاتين الشفتين الأقحوانيتين!

وسمع إحدى الفتيات تناديها: (برسفونيه! أنظري! هاك بنفسجةً حلوة!)

فتحدث إلى نفسه:

(برسفونيه!

هذه عروس الربيع إذن! ابنة ديميتير من أخي زيوس!

لقد كبرت وترعرت، ونهدت؛ وطابت في جسمها البض ثمرة الحياة!!

اغفر لي يا أبي ساترن! سامحيني يا رها!

سأخطفها! سأجلسها بجانبي على عرش هيدز! ستصبح مليكة دار الموتى! ستنقشع ظلمات ملكوتي بوجهها المشرق الجميل

لن أشعر بشقوة، ولن أحس خباء في ملكي!! إنها ستكون جوهرة التاج، وفتنة العرش، وستسجد الأرواح تحت قدميها المعبودتين!!

سأترك لها أن تغفر وتثيب، وسأدع لها مقاليد السفل تصنع فيه ما تشاء!)

ثم ألهب جياده فانطلقت نحو الفتيات، ولشد ما تفزعن إذ لمحن وجهه الأغبر، يتدلى عليه شعره الأشعث؛ والظلال المظلمة تتخايل فوق جسمه البار كالسمادير!

ولقد كان كلبه سير بيروس، ذو الرؤوس الثلاثة، يلقى الرعب في القلوب! وفر الحسان مذعورات. . . . إلا برسفونيه، فقد قبض بلوتو على ذراعها الرخصة، وجذبها إليه في العربة، وذهب يسابق الربح ويلاحق البرق، حتى اعترضه ماء نافورة أخذ عليه سبيله. وسرعان ما فار الماء كالتنور، وصار يغلي كالحميم الآن، حتى خشى بلوتو الجبار أن يعبره، وأوجس، إن هو انثنى يبحث عن طريق آخر، أن يضيع الوقت، وتفلت الفرصة، وتروح ديميتير تفتقد ابنتها حتى تستنقذها من يديه. فتناول صولجانه الهائل، وضرب به الأرض فرجفت وزلزلت، وانشقت عن أخدود كبير بعيد الغور. . .

وكانت برسفونيه قد أفيقت من هلعها، فلما رأت النافورة تغلي وتصطخب، أدركت أن إحدى عرائس الماء قد عرفت من أمرها كل شئ، وأنها قد تستطيع أن تؤدي لها خدمة في ذلك المأزق الحرج، فحلت (برسفونيه) زنارها الحريري الأبيض وألقت به عند ضفاف النافورة عسى أن يصل يوماً إلى أمها عن طريق هذه العروس، فتعلم أين هي، وماذا تم من أمرها

وانطلق بلوتو في ظلام الأخدود حتى وصل منه إلى مملكته. . هيدز! فاستوى على عرشه مثلوج الصدر خفاق الفؤاد!

ثم طفق يترضى برسفونيه بشتى الوسائل، وهي ما تزداد إلا شماساً ونفوراً. . . طاف بها أرجاء مملكته الشاسعة، وأراها شطئان ستيكس وأشيرون وليث، وسائر أنهار الجحيم؛ ثم خاض بها وادي الأفاعي والعقارب، ومدينة الزنابير واليعاسيب، والدرك الأسفل من النار حيث يأوي المنافقون والكذابون، وحديقة الخونة واللصوص ذات الأشجار من لظى ولهب. . . ولم يفقه المغفل أنه كان يضاعف فزعها أضاعفاً مضاعفة كلما مر بها على منظر جديد من ملكه البغي!!

وعادت ديميتير في المساء، ولكن برسفونيه لم تهرع للقائها كعادتها؛ فحسبتها نائمة. . . بيد أنها لم تجدها في مخدعها، فافتقدتها في جميع الغرفات، ولكن عبثاً حاولت أن تقف لها على أثر! فاضطربت نفسها بالوساس، وخرجت تبحث عنها في الحديقة، فلم تجدها كذلك!

ريعت الأم وارتعدت فرائضها، وانطلقت تعدو وهي تصيح كالمجنونة:

(برسفونيه! برسفونيه! أين أنت يا برسفونيه!) ولكن لسان الصدى - إيخو - وحده الذي كان يردد نداءها. . . . .

