مجلة الرسالة/العدد 982/كلمة أخرى

مجلة الرسالة/العدد 982/كلمة أخرى

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 04 - 1952



للأستاذ علي الطنطاوي

سيدي الأستاذ عبد الجواد رمضان

ما تشرفت بمعرفة شخصك، ولكن تشرفت بتلاوة فضلك الذي يدل على فضلك ونبلك، وأنا أعترف يا أستاذ أني لم أقرأ مقالات أخي الأديب الضليع الأستاذ محمود شاكر في (المسلمون) ولم أطلع إلا على الجزء الأول من هذه المجلة، ولست مشتركاً فيها (مع الأسف)، ولا تباع في مكتبات دمشق فأراها، ولا أقول بذم أحد من الصحابة فضلاً عن القول بكفره والعياذ بالله أو نفي الإسلام عنه، ولا أنتقص بني أمية أقدارهم ولا أسلبهم فضائلهم، ولئن كنت كتبت مقالة في تمجيد بني أمية بالحق، لأكتبن مقالة في نقدهم بالحق. وما بنو أمية ولا غير بني أمية، ولا شيء في الدنيا إلا وفيه ما يمدح وما يذم، والكمال المطلق لله وحده، والعصمة للأنبياء. ولقد قال مثل مقالتي رجل فأنكرها عليه، ثم قبلها منه - من هو خير مني ومنك، ومن أهل الأرض: محمد رسول الله، حين قال له الرجل: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت.

فقال الرسول صلوات الله عليه: إن من البيان لسحرا.

فليس يرد على ما أوردته من فضل معاوية ومناقبه، ولست أنكره، ولكن قل لي: هل تنكر أنت أن معاوية بشر يخطئ ويصيب؟ وهل تنكر أن الإسلام حجة على معاوية، ومعاوية ليس حجة على الإسلام؟

فما حكم الإسلام في البدعة التي ابتدعها معاوية؟

هذا هو موضوع الكلام

لقد قبض رسول الله ولم يستخلف، واستخلف أبو بكر، وتركها عمر لمجلس الستة، كل هذا معروف ولكن هل نال عمر الخلافة بعهد أبي بكر؟

لا يا أستاذ. وهذه الأخبار استقصيتما في كتابي (أبو بكر) وكتاب (عمر) وقد جمعت فيه ما تفرق من سيرة عمر في سبعين ومائة كتاب، وعوزت كل جملة فيه إلى مصادرها، والأخبار كلها على أن أبا بكر لما أحس الموت أمر الناس أن يختاروا لأنفسهم، فتركوا ذلك إليه، فاختار عمر وعرض ذلك عليهم فقلبوا به، فلما مات بايعوه فصار خليفة بالبيعة، أي بالانتخاب الحر، لا بالعهد، وكذلك كان عثمان بن عفان خليفة من بعده بالبيعة، إن الإسلام لم يحدد أسلوب الحكم، وترك ذلك لرأي الأمة، ولكنه وضع أساساً لا يمكن إقامة الأمر إلا عليه، وهو الشورى والانتخاب الحر، فإذا انتخبت الأمة رجلاً وبايعته حرم الخروج عليه، ومنازعته الأمر، لئلا تعم الفوضى، والفوضى أكبر ضرراً على الأمة من الاستبداد

ومعاوية جاء ببدعتين:

الأولى: أنه انصرف عما وضع في عنقه من أمانة الحكم، والنظر لمصلحة الأمة، إلى تمهيد الأمر لابنه يزيد من بعده، جمع لذلك فكره، وسخر لذلك ماله وسلطانه، فصارت سنة من بعده، أدت إلى إضاعة أمر المسلمين بانصراف الخليفة عنه إلى أمر ولده، وإلى تولية من لا يصلح للولاية

الثانية: أنه حول الانتخاب الإسلامي الحر الصحيح إلى نوع من الترغيب والترهيب والتدخل، ولو أن المسلمين كانوا أحراراً في انتخاب من يخلف معاوية ما انتخبوا يزيد، ولا يخلو من فضائل. ولكن هل كان يزيد أتقى الناس؟ أو هل كان أعلم الناس؟ أو هل كان أحق الناس بالخلافة؟

وهل سار يزيد بالدولة سيرة أبي بكر وعمر؟ أم أظهر المحرمات، وجرأ الناس على الباطل؟ ومن أطلق لسان الأخطل الشاعر النصراني في أنصار رسول الله إلا يزيد؟ من فعل بالمدينة ما لا تفعله الروم والمغول إلا يزيد؟

إنه إذا قيل عن الأسود أبيض، يقال عن الأبيض لا محالة أسود. فإذا كانت حكومة يزيد وأمثاله حكومة إسلامية، فإن حكومة عمر لا تكون إسلامية لأنهما متناقضان مختلفان

وإذا كان عهد معاوية إلى يزيد من الإسلام، فإن صرف عمر الأمر عن عبد الله ليس من الإسلام. هذا إن كانا متشابهين متكافئين، فكيف وهذا يزيد، وذاك عبد الله!

وأنت تذكر يا أستاذ أن الذي قال عن معاوية، لقد جعل الأمر كسر وياً قيصرياً ليس على الطنطاوي! وأنت تعلم يا أستاذ رأي عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين في أهله من بني أمية، وفي حكمهم، وفي الحجاج وأمثاله خاصة!

وأنا أشكر لك نصحك الناس ألا يلوثوا ألسنتهم بدماء القوم، وأنا أول من يسمع هذا النصح، وما بي والله عداوة الأمويين، ولا محبة غيرهم، ولكن المقام مقام الدفاع عن الإسلام، ببيان حكمه في حكم بني أمية، لئلا يحمل أحد سيرتهم على الدين فيقتدي بهم، فيضل عن سبيل الحق

علي الطنطاوي