مجلة الرسالة/العدد 984/شعراء الشباب

مجلة الرسالة/العدد 984/شعراء الشباب

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 05 - 1952



للأستاذ أحمد أحمد العجمي

ظل الناس يتساءلون في جزع ولهفة وحيرة عن الشاعر الفرد الذي يخلف أمير الشعراء أو شاعر النيل بعد وفاة شوقي وحافظ بسنوات، وكانت هناك يومئذ أسماء لامعة تذكر في مجال التفضيل؛ ربما سر أحدهم أن يملأ فراغا شاغرا لسواه، وربما غضب بعضهم أن يكون بوقا لغيره ولو انعقد عليه الإجماع. . . من هذه الأسماء اللامعة: العقاد ومطران ومحرم والجارم.

وبينما كان الناس يختلفون فيما بينهم على هذه الأسماء وغيرها. كان هناك شبه إجماع على شاعر شاب، غنى الشباب بشعره الوجداني، فاتفقوا، أو اتفق أهل الفن منهم خاصة، على تسميته (شاعر الشباب).

أطلق لقب (شاعر الشباب) أول ما أطلق في مصر على الأستاذ أحمد رامي، وظل وحده يستمتع بهذا اللقب الجميل حينا من الدهر، ربما يربو على عشر سنين بكثير؛ حتى زحفت جموع الشعراء من كل صوب، وتعددت ألوان الشعر في كل مجال، وغمرت الصحف والمجلات والكتب والإذاعة موجة واسعة متدفقة جياشة بالشعر الجديد. فكان من العسير على شاعر غنائي واحد أن يثبت أمام هذه الجموع الزاحفة كالبنيان المرصوص.

وهال الناس هذا الموكب الضخم الفخم كأنه مهرجان رائع في ميدان فسيح يشق أجواز الفضاء بحناجر قوية وأوتار صاخبة وأبواق مدوية تكاد تصم الآذان؛ ولم يستطع الناس - أول الأمر - أن يميزوا بين هذه الوجوه المتلاحقة والصور المتتابعة في وسط الزحام؛ فسموهم جميعا (شعراء الشباب)!

في العشرين سنة الأخيرة أطلقت كلمة (شعراء الشباب) على أكثر من ثلاثين شاعرا، وما تزال تطلق على نحو عشرين شاعرا إلى الآن.

وإذا كان من العسير إحصاء أسماء جميع شعراء الشباب في مقال واحد - فمن السهل اليسير الإشارة إلى بعضهم على سبيل التمثيل؛ لا الحصر والتسجيل.

شاعران لا ثالث لهما اشرأبت إليهما الأعناق وتفردا بالشاعرية الخصبة والخيال الملهم والملكة الفنية التي تندر في كل زمان ومكان، بين أرباب البيان وأعلام الشعر الرفيع.

شاعران اثنان لا ثالث لهما: علي محمود طه وإبراهيم ناجي. لكل من هذين الشاعرين جو فسيح يحلق فيه، وخيال مجنح يصل به إلى آفاق المجد والخلود.

كان هذان الشاعران في مقدمة الرعيل الأول من شعراء الشباب، منذ عشرين سنة، وتدفقت وفود الشعراء على الميدان الأدبي بعد ذاك، وظل علي محمود وإبراهيم ناجي قبلة الأنظار ومهوى الأفئدة وموضع الإعجاب!

وظهرت أسماء لامعة بدأت تشق طريقها بين الزحام، وبدأ إنتاج كل شاعر منهم يتسم بسمة خاصة إذا استسلمت حينا للتقليد فقد انطبعت فيما بعد بطابع التجديد. من هؤلاء الشعراء: سيد قطب ومحمود غنيم ومحمود حسن إسماعيل وعبد العزيز عتيق وعبد العزيز محمد خليل ومحمد عبد الغني حسن وعلي متولي صلاح. وبعد سنوات قلائل لاحت في الجو الأدبي نجوم جديدة من الشعراء في شعرهم قوة وفتوة وتدفق وتنوع والتماع، من هؤلاء الشعراء: أحمد مخيمر والعوضي الوكيل وطاهر أبو فاشا وأحمد عبد المجيد الغزالي ومحمد هارون الحلو وعلي الجمبلاطي وعبد العظيم بدوي.

وهنا لا بد أن أحيي (دار العلوم) تحية عاطرة بأريج الحمد والثناء، تلك المنارة الرفيعة للأدب العربي التي انبثقت منها كل هذه الأضواء؛ فجميع الشعراء السابقين - في الفترة الأخيرة - وغيرهم كثيرون. . . هدايا إلى الشعر من دار العلوم. . ودار العلوم أيام أن كانت (مدرسة) أما بعد أن صارت (كلية) جامعية فحسب المتخرج فيها أن يصيح أمام مفتش اللغة العربية: أنا من حملة الليسانس!!

وبعد فترة وجيزة من الزمن لاحت بشائر نهضة شعرية جديدة، بعد ما اتضحت مدارس الشعر أمام الشباب، وارتسمت الفوارق البعيدة بين الجديد والقديم، وتعددت المناهج المختلفة أمام الأنظار، فسلك سبيل القافلة الصاعدة على السماء، هؤلاء الشعراء: عبد الرحمن الخميسي ومحمود السيد شعبان ومصطفى علي عبد الرحمن وإبراهيم محمد نجا وفؤاد كامل وعثمان حلمي وحسين البشبيشي وعبد الغني سلامة ومحمد السيد شحاته (شاعر البراري) وعبد العليم عيسى.