ووصلت إلى ابن أخيها هيفيستيوس إله النار فأعارها شعلة عظمية تنير لها ظلمات العالم، ودياجير الليل، عسى أن تهتدي إلى برسفونيه

جاست خلال الغابات، واخترقت الأودية. وفتشت الشطوط، ونفذت إلى أعماق الكهوف، وجالت في مهاوي الجبال، ورقت إلى شعاف الآكام. . . وبحثت عنها في جميع الآفاق. . . فلم تعثر به!!

استعانت بالآلهة، واستنجدت بعرائس البحار، ولكن جهودها ضاعت عبثاً. . .

وجلست ديميتير كاسفة البال ملتاعة القلب، تعلو جبينها عبوسة قمطريرة، وتنوء بروحها آلام وأشجان. . . وأضربت عن الطعام، وآلت لا ينضر حقل ولا يذر نبات، ولا تثمر شجرة، ما دامت ابنتها نائية عنها.! فجفت السهول، ويبست سوق الحنطة قبل أن تؤتى أكلها، وخرقت البساتين دون الثمر، فعجف الناس، وضمرت بهيمة الأرض، ونشر الجوع ألوية الخراب في العالمين!!

وانصرف الناس يصلون لزيوس، ويضرعون لديميتير، ولكن الحزن صرفها عنهم، فلم تسمع لصلاتهم ولم تلب ندائهم. . .

وفيما كانت تجوب القفار، وتطوي المهامه البيد، إذا بها تصل إلى النافورة التي ألقت عندها برسفونيه بزنارها

وإنها لتجلس عند حفافيها تفكر في أعز البنات، إذا بعروس الماء أريثوذا؛ التي لمحت بلوتو يخطف برسفونيه، والتي أهاجت النافورة لتقطع عليه سبيله، تظهر من الماء فجأة لترى من هذه الجالسة عند دارتها تئن وتتوجع؛ وتعلم أنها الربة ديميتير وأم الفتاة، فتتحدث إليها قائلة: (ديميتير! عزيز علينا أن تجزعي هكذا؟! طيبي نفساً وقري عينا، فإن بلوتو رب هيدز هو الذي خطف برسفونيه! وهاك زنارها شاهدي على ذلك! ولقد تبعتها إلى الدار الآخرة أحسب أني أستطيع أن أؤدي لها يداً أو معونة ولكن الإله القاسي أغرى بي زبانيته، فانطلقت مذعورة من اللعين ألفيوس. . . . وعليك أن تخلصي الفتاة فنها لا تذوق طعاماً، ويكاد الحزن يصعقها برغم أنها أصبحت مليكة دار الفناء

وتناولت ديميتير زنار ابنتها فعرفته، ثم طفقت تلقيه على عينيها وصدرها. . . ساكبةً دموعها الغوالي! وقصدت من فورها إلى زيوس فحدثته بما قالت عروس الماء أريثوذا، وأقسمت لديه، إن لم يأمر أخاه برد برسفونيه، لتهلكن عباده جوعاً، ولتجعلن وجه الأرض فدفداً يبابا. . . لا تسمن بزرع، ولا تروي بضرع!!

فتأثر زيوس من قولها، وابتسم ابتسامة حزينة، ثم قال: (لا بأس من عودة برسفونيه إذن. . . . ولكن! على شريطة ألا تكون قد ذاقت طعاماً في هيدز، مملكة أخي! فإنها، إن كانت قد فعلت، لا تصلح للحياة في هذا الدار الأولى!)

ولسوء الحظ، كانت برسفونيه، بعد امتناعها عن ذوق شيء من طعام هيدز طوال هذه الأشهر، قد أكلت في نفس ذلك اليوم الذي وعد فيه زيوس بعودتها إلى الدنيا ست حبات من الرمان فحسب! فلما علم زيوس بذلك، عدل حكمه، فقضى أن تلبث برسفونيه في هيدز عند شقيقه بلوتو ستة أشهر من كل سنة، أي شهراً بكل حبة مما أكلت!! وتعود إلى أمها فتلبث معها ستة أخرى؛ فيعود بعودها الماء إلى الزروع، والأزدهار إلى الحدائق، والشبع والثروة إلى الناس، ويكون عودها ربيع الحياة وبهجة الأرض

عاشت برسفونيه ربة الربيع! ولا طال عن الناس مغيبها في هيدز. .! عند الشرير بلوتو. . . الذي حرم الحياة من أن تكون ربيعاً كلها!!

دريني خشبة