مجلة الرسالة/العدد 984/شخصية
مجلة الرسالة/العدد 984/شخصية
للأستاذ حبيب الزحلاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
طائف من الإلهام البصير طاف في ذهن كبير حكيم منا أن يدعونا إلى وليمة. . . وما كاد الجمع المدعو يلتف حول مائدة ذلك الرفيق الداعي، وهي تماثل في الشكل لا في النوع الموائد التي كانت تنشر وتطوى على عجل في ميادين القتال، حتى انبسطت أسارير كل نفس، وابتسم كل ثغر، وارتسم السرور على كل محيا، ونصع كل جبين، ولا أقول (اختفى) بل أقول (تبرقع) الاكفهرار والتجهم والتوجس؛ كأن حدسا لدنياً شاع في كل نفس يهمس أن خلف الصفاء في موسم الشتاء سحبا وبروقا ورعودا مقبلة، وقد بدت طلائع غيومها حين وقف رب الدعوة يرحب بالمدعوين ويقول:
الشام أيها الإخوان، بيت واحد تسكنه أسرة واحدة متفرعة كأغصان الشجرة، والفروع الكبيرة فيها إنما هي قواعد ثابتة لعرش عربي، وصولجان إسلامي، تبذل الأرواح من أجلهما والمحافظة عليهما.
لم تنطو المائدة على عجل كما كانت تنشر وتطوى في ميدان الجهاد، بل تجلت طبيعة الشامي على حقيقتها في المباسطة والمزاح والنكتة، وهي لا تختلف عما هو مفطور عليه من الرزانة والجد إلا في الإمعان بالعمق، والإمعان في المغالاة، والإمعان في الإيلام. ودارت أحاديث، وجرى عتاب، وانجلت أمور، واتضحت مسائل، وانقشعت من ظلمات الغيوم وقائع، وافتضح سر الدساس المنافق، وبرز وجه إبليس ببسمته المعهودة، وحركة التواء عنقه التقليدية، وكاد إبليس الرجيم - عليه اللعنة المؤبدة - يقول (خذوني).
نظرت إلى وجه (حصل أفندي) هذا الشاعر الذي طالما وقف في الناس منتصب القامة، وشامخ الأنف، رافع الرأس، ينشد القصيد فيطرب، يتلاعب بالعواطف، ويهز النفوس. لقد رأيته الليلة ذابل العين، كسيف النظر، منحني الرأس، كسير النفس، ذليل الروح، فتذكرت موقفا لشاعر معاصر وقف أمام إسماعيل صدقي ثم بين يدي مصطفى النحاس، فتخيلته (حصل أفندي) وقلت إن هذا هو ذاك بعجره وبجره، وعينه ومينه، بنفاقه وكذبه؛ فرثيت لحال الشاعرين. نظرت إلى وجوه الرفاق فإذا بهم يخرجون على توقرهم لرب الدار صاحب الدعوة، وعلى تقاليدهم في الترفع عن الضعيف المهين، والتعاظم على الذليل الحقير، وكادوا يفتكون بذلك الشاعر الآثم، وقدر رأيت (حصل أفندي) حسان الثورة، شاعر العرب والإسلام، ينكمش ويتململ ويلصق جسمه بمقعده وسرعان ما وقف صاحب الدعوة، ذلك الرجل الواسع الحيلة، الذي رسم خطته بحكمة وتدبر وقال: ليس فينا من لم يقم بنصيبه في قتال الأعداء، ولذلك أقترح تشكيل هيئة حاكمة منكم كالتي كما نشكلها في ميادين الثورة لمحاكمة من يخرجون عن مبادئها.
لم يطل النائب العام كلامه في بسط وقائع الجريمة لأن الخائن قد خانه دهاؤه وذكاؤه فاعترف بجريمته وعزا وقوعها إلى وسوسة الشيطان، وطلب بذل وضراعة أن يكون مستقبل أولاده رهينة عند إخوان عرفوه في حالتي قدرته على النفع وعلى الضرر.
اتجهت الأنظار صوب رئيس المحكمة، وتعلقت أنفاس اللئيم في شفتي هذا الحاكم الذي لا مرد لحكمه. . . وسرعان ما سمعناه يخاطب الجاني بقوله: ليس لي أن أدينك يا (حصل أفندي) بعد اعترافك. لقد كنت فيما مضى أستمد قوة حكمي من الخروج على القانون، أما الآن فكلنا خاضع لأحكام القانون وليس فينا، فيما أعتقد، من يرضى بإدانتك والحكم عليك، فلك وحدك أن تحكم على نفسك.
