مجلة الرسالة/العدد 983/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 983/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 983
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1952



للأستاذ عباس خضر

الأزهر قبل (بريل):

زارت مصر أخيراً الكاتبة الأمريكية الصماء العمياء البكماء (هيلين كلير) وقد نقل الصحفيون، وتحدثت في نوادي القاهرة، عن كفاحها السياج الكثيف الذي ضرب بين حواسها الثلاث وبين الإدراك، فإذا نجاحها معجزة ومفخرة، وإذا بصيرتها تستشف - بواسطة اللمس - من الحقائق وفنون المعرفة ما يقصر دونه إدراك ملايين من ذوي الحواس الخمس. .

وقد عنيت (هيلين كيلر) الإنسانة العظيمة بموضوع العناية بذوي العاهات في مصر، فوقفت على القدر اليسير الذي تبذله الحكومة المصرية في هذا السبيل، فاستشعرت لطف حسها واصطنعت اللباقة في الثناء على ذلك (الجهد) وفي الحث على المزيد منه، ومما لاحظته أن المعاهد والدور التي تعنى بذوي العاهات عندنا لا تؤوى أكثر من خمسهم في البلاد. . . .

وتحية هذا القلم لهذه الضيفة الكبيرة - وهي تحية تليق بأمثالها من عظماء النفوس - أن أقدم لها (الأزهر!) فإنه لم يبد إلى الآن أنها ستلتفت أو أن أحدا سيلفتها إلى ذلك المعهد العريق الذي عنى ولا يزال يعنى بالمكفوفين، يعلمهم، ويتيح لهم فرص النبوغ وإظهار كفاياتهم العلمية، وييسر لهم بذلك التغلب على أهم ما يجر إليه حرمان البصر من صعاب في الحياة وهو احتلال مكانة راقية بين أبناء المجتمع بما يؤدون فيه من عمل يؤهلهم لها

وأخشى أن تنتهي زيارة (هيلين) لمصر وليس في ذهنها من العناية بذوي العاهات فيها إلا ما عرفته من ذلك الجهد الضئيل، فلا تعلم أن مصر سبقت العالم هذا المضمار منذ ألف سنة، فوجد فيها الأزهر قبل طريقة (بريل) بمئات السنين

وبعد فليت الأزهر يهتم بإدخال الطرق الحديثة إلى المناهج الدراسة للمكفوفين فيه، فيبنى جديدا على قديم ويضيف طارفاً إلى تليد. والأمل أن يكون ذلك على يد قائد الأزهر في وثبته الجديدة شيخة الحالي فضيلة الأستاذ الأكبر عبد المجيد سليم

ذكرى إقبال: احتفلت سفارة الباكستان في مصر بذكرى الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال يوم الجمعة الماضي بدار نقابة الصحفيين، وقد خطب في الحفل الأستاذ صلاح الدين خورشيد الملحق الصحفي بالسفارة ومحمد علي علوية باشا والدكتور حسن إبراهيم حسن بك والدكتور عثمان أمين، وألقى قصائد الشيخ الصاوي شعلان والأستاذ خالد الجرنوسي والأستاذ محمود جبر

والسفارة الباكستانية في القاهرة تبدي دائما نشاطا ملحوظاََ في الاحتفال بالمناسبات الباكستانية والإسلامية، وتكون هذه الحفلات فرصاً طيبة لتبادل الشعور بين المصريين ورجال الباكستان في القاهرة؛ وقد جرت السفرة على الاحتفال بذكرى إقبال كل عام منذ قيام هذه الدولة الفتية، وهو اهتمام تغبط عليه، وينبغي لنا - نحن المقصرين إزاء ذكريات أعلامنا - أن تأنسي بها في ذلك، وخاصة أن الذين يقولون في الذكريات الباكستانية عادة هم جميعاً - ماعدا الملحق الصحفي الباكستاني - مصريون أعتقد أنه من الممكن أن يقولوا أيضاً في الذكريات شوقي وحافظ وغيرهم من أدبائنا الراحلين الذين لا يذكرهم غير أهليهم الأقربين. .

والملاحظ في الاحتفالات السنوية لذكرى إقبال أن ما يقال في سنة يكرر في أخرى، فكلهم يقولون إن إقبال شاعر إسلامي استمد فلسفته من ثقافة الإسلام، وانه استحث قومه على الجهاد والتقدم، حتى تكونت الباكستان نتيجة لدعوته وثمرة لغرسه، ويذكرون تاريخ ميلاده ووفاته والجامعات التي التحق بها، ولا يفوت قائلهم أن يذكر أن إقبال لم يستطع العمل في الحكومة لأنه سقط في الكشف الطبي. . . . إلى آخر هذا الذي سمعناه في هذا العام كما سمعناه في الأعوام السابقة، ولا يكادون يخرجون عنه. .

وكم نود أن نسمع أستاذاً باكستانياً يحاضرنا في (إقبال) باللغة العربية التي لا يعرفها من رجال الباكستان في القاهرة إلا الملحق الصحفي. . . حتى العلماء الباكستان الذين يفدون إلى مصر، إذ نراهم لا يتحدثون باللغة العربية، ويتكلمون ويخطبون فينا باللغة الإنجليزية، ومن عجب أنهم يدعون بهذه اللغة إلى مؤتمرات من أعراضها جعل اللغة العربية لغة رسمية عامة لبلاد الإسلام والذين توجه إليهم الدعوة هم أهل البلاد العربية الإسلامية الذين يتخذون العربية فعلا لغة رسمية لهم وغير رسمية.

