مجلة الرسالة/العدد 986/إسماعيل بن القاسم

مجلة الرسالة/العدد 986/إسماعيل بن القاسم

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 05 - 1952



المعروف بأبي العتاهية

للأستاذ محمد الكفراوي

حبه الفاشل ومدى تأثيره على حياته

أوضحنا في المقال السابق مدى تأثير بيئة شاعرنا على شخصيته، وانتهينا إلى أنها قد غرست في نفس الشاعر عدة أمراض نفسية؛ أهمها التشاؤم والشعور بالضعة والنقمة على الأغنياء، ووعدنا أن نفصل القول اليوم في شأن ذلك الحب الفاشل الذي زاد حياة الشاعر تعقيداً وأدى إلى تمكن تلك الأمراض الاجتماعية من نفسه.

وقصة ذلك الحب تبدأ برحلة الشاعر إلى بغداد طالباً للشهرة، فقد كان يرجو أن يصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي عسى أن يعجب به ويستدعيه لإلقاء الشعر بين يديه. ولكن أنى له ذلك وهو شاعر ناشئ مغمور! لقد هداه شيطانه إلى أن يتغنى في إحدى جواري القصر، راجياً أن يدفعها الغرور وحب الظهور إلى ترديد ذلك الشعر في قصر الخلافة ولفت نظر المهدي إليه.

ونحن لا نشك في أن المصادفات لعبت دوراً خطيراً في حياة الشاعر فجمعت بينه وبين جارية ماكرة طموح من جواري الخليفة، وقد كانت في نفس الوقت تبحث عن مثل ذلك الشاعر الناشئ المغمور لحاجة في نفسها، تلك الحاجة هي التغني بجمالها وسحرها في شعره، وغايتها من ذلك لا تكاد تخفى على كل من له خبرة بشؤون ذلك العصر. فقد كانت الجواري إذ ذاك مطمح الأنظار، ويكفي لتأكيد تلك الدعوى أن نعرف أن الخيزران زوج الخليفة المهدي وأم الهادي والرشيد كانت من بين أولئك الجواري، ولم يقف بها سعد الطالع عند ذلك؛ بل استطاعت أن تجعل من بنات أخيها وأختها زوجات للهادي والرشيد. وليست الخيزران بفريدة في ذلك الشأن، فقد أقبل الخلفاء على الإماء إقبالاً شديداً حتى أن الرشيد قد أنجب من نحو عشرة منهن، وناهيك بمن لن ينجب منهن. والدرس الذي يمكن أن تتعلمه الجواري من مثل تلك الحال غير خفي، فلم يكن يعوز إحداهن لكي تصبح صفية أحد الخلفاء أو زوجة إلا أن تلفت نظره إليها بوسيلة من الوسائل. فما الذي يمنع عتبة والح كذلك أن تتقبل بصدر رحب غناء أبي العتاهية وإشادته يذكرها. . وهل هناك وسيلة للفت الأنظار إليها أيسر من شعر الغناء؟

هكذا بدأت علاقة الشاعر بعتبة كل منهما يحاول استغلال صاحبه لمصلحته الخاصة. ولكن العلاقة بينهما لم تقف عند ذلك الحد المادي. فعتبة يسرها ويرضي كبرياءها أن يكون الهائم بها المشغوف بحبها ذا مظهر حسن حيث أن قدرها وخطرها يرتفعان بقدر ما يرتفع قدر المعذب في سبيلها. . على حين كان شاعرنا ما يزال فقيراً مغموراً. وقد كان علاج ذلك عندها أن خلت بالشاعر يوماً من الأيام وأبدت اهتمامها بشأنه وناولته بضع مئات من الدنانير كي يرفع بها مستواه؛ وذلك بشراء ملابس فاخرة وحمار وما إلى ذلك.