توهمت أن يد الشاعر امتدت إلى مسدسه تنتزعه من جرابه لتفرغ منه رصاصة في صدغه ولكن حصل أفندي كان في شبه ذهول أو غيبوبة.
علت الأصوات بالاحتجاج من كل جانب وقد أسكتها الرئيس بإشارة منه وقال: تعرفون أيها الإخوان أني أنا الذي أطلقت اسم (حصل أفندي) على صاحبنا هذا الذي كنتم تقولون أنه شاعر العرب والإسلام وإني حين كنيته تلك الكنية اعتباطا وارتجالا لم أكن أتوقع أن الحوادث وتطوراتها سترفع القناع عن داء دفين، وعلة لابدة في نفس هذا الذي كان دائما في مقدمة صفوف المجاهدين وقد انقلب فأضحى في طليعة أجراء المستعمرين.
ليس بيت ابن الوردي (لا تقل أصلي وفصلي) هو التخريفة الوحيدة في هذه القصيدة التي تدل على سذاجة نفس ناظمها وتفكيره الضحل، وهذا عيب شائع عند من يستشهدون بقول الشاعر اعتباطا وبدون روية.
لا أظن أن ابن الوردي كذاب منافق، إنما المنافق الكذاب حقا هو كارل ماركس واضع نظرية محو الطبقات وتلميذه ستالين منفذ تلك النظرية الخاطئة بالقوة لا بالإقناع، فالمساواة بين الطبقات إنما هي التضليل بعينه، والدعوة إلى إهمال الأصول وإنكارها والتمسك بما حصل عليه الإنسان أو بما وصل إليه إنما هو الكذب الصراح.
قد نجد شعراء ومجتهدين وعلماء وأغنياء وعظماء ومصلحين نبتوا نبتة شيطان من الطبقة الدنيا.
لم تكن نفوس المدعوين مهيأة إلى محاربة روح الشر بالتسامي أو بالإغضاء عن هفوة من مواطن في حق وطنه ومواطنيه. وسرعان ما نهض أحدنا وهو ربع القامة، عريض المنكبين، مفتول العضل. يكاد أن يكون رأسه قائما على كتفيه لقصر في عنقه، ذو عينين صغيرتين تنبعث منهما نظرة صارمة، حارب الألمان في صفوف الفرنسيين، وقاتل الفرنسيين في كل ميدان من ميادين الثورة عليهم، وقال بصوت بدأ هادئا ثم أخذت نبراته تشتد دون ارتفاع.
باسم الثورة لا باسم القانون أنقض حكم حضرة القاضي، لقد غدوت من غير الخاضعين لقوانين هذا البلد الذي حماني لأن مجلس وزرائه قرر اليوم إبعادي وسأكون قرب ظهر الغد في سفينة تنقلني إلى أوربا، وإنه ليطيب لي أن أزيل الغم عن صدوركم وأعيد الراحة إلى نفوسكم، بإصدار حكمي أنا على هذا المخادع الغشاش والداعية الأثيم للطاعة لولي الأمر ولو كان من المستعمرين والخضوع لقوانين الذل والعبودية. والتفت صوب المنكود (حصل أفندي) الذي كان قابعا في مقعده لا يندى له جبين ولا يحمر له وجه ولا يصغر وقال:
لقد كنت تسعى وتتجول وتنتقل من مكان آخر بقدمك هذه أني لأرى من العدل بل من الرحمة أن أعفيك من إتمام سعيك، وإبطاء تجوالك بكسر قدمك هذه. وانقض عليه انقضاض الرجل الغاضب لوطنه وكرامة عروبته يلوي مفصل قدم المنكود ليا عنيفا.
كان الرعديد يصرخ ويولول. لقد استجار بالله، وبرسله وأوليائه، لقد حلفنا بأولادنا وأعراضنا أن ننقذه من بلائه.
لقد كلت أيدينا، وعجزنا على كثرتنا عن تخليص قدم المسكين من قبضة صديقنا المنتقم، ولم يتركها إلا بعد أن خلع مفصلها.
إن أنس لا أنس صاحب الدعوة، وهو طبيب قتل اغتيالا كيف صير بيته مستشفى وقد أقامنا على خدمة من ضلله الشيطان.
لقد دار الزمان دورته ولا أحسب إلا أنه أتمها وهي على غير محورها الثابت. ومن سخرية القدر أن يصبح حصل أفندي نائبا عن الأمة يضطلع حتى اليوم في أحد مجالس نيابة دولة شقيقة.
حبيب الزحلاوي