مجلة الرسالة/العدد 982/شعراء من أشعارهم
مجلة الرسالة/العدد 982/شعراء من أشعارهم
عدي بن زيد العبادي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
تتمة البحث
فأنت ترى عدياً في القصيدة السابقة قد ذكر الأكاسرة والقياصرة، وذكر قصة رب الحضر، وذكر قصة رب الخورنق، وهو يعرف أنهم جميعاً قد ذهبوا، وألوت بهم الأيام كما تلوي ريح الصبا وريح الدبور بالأوراق الجافة، وقد كانت زاهية يوما، يانعة يوماً، جميلة مبهجة للنفوس والقلوب يوما، وهذا هو ديدن الأيام، فمن يبقى على الدهر، ومن خلدته المنون؟
والحضر كان قصراً بين دجلة والفرات، وأخو الحضر الذي ذكره عدي هو الضيزن بن معاوية ملك تلك الناحية وسائر أرض الجزيرة حتى بلاد الشام. وقد أغار فأصاب أختا لسابور الجنود، وفتح المدن، وفتك بها. ثم إن سابور جمع له، وسار إليه، وأقام على الحضر أربع سنين لا يستغل منهم شيئاً، حتى دلته النضيرة بنت الضيزن - وكانت صبيحة الوجه جميلة، وأحبت سابور حين رأته وأحبها - وأعانته، ففتح المدين وقتل الضيزن يومئذ
والخورنق قصر النعمان بن الشقيقة. وسبب بنائه أن يزدجرد بن سابور كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مرئ صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة. وكان عامله في الحيرة على أرض العرب النعمان بن الشقيقة. فأمره أن يبني الخورنق مسكناً له ولا بته بهرام جور وينزله إياه معه. وكان الذي بنى الخورنق رجلاً يقال له (سنمار)، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال لهم لو علمت أنكم توفوني أجرتي وتصنعون بي ما أستحقه، لبنيت بناء يدور مع الشمس حيثما دارت، فكرهوا منه تقصيره وأمروا به فطرح من أعلى الجوسق
وقد تناول الشعر قصة سنمار هذه، وضربه مثلا للرجل المجحود الفضل المنكر الجميل، فقال أبو الطمحان القيني:
جزاء سنمار جزوها، وربها ... وللات والعزى، جزاء المكف وقال سليط بن سعد عن أبي الغيلان وبنيه حين جحدوه فضله وجميل فعله، وقد أخذ منه الكبر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزي سنمار
وقال آخر وقد جوزي بسوء، يدعو على من أساء إليه بعاقبة كعاقبة سنمار:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار، وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة ... يعلى عليه بالقراميد والكسب
ورب الخورنق أعجبه قصره حين أشرف من أعلاه يوما وسره ماله وكثرة ما يملك، والبحر يجري عريضاً من تحته، والفلاح، والملك، والنعمة؛ حين رأى كل ذلك وتبصر فيه ارعوى قلبه، وفكر في فنائه وفناء الإنسان. ويقال أنه نزل من الجوسق وانطلق إلى الصحراء ولم يعثر له على خبر
فعدي بن زيد كان يعرف الشيء الكثير. وكان يميل إلى أن يفلسف ما يعرفه ويستنبط منه القواعد العامة والنتائج المحتومة. فرأى الكبراء والعظماء والآثار تحور إلى وادي الفناء، ورأى أن الملك لا ينفعه ملكه، والحصن لا يحمي سيده، والقصر لا تدوم مسراته ونعماؤه، ورأى كل حي إلى الفناء يصير، ورأى أن الخاتمة هي الهلاك والانطفاء، ورأي أن المنون يترصد للناس، ورأى أن الزمان لا يبلغ الإنسان ما يشتهيه ويأمله، فانطوت نفسه على آماله ومطامعه بائسة محزونة، وعرض هذا كله في شعره
وقد أثرت حوادث الزمان في عدي بن زيد تأثيراً كبيراً. وكان هو ميالاً إلى استخلاص الحقائق الدائمة من هذه الحوادث العارضة. وهو في هذه الأبيات التالية يقدم لنا عصارة حياته وخبرته المستمرة بالحياة وأبنائها:
فنفسك فاحفظها عن الغي والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي
وإن كانت النماء عندك لامرئ ... فمثلاً بها فاجز المطالب وازدد
إذا ما امرؤ لم يرج منك هوادة ... فلا ترجها منه، ولا دفع مشهد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا أنت فاكهت الرجال فلا تلع ... وقل مثل ما قالوا ولا تتزيد
إذا أنت طالبت الرجال نوالهم ... فعق ولا تأت بجهد فتنكد ستردك من ذي الفحش حقك كله ... بحلمك في رفق ولما تشدد
وبالعدل فإنطق إن نطقت ولا تلم ... وذا الذم فاذممه وذا الحمد فاحمد
ولا تلح إلا من ألام ولا تلم ... وبالبذل من شكوى صديقك فاقتد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن ييسر في غد
وللخلق إذلال لمن كان باخلا ... ضنينا، ومن يبخل يذل ويزهد