وبعد وقت قصير لفتت الأنظار وجوه جديدة، وخاضت المعركة أقلام ناشئة، في إنتاجها الشعري حرارة الشباب، وفي نزعاتها الفنية وثبات الخيال، وإن كان بعضها لم يستقر بعد، وهذه الفرقة هي التي تحتل الآن أماكنها المناسبة في الصحف والمجلات، من هؤلاء الشعراء: كمال نشأت وكيلاني حسن سند ومحمد رجب البيومي ومحمد الصادق سعود وتوفيق عوضي أباظة وعبد العزيز السعدني ومحمد مفتاح الفيتوري ومحمد سلامة مصطفى ومحمد أحمد سالم وعمر عبد العزيز.

وليس من السهل - ولا من اللائق أيضا - أن نرتب هذه الجموع الزاخرة ترتيبا تنازليا - أو تصاعديا - كترتيب تلاميذ المدارس بحسب درجات الامتحان؛ فهذا عسير جد عسير، لتنوع المذاهب وتعدد الألوان.

ولكن من السهل النص على أن هؤلاء الشعراء جميعا من الممكن تقسيمهم إلى أربع طوائف متميزة: الطائفة الأولى جماعة الأحرار؛ لا يتبع الشاعر منهم أحدا بالذات، وليست له قدوة يحتذيها ولا إمام يأتم به ويسعى على هداه، وإنما لكل منهم نهجه الخاص وطريقه المعلوم وشخصيته المتفردة. وأما الطوائف الثلاث الأخرى، فطائفة تتبع شعر العقاد وطائفة تتبع نثر الزيات وطائفة تتبع زجل بيرم التونسي!

لست أمزح ولا أهزل حين أقول جادا: إن طائفة من شعراء الشباب المعروفين، ينحون في الشعر نحو بيرم التونسي في الزجل! وليس معنى هذا أنهم يخطئون السبيل، أو يرجعون القهقرى؛ فرب قصيدة واحدة من الزجل - الشعر الشعبي - خير من ديوان كامل من شعر فلان وفلان , وسيأتيك البيان!

وإن مما يؤسف له حقا أن يلتفت الناقد الأدبي إلى ميدان شعراء الشباب الآن فلا يرى إلا القليل. فينعم النظر ويمد البصر إلى هنا وهناك فلا يرى إلا أشباحا تجري في الظلام وراء تفاهات وحماقات لا تغني ولا تسمن من جوع.

لقد تفرق الجمع أيدي سبا. . وانصرفوا - أو كادوا ينصرفون عن الشعر الذي خلقوا له وارتفعوا به إلى القمة! ولكن يبدو أنها قمة الحضيض إن صح هذا التعبير.

بعض الشعراء استهوته الصحافة اليومية أو الأسبوعية فأدلى دلوه في الدلاء وعلى الشعراء العفاء. وبعضهم انخدع بالإذاعة فاستسلم لما يطلب منه من القصائد والتواشيح لقاء أجر معلوم، وبعضهم كل همه العلاوات والترقيات والاستثناءات في كل عهد وبأي ثمن. وبعضهم غارق لأذنيه في (شرب العرق ولعب الورق)، وبعضهم اتخذ الكتابة والتأليف حرفة مجدية. . . وأخيراً جدا اهتدى (بعضهم) إلى تقليعة ظريفة تريحه من كل هذا العناء. . افتتاح (دكان شعر) لبيع قصائد المناسبات.

مأساة متعددة الجوانب، مختلفة الأشكال، ولكن سببها واحد على كل حال. سببها أن الدولة لا تقدر الشعراء حق التقدير، فهم يبذلون كل جهودهم للحصول على المال من أيسر طريق، باسم الشعر في الظاهر.

حرام على هذه المواهب الفتية الجبارة أن تطأ الشعر بالنعال وأن تضعه هذا الموضع المهين؛ وإنه لشيء نفيس مقدس يصل بصاحبه إلى صميم الخلود، لا قشور المظاهر الجوفاء!

نريد الإخلاص للشعر، والعكوف على الشعر، والاهتمام بالشعر، يا شعراء الشباب! أما أن يضيع العمر على هذا النحو فرحم الله الشعر والشعراء!

قليل لدي العمر أقضيه في الشعر ... فمن لي بأعمار الكواكب والبدر!

ثلاثون عاماً من حياتي قضيتها ... ولم أقض حق الشعر مهما سما شعري

لدي من الأفكار دنيا رحيبة ... رحابة آفاق السماوات في فكري

يجيش بها صدري ويغلي بها دمي ... وألبث فيها كالمقيم على الجمر

أغوص وأطفو في بحور من الشعر ... وأسبح من بحر لبحر إلى بحر!

كان هذا منذ سبعة أعوام. . أما الآن، ففي الأسبوع القادم وفي الأسابيع التالية إن شاء الله، تفصيل ما أجملت وتقييد ما أرسلت في شعراء الشباب.

أحمد أحمد العجمي