وأنا أعتقد أنه لا يتم التوحد والتفاهم بين شعوب مختلفة اللغات، وقد نزل الإسلام بالعربية، وارتضيناه دينا، فلا بد - لتقاربنا وتعاوننا - من التفاهم باللغة التي جاء بها وحملته إلى الناس

وأعود إلى ذكرى إقبال فأقول فأقول إن خير ما صنعته الباكستان لهذه الذكرى في مصر هو ترجمة أشعار صاجبها إلى اللغة العربية ونشرها بين الناطقين بالضاد. وقد قام بجهد مشكور في ذلك الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام بك سفير مصر في الباكستان والأستاذ الصاوي شعلان، وقد كان خير ما في الحفل شعر إقبال الذي أنشده الأستاذ الصاوي بعد ترجمته إلى العربية.

الطفولة في الأدباء:

في حياة بعض الأدباء والشعراء، أو في كثير منهم، وقد يمون في جميعهم، جوانب تبدو تافهة وذات دلالة لا تتفق وعظمة ما ينتجون من أدب وشعر، ولا شك أن المتأميلن في الحقائق في هذا المضمار يهتمون بتتبع تلك الجوانب ودراستها، وكثيراً ما يستضيء بها النقاد المحدثون فيما يتناولون بالنقد والتحليل من حياة الأدباء وآثارهم

ويحدثنا تاريخ الأدب عن كثير من ذلك، وإن كان منثوراً غير منظوم في دراسات ذات مقدمات ونتائج.

أقصد بذلك التمهيد لسياقه أطراف مما عرفناه في بعض أدباء المعصرين الراحلين:

كان الأستاذ كامل كيلاني يلتقي بأمير الشعراء أحمد شوقي بك في أصائل أيام المصيف بالإسكندرية، ومرة رآه مكتئباً مقطباً، فسأله في ذلك، فقال شوقي: سكرتيري مريض - شفاه الله، أليس تحت عناية الطبيب؟

- ما إلى هذا قصدت. .

- ماذا إذن؟

- أشار على الطبيب أن أمشي كل يوم مسافة قدرها ما بين خمس شجرات في صيف واحد على هذا الطريق، وأنا أمشي حتى أبلغ الشجرة الرابعة، فأشعر بالتعب، فأتوقف، فيقول لي (السكرتير): من أجل خاطري أمشي إلى الشجرة الخامسة! فأنا اليوم سأمشي إلى الرابعة فقط. .

- المسالة هينة. أعيرك سكرتيري يقول لك. . .

وحلت العقدة، ولم يقطع أمير الشعراء مشيه إلى الشجرة الخامسة، وشكر (الجميل) للسكرتير المعار. .

وكان المرحوم الأستاذ صادق عنبر - في فترة من حياته - موظفاَ في وزارة المعارف بمرتب لا يلائم مكانته الأدبية، وتولى هذه الوزارة رجل ممن يقدرون الأدباء. فرأى أديب كبير من الأصدقاء صادق عنبر - وهو أيضاً صديق للوزير - أن يلفت نظره إلى الأديب المغبون في رزقه بالوزارة، فحادث الوزير في الأمر، فوعد بزيادة مرتبه خمسة جنيهات في الشهر. واستقبل الوزير الأديبين الكبيرين في داره، وكان الموقف يتطلب من الأستاذ صادق عنبر أن يقبل على الوزير بحديث يكسب به مودته وإعجابه، ولكنه لمح بيد صديقة علبة كبريت أشعل لفافته ووضعها أمامه على النضد وكان الأستاذ صادق (مولعاً) بالكبريت! فوجه همه إلى العلبة. . . وجعل يخالس صاحبه ليأخذ من عيدانها ويملأ علبته! فسارع الصديق يدس العلبتين في جيبه، ليطمئن ويوجه انتباهه إلى الموضوع الذي أتيا من اجله. . . ولولا ذلك لضحى أديبنا الفقيد بخمسة جنيهات في الشهر لقاء عيدان من الكبريت لا تساوي خمسة مليمات. . . .

وكان فقيد الأدب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، إذا أراد أن يسري عن نفسه مما يهمه، يقوم إلى المرآة فينظر فيها إلى صورته ويخرج لسانه. . . وكان يعلل ذلك بأنه يريد أن يضحك نفسه ليذهب عنه ما ألم به. . . وهو تعليل مقبول ولكنه يدل على ما وراءه مما يتصل بموضوعنا.

ولعل تلك المشاعر، والتصرفات التي تمليها، من بقايا الطفولة في نفوس الأدباء، ولعل لكل واحد منهم طريقة خاصة به في (طفولته)، للازمة، وقد يأتيها في العلن متماجنا، وقد يصنعها في خلوته. . . .

ويرى الأستاذ توفيق الحكيم أن أعمال الأدب من امتداد طفولته وأنه يحاول أن يتخلص من مكافحة المجتمع لهذه الذخيرة (الطفولية) التي هي من ألزم الأمور للأديب وذلك كما جاء في الفصل الأول من كتابه الجديد (فن الأدب) وقد قرأت هذا الفصل بعد كتابة ما تقدم كما يقول الزملاء الصحفيون. . . .

عباس خضر.