مجلة الرسالة/العدد 984/وا حسرتا على عزيز!

مجلة الرسالة/العدد 984/وا حسرتا على عزيز!

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 05 - 1952


أشهد لقد أصابني ما يصيب الحي من فجائع الموت، فحزنت حزن المفجوع، وبكيت بكاء الموجوع؛ ولكن فجيعتين بعد فجيعتي في ولدي أشعرتاني لوعة من الحزن لم أجدها في فجيعة من قبل: فجيعة الأمس في علي طه، وفجيعة اليوم في عزيز فهمي!

لا أستطيع أن أصف لك هذا اللون من الحزن على وجه الدقة؛ لأنه

نادر الحدوث في القلب فهو غريب؛ ولأنه عميق الأثر في النفس فهو

غامض. أنه ذهول يتخلله وعي، وأسف تخالطه حسرة، وحرقة يغالبها

دمع، وذكرى يساورها قنوط، وسخط يكفكفه إيمان.

جاءني على غير انتظار ولا توقع أن زين الشباب عزيزا أدركه الموت الأسود وهو في طريقه إلى نصرة الحق وخدمة العدالة، فأخذني أول الأمر وجوم كوجوم المبهوت، فيه الدهش والشك والتبلد والحيرة. ثم تكرر النبأ الفاجع في صيغ شتى، فانجلى البهت رويدا رويدا، حتى تمثل لعيني الخطب الجلل على أبشع صوره وأفظع معانيه. تمثل لي مصاب نفسي في الخلق الرضي والطبع الحيي والفؤاد الذكي والإخاء المواسي والوفاء المضحي، فجزعت جزع الإنسان يرى قوة من الخلال الكريمة تفنى ولا تُخلف. وتمثل لي مصاب وطني في المحامي الوثيق الحجة، والخطيب الحافل الذهن، والنائب الشجاع القلب، والشاعر السمح القريحة، فجزعت جزع المواطن يرى ثروة من المواهب العظيمة تفقد ولا تعوض.

جزعت للإنسانية لأني أكاد لا أعرف من هذا الناس إلا آحادا من طراز عزيز قد برهنوا بالفعل على أن الإنسان الذي يسفل فيكون شرا من شيطان، يستطيع أن يعلو فيكون خيرا من مَلك. وجزعت للوطنية لأن هذا البلد البائس الذي يكابد سوء الأخلاق في داخله، ويجاهد شر الدول في خارجه، يفتقر في محنته إلى أمثال عزيز ليرفعوا قيمة الفضيلة في التعامل، ويعظموا قدر الكفاية في العمل.

عرفت عزيز فهمس في بغداد سنة 1932، وكان قد قدمها في رحلة جامعية. لم أعرف بالطبع جميع أعضاء الرحلة، وإنما عرفت عزيزا وحده، لأنه بارز في شخصيته، متميز في خلقه. لم يكد يعرفني حتى ارتاح إلى بأنسه، وأخذ يسمعني من شعره، ويحدثني عن أمانيه. ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة فآثرني بحبه، وآزر (الرسالة) بأدبه. ثم أنفق في سبيل العلم والمجد زهرة عمره ونضوة شبابه، حتى أصبح أديبا له أسلوب، وفقيها له رأي، ومحاميا له سلطان، ونائبا له صولة، وسياسيا له صوت، واجتماعيا له رسالة. وفي لحظة من لحظات الشؤم تنبه فيها قدر، وغفل سائق، وطاشت سيارة، ذهب هذا كله كما يذهب الحلم، وتبدد هذا كله كما يتبدد الشعاع!

أحمد حسن الزيات