هذه الحكمة الرائعة إنما هي خلاصة تجارب عدي في حياته بعد أن بلا مر الناس ومر الأيام، وبعد أن لم تحقق له الأيام ما يصبو إليه، وبعد أن تبصر في مصير الناس - فقراء وأغنياء - بعد هذا كله، وبعد أم كون رأياً عاماً وفلسفة كاملة، لم ير خيرا من هذا الذي قدمه لنا في أبياته السابقة. وهي فلسفة تحنو على الضعيف، وتدعو إلى الرفق والحلم، وتعترف بتقلبات الأيام واختلاف الحظوظ، وترى أن أخذ الحياة بالجد والحيطة أتم وأرفق، وترى أن تكافئ الإحسان بالإحسان، وأن تؤدب نفسك، وتحفظها عن الغي والضلالة. والمعنى السارب في هذه الأبيات هو كف النفس وأخذها بالحكمة والحزم والحذر
وكان طواف عدي بالبلاد نعمة عليه ونقمة أيضاً. نعمة عليه لأنه اتسعت مداركه، وعرف كثيراً، وأحاط بكثير من أحوال الملوك والدول، وصقل نفسه وهذب عواطفه. ونقمة لأنه عرف كنه كثير من الأشياء، وعرف إختيان الناس بعضهم بعضا، وعرف كثيراً من الأحوال المشجية والمبكية، وهذا جعله يسئ الظن بالأيام والناس، فاصطبغت نظرته إليهما باليأس والقنوط. ونقمة لأن خلاطا بالناس، واختلافه إليهم واختلافهم إليه، وهم ذوو ألسنة متعددة ولغات متباينة وثقافات مختلفة، أثر في عربيته إلى حد دعا إلى الاحتراس منه. لأن طول العشرة ودوام المخالطة يدعوان الإنسان - رضا أو كرها - أن يأخذ عن مخالطيه ومعاشريه كثيراً، يأخذ من عاداتهم وآدابهم، ويتأثر بأذواقهم، وينحو منحاهم، ويميل إلى ما يميلون إليه، وقد يستعير منهم بعض ألفاظهم، ويصوغ أساليبهم، فتتأثر بذلك لغته، ويدخلها وهن لم تكن تعرفه من قبل
وهذا ما حدث لعدي بن زيد. وهو نفسه ما دعا ناقدي العرب إلى التنبيه إليه والاحتراس منه، فهم قد انتقصوه وحذروا من الاحتجاج بشعره، وذلك لخلطه بكثير من غير العرب من الفرش والروم فعدي (كان يسكن الحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه واحتمل عنه كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة)
وهو (شاعر فصيح من شعراء الجاهلية. وكان نصرانيا وكذلك كان أبوه وأمه وأهله. وليس ممن في الفحول. وهو قروي. وكانوا قد أخذوا عليه أشياء عيب فيها. وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء، بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولا يجري معها مجراها)
ومما يعاب عليه من شعره قوله داعيا النعمان إلى الصفح عنه:
أجل نعمي ربها أولكم ... ودنوي كان منكم واصطهاري
يدعو النعمان إلى الصفح عنه من أجل نعمة قد تعهدها آباء النعمان، ومن أجل قربه منهم، ومن أجل مصاهرته إياهم. والمقصود من الاصطهار هنا المصاهرة. ولكن كتب اللغة لم تذكر لاصطهر معنى سوى ما جاء في قولهم: (اصطهر أي أذابه وأكله) ولو قال (وصهاري) لصح المعنى واتزن البيت
وذكر بعض الفارسي في شعره، وذلك حين وصف السحاب المتراكب، فوق رأس شيب، والبرق في السحاب يلمع لمعان السيوف، ويظهر صفحة الثوب المصون:
أرقت لمكفهر بات فيه ... بوارق يرتقين رؤوس شيب
تروح المشرفية في ذراه ... ويجلو صفح دخدار قشيب
والدخدار الثوب المصون وهو فارسي معرب، وأصله تحت دار
وهم يعدون من شعره أربع قصائد غرر:
الأولى يقول فيها:
أيها الشامت المعير بالده ... ر وأ أنت المبرأ الموفورظ
أم لديك العهد الوثيق من ال ... أيام؟ بل أنت جاهل مغرور؟
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟
وفي الثانية يقول:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أدنى ضحى الغد
ذريني فإني إنما لي ما مضى ... أمامي من مالي إذا خف عودي وحمت لميقاتي إلى منيتي ... وغودرت إن وسدت أو لم أوسد
وللوارث الباقي من المال فاتركي ... عتابي فإني مصلح غير مفسد
ومن الثالثة:
لم أر مثل الفتيان في غبن ال ... أيام ينسون ما عواقبها
ومن الرابعة:
طال ليلي أراقب التنويرا ... أرقب الليل بالصباح بصيرا
ومن المعاني معان مجدودة، تسير من مكان إلى مكان، وتتناقلها الألسنة، من هذه المعاني المجدودة المعنى الذي أورده عدي بن زيد في قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
فقد ورد على لسان الأحنف بن قيس في قوله:
(من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء. ومن غص بالماء فلا مساغ له. ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه)
وقال العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عودي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال آخر:
كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار!
وقال غيره:
إلى الماء يسعى من يغص بريقه ... فقل أين يسعى بغص بماء
محمود عبد العزيز محرم