مجلة الرسالة/العدد 985/القصص

مجلة الرسالة/العدد 985/القَصَصُ

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 05 - 1952



ثروة لم تخطر على بال

للقصصي الإيطالي يوكانشو

لقد أجمعت الآراء على أن البلاد الواقعة على شاطئ البحر من ريجيو إلى جابتي هي أجمل البلاد موقعا في إيطاليا. وهناك على مقربة من سالرن عراء تطلق عليه الأهالي اسم شاطئ ملفي، به مدن صغيرة وحدائق، وكانت مدينة رافللو في ذاك العهد أبرزها رشاقة وازدهاراً، وكان بها رجل يسمى لاندولف من كبار الأغنياء ولكن نهم المال لا يشبع ولا يقنع، إذ أراد هذا الرجل أن ينمي ثروته فقضى طمعه على جميع ما ملكت يداه.

وبعد ما فكر في الأمر طويلا كعادة التجار اشترى سفينة عظيمة وشحنها بمختلف البضائع وسافر إلى قبرص. وحينما وصل إليها وجد كثيراً من السفن مشحونة بنفس البضائع التي جلبها فاضطر أن يبيع شحنته بأبخس الأثمان؛ فتملكه هم شديد لهذه الخسارة الفادحة التي ذهبت بغناه، وصمم على الانتحار أو الاستعاضة عما فقده بواسطة شخص آخر، فلا يرجع إلى بلده على تلك الحال بعد أن خرج منها غنيا محترماً. وباع سفينته واشترى بثمنها والمبلغ الضئيل الذي باع به بضائعه مركباً خفيفاً يصلح لأعمال القرصنة وسلحه جيداً واختار له بعض الرجال الأشداء وطفق يجوب البحار ويسطو على كل من يصيبه ولا سيما الأتراك حتى زادت ثروته وفاقت ما كان يملكه وقت ازدهار أمواله.

رأى أن غناه أصبح كافيا وأنه في حاجة إلى عيش شريف محبوب لا يحتاج إلى تعرض جديد للبؤس وتقلبات الأيام. وعزم على الرجوع إلى بلده والاكتفاء بما غنمه لأن ما حاق به من صروف الدهر جعله يخشى العودة إلى أعماله السابقة. فسافر إلى رافلو بهذا الموكب الخفيف، ولما ابتعد عن الشاطئ هبت رياح عنيفة فهاجت الأمواج ورأى لاندولف أن سفينته الصغيرة لا تستطيع مقاومة اللجج الهائجة فعزم على الالتجاء إلى جزيرة صغيرة، وبعد لحظة أقبلت سفينتان جنويتان لتحتميا في هذا الموضع من الجزيرة وكانتا آتيتين من الآستانة. وقد علم الركاب أن هذه السفينة الصغيرة يملكها لاندولف وكانوا يسمعون أنه من الأغنياء المولعين بالذهب والسطو على مال الغير، فاتفقوا على مهاجمته وسدوا عليه المسالك أولا ثم أنزلوا عددا من رجالهم إلى البر وبأيديهم وقسيهم وسهامهم وتخيروا لهم مكانا يمكنهم من إصابة كل من يخرج من السفينة. ثم هب الباقي إلى القوارب وذهبوا إلى سفينة لاندولف وأسروها بدون مقاومة ثم نهبوا جميع ما فيها وأغرقوها واعتقلوا لاندولف في قاع مركب من مراكبهم ولم يتركوا عليه غير بعض ثياب خلقة. وفي الصباح تحسن الجو فسافر الجنويون إلى بوتان وسارت مراكبهم بكل اطمئنان طول النهار. وحينما أقبل الليل هاجت رياح عنيفة، واضطرب اليم فانفصل المركبان بعضهما عن بعض وارتطم أحدهما الذي يقل لاندولف في صخور جزيرة سيفالوني فتحطم كالزجاجة وافترس اليم مختلف البضائع والصناديق وحطام السفن، وطفق الملاحون يسبحون ويجالدون اللجج الهائجة في الظلام الحالك ويتمسكون بكل ما يصادفهم لينجوا بأنفسهم.

وأما لاندولف التعس الذي كان بالأمس يتمنى الموت لفقد ثروته فقد تملكه الخوف حينما رأى نفسه مشرفا على الهلاك، ولحسن حظه صادف لوحاً من الخشب فتمسك به إلى أن ييسر الله له من ينتشله من الخطر.

