مجلة الرسالة/العدد 981/في تأبين الدكتور زكي مبارك

مجلة الرسالة/العدد 981/في تأبين الدكتور زكي مبارك

مجلة الرسالة - العدد 981
في تأبين الدكتور زكي مبارك
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 04 - 1952



المجد الطموح الجريء

للأستاذة زينب الحكيم

عرفت الدكتور زكي مبارك بالسماع به والقراءة له في بادئ الأمر، فقد كان له جيل من القراء والمعجبين، كما كان له حلقة من المنافسين المحنقين.

فلما رأيته. . وجدته رجلا متقشفا أشد ما يكون التقشف، فوقعت في حيرة شديدة، لأني عرفته غير هذا في كتابه (النثر الفني) الذي كنت سأشترك في تقريظه بعد أيام قلائل، وحدث أن اجتمعنا في الندوة، وتجلت شخصية زكي مبارك، وفاض علمه واطلاعه في الردود المفحمة التي واجه بها كل ما دار حول كتابه وكسب المعركة. ولا غرابة في ذلك فهو ابن الأزهر المجتهد المستوعب، وابن الجامعات المصرية والفرنسية، وابن جامعة الحياة العملية والصحافة. رجل نابه من الريف ينزح إلى القاهرة للتعلم، لم يتملق عظيما ولم يستجد ثريا لينجح في دراساته أو لينال رزقه. . . إنما هو رجل نجح نجاحا عزيزا مشرفا؛ فإذا لم يكن في حياة الدكاترة زكي مبارك إلا هذا، وإلا أنه شق طريقه بالنحت بأبرة في صخور الحياة الصلدة لكفاه فخرا وخلودا فكيف بنا وزكي مبارك له فلسفة، ولقلمه مدرسة، ولنفسه طموح وجموح وثورة؟! أودع كثيرا من كله مؤلفاته العديدة، ومقالاته العتيدة.

في ذمة الله الكريم فتوة ... سكنت ولما تنته النهضات

في ذمة الله الرحيم فتية ... شبل ينعم درسه وفتاة

في ذمة الله العزيز فقيدنا ... وعليه من رب العلا الرحمات

يا آله لا تجزعوا إن الذي ... في الخلد ذكراه إليه حياة

أيها السادة والسيدات:

أهدي إلى المبارك مجلدات (ليلى المريضة في العراق) ومما رأيته على غلاف الجزء الأول منها لعلي الجازم بك ما يأتي: - (لقد ابتكر زكي مبارك فنا جديدا حين نقل الغزل والتشبيب من الشعر إلى النثر) وهذه شهادة من أديب لا يستهان بها.

وكنت أتمنى لو أن زكي مبارك لم يسرف في هذا، فإن العبقرية الجامحة يجب أن تنظ وأن تلتزم قواعد وحدودا، ولا سيما وليس عندنا معاهد للنوابغ ترعى نبوغهم. وتحرص على توجيههم.

أنظر إلى نتاج تجارب زكي مبارك فيما قاله في الجزء الثاني من كتاب ليلى: -

(أنا أشرب المر من عصير الحياة لأحيله على سنان القلم إلى شراب سائغ للشاربين) إن هذا القول يدل فعلا على أن الدكتور زكي قد ضحى بنفسه في سبيل غيره

قابل قوله هذا بقول من قال:

لا أذود الطير عن شجر ... ذقت (طعم) المر من ثمره

لترى مقدار تضحية زكي، ومبلغ أنانية غيره. لقد أوذي زكي مبارك في سبيل النقد الأدبي. . . والنقد في الشرق ليس بمستساغ، ولا يقبل على أحسن وجوهه.

لهذا حمل زكي أعصابه فوق طاقتها، وظلم وقته ونفسه؛ فهل ولكنه بئس؟ كلا، وإنما أفلت زمام نفسه من يده في أحد أطرافه، ولكنه قبض تماماً على باقي نواحي نفسه الذكية السامية.

استمع لبعض ما قال عن النواحي الإنسانية في الرسول حيث تتجلى فلسفته، وتنجلي عبقريته في إحدى مقالاته الفريدة:

1 - (يا محمد إنك إنسان ونبي، والنبوة عهد من عهود العظمة الإنسانية، إنك آية من آيات التاريخ.

2 - أحبك أيها الرسول لأنك كنت إنساناً له ذوق وإحساس، ولم تكن كما يصورك الجاهلون الذين رأوا عظمتك في أن تكون حاليا لوحي السماء - وما أنكر وحي السماء - ولكني أمن بأن في السريرة الإنسانية ذخائر من عظيم الصدق والروحانية، وأنت أول من أعز السريرة الإنسانية.

3 - أحبك أيها الرسول وأشتهي أن أتخلق بأخلاقك السامية، وأحب بنوع خاص أن أوفر من الشيطان كما فررت منه. . حتى أسلم بجهادي من شهوات النفس كما سلمت بجهادك من شهوات النفس.

4 - أحبك لأنك أعززت الشخصية الإنسانية يوم اعترفت بأنها صالحة للخطأ والصواب.

ولكن ما رأيك فيمن يقاومون الحرية الفكرية باسم الغيرة على دينك؟ وما رأيك فيمن يحاربون الفنون والآداب باسم الدين؟

5 - لقد فكرت مرات كثيرة في الاقتراب من روحك، فلم يعقني لأن بيني وبينك وشيجة من الإنسانية.

6 - ودعاني الشوق إلى مسافرة خيالك، فرأيتك إنساناً كاملا لا تقع عينيه على غير الجميل من شمائل الأصدقاء.

7 - وصحبك في إحدى غزواتك فهالني أن تكون رجلا نبيلا يصبر على الظمأ والجوع والأذى في سبيل الحق.

وشهدتك يوم الموت وأنت تواسي ابنتك فتقول:

(لا كرب على أبيك بعد اليوم) فعرفت أن الكرب في الدنيا مقصور على الرجال.

أيها الناس: هذا طرف عابر من حياة وعبقرية وفلسفة زكي مبارك. . فيها عظة وعبرة، وتدل على مبلغ ما خسرناه بموته، ولكن الحياة حق كما أن الموت حق (والله خلقكم ثم يتوفاكم) وزكي مبارك لم يمت فهو حي في قلوبنا ومشاعرنا - والسلام

زينب الحكيم