ظلت الأمواج تتقاذفه ذات اليمين وذات اليسار إلى أن طلع النهار فنظر إلى ما حوله فرأى صندوقاً صغيرا عائماً فحاول الوصول إليه ولكن هبت زوبعة ضاعفت عنف الأمواج وقذفت الصندوق حتى اصطدم باللوح الذي بين يدي الغريق فأفلت من يده وغاص لاندولف من قوة الصدمة، ثم طفا وشاهد اللوح بعيداً عنه ولكنه لمح الصندوق على مقربة منه فسبح حتى أمسك به وامتد على غطائه، وطفق يستعمل ذراعيه بدلا من المجاذيف، وأخذت تطوح به اللجج في كل صوب دون طعام، وقضى نهاره وليله على تلك الحال المضنية دون أن يعرف إن كان قريبا أو بعيدا عن البر لأنه ما كان يرى غير الماء والسماء. . .

وفي الغد طوحت به الرياح أو على الأصح إرادة الله السامية إلى جزيرة جولف، وأصبح جسمه كالإسفنج وهو منكمش على الصندوق كما يفعل الغرقى عند إشرافهم على الهلاك.

وكانت في تلك الساعة امرأة فقيرة تغسل آنيتها على الشاطئ فذعرت لرؤيته على تلك الحال وصرخت صراخاً عنيفاً. وكان لاندولف منهوك القوى حتى أنه لم يستطع النطق بكلمة. ولما اقترب الصندوق من الشاطئ وتأملت فيه المرأة ميزت شكل الصندوق ولمحت وجه الغريق فتأثرت بعاطفة الشفقة والحنان ونزلت بقرب الشاطئ وكان البحر هادئا وأمسكت لاندولف من شعر رأسه وجرته هو والصندوق إلى الشاطئ ونزعت يديه المتشنجتين من الصندوق بقوة ثم وضعت الصندوق على رأس فتاة كانت معها ثم حملت لاندولف على ظهرها كالطفل وذهبت به إلى المدينة ثم أدخلته في حمام حار وغسلته ودلكته بالماء الساخن إلى أن أفاق وتحرك، وبعد إخراجه من الحمام سقته نبيذاً وأطعمته قليلا من المربى حتى انتعش وعاد إليه رشده. رأت هذه السيدة أن ترد إليه صندوقه وأن تشجعه على ما أصابه من المحن.

لم يفكر لاندولف قط في الصندوق إلا أنه ظن أن يجد فيه شيئا يستعين به على القوت بضعة أيام. ولما أراد أن يفتحه وجده خفيفا جدا فتملكه اليأس والقنوط، ثم فتحه بفارغ الصبر تطلعا لما يحتويه، وكانت السيدة قد غادرت بيتها لقضاء حاجاتها، فوجد فيه كمية من الأحجار الكريمة بعضها مصقول والآخر كما هو. ولسابق معرفته بالجواهر تحقق أنها ذات قيمة كبيرة، حمد ربه على هذه النعمة العظيمة ومجده، لأنه قد حرسه بعين عنايته وعوضه أضعاف ما فقد. وتشجع ونشط ونسى همومه، وعزم على أن يتصرف بكل رزانة وحكمة ليصل إلى بيته آمنا مطمئنا ولا يكون عرضة لمصاب جديد أو محنة غير منتظرة. ثم صر جواهره في قطعة من النسيج وعرض على السيدة أن تأخذ الصندوق مقابل كيس، فلبت طلبه ثم شكر لها حسن صنيعها ووضع كيسه على كتفه وسافر في مركب. ولما وصل إلى برنديزي انتقل إلى تراني وصادف هناك عدة رجال من بلده وكانوا من تجار القز والديباج فقص عليهم ما أصابه، ولكنه لم يبح لهم بالصندوق وما حواه فأعطوه حلة وأعاروه جواداً وبحثوا له عن رفقاء يصحبونه في سفره إلى رافللو.

ولما آب إلى بلده عاين جواهره فوجد فيها كثيرا من الماس الجيد بحيث أنها إذا بيعت بثمن معقول كانت قيمتها تساوي ضعف ثروته حينما فارق بلده. ثم أرسل مبلغا من المال إلى السيدة التي انتشلته من اليم في مدينة جولف وكافأ تجار الحرير الذين ساعدوه في تراني وعاش بقية عمره عيشة هنيئة شريفة.

م ح