وقد كان هذا مبدأ تحول خطير في نظرة الشاعر إلى عتبة؛ فلم تعد صلته بها نوعاً من عبث الشباب أو وسيلة إلى تحقيق ربح عادي، ولكن حباً شريفاً عميقاً فهي في رأيه ذلك الملاك الرحيم الذي لا يبادله حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص فقط، بل يشفق عليه ويفكر في أمره ويسعى إلى رفع مستواه المادي والأدبي. . فكيف لا يحبها إذن ويسرف في حبه لها. أما عتبة فلا تزال حيث بدأت ولا يزال طرفها متعلقاً بالخليفة أو أحد أمراء البيت المالك، ولا يزال أبو العتاهية في نظرها ذلك الشاعر المغمور الذي لا يجيد شيئاً ولا يصلح لشيء إلا التغني بجمالها والعذاب في سبيلها. وقد اتبعت معه سياسة ماكرة ملتوية المراد بها إطالة تعذيبه وهيامه، وذلك بأن تدنيه وتقربه وتعده وتمنيه كلما اشتد به اليأس منها وعزم على نفض يده من شأنها. . ثم تمهله وتتغافل عنه كلما اشتد هيامه بها وإلحاحه عليها. . وأشعاره تمثل لنا الحالين. وإذا شئت فاستمع إليه وقد طلبت صراحة أن يتغنى بحبها حتى يعرفه القاصي والداني:

أعلمت عتبة أنني ... منها على خدر مطل

وشكوت ما ألقي إليه ... اوالمدامع تستهل

حتى إذا برمت بما ... أشكو كما يشكو الأقل

قالت فأي الناس يع ... لم ما تقول فقلت كل

أو شئت فاستمع إليه إذ يشكو هجرها له:

بخلت علي بودها وصفائها ... ومنحتها ردي ومحض صفائي فتخالف الأهواء فيما بيننا ... والموت عند تخالف الأهواء

فإذا أضفنا إلى ذلك ما بدأت به من إعطائه قدراً عظيماً من المال مظهرة عنايتها به وما انتهت إليه من رفضها الزواج منه رفضاً باتاً رغم توسط الرشيد. . ازددنا يقيناً بصحة ما ذهبنا إليه من أنها لم تكن جادة ولا مخلصة في حبها له.

وقد كان من نتائج ذلك السلوك المضطرب أن ساءت العلاقة بين الشاعر والمهدي؛ فقد كان من الضروري لعتبة أن تقدم لأبي العتاهية سبباً معقولاً لترددها في أمر الزواج وأدبارها عنه كلما أقبل عليها. ولم يكن من العسير عليها أن تدعي أنها إنما تفعل ما تفعل خوفاً من إثارة غضب الخليفة وزوجه اللذين كانا يحرصان على بقائها في خدمتهما وانقطاعها إليهما. وازداد الطين بلة حينما أبرق الخليفة وأرعد على أثر سماعه شعراً لأبي العتاهية يعرض فيه بعتبة ويقحم الخليفة في أمره:

ألا إن ظبياً للخليفة صادني ... ومالي على ظبي الخليفة من عدوي

وما كان من الخليفة إلا أن جلده وسجنه ثم نفاه إلى الكوفة؛ بل كاد يقتله بتهمة الزندقة لولا أن تدخل يزيد بن منصور خال المهدي لمودة كانت بينه وبين الشاعر.

كان من الطبيعي أن ينقم الشاعر على المهدي الذي أيقظه من حلمه الجميل على صوت السياط وهي تلهب ظهره وتفري جلده. وهنا أخذت تجارب الشاعر في طفولته وبغضه للسادة والأمراء تستيقظ في نفسه، أليس الخليفة أحد أولئك الأمراء القساة الطغاة بل قائدهم وقدوتهم فيما يفعلون؟ ألم يتخذ من سلطانه أداة للعدوان على شاعر بائس طموح لا جريرة له إلا أن أحب فتاة وأحبته؟ ألم يلصق به ذلك اللقب البغيض الذي وجد فيه منافسوه من الشعراء مادة خصبة للعبث به ومن ذلك قول والبة ابن الحباب: -

كان فينا يكنى أبا اسحق ... وبها الركب سار في الآفاق

فتكنى معتوتها بعتاه ... يالها كنية أتت باتفاق

وإذن فلا سعادة ولا استقرار للشاعر ولا للضعفاء من أمثاله حتى تبيد تلك الطائفة الطاغية المفسدة التي تتمثل في الخليفة ومن حوله من سادة وأمراء وقواد.

وهكذا كان حبه الفاشل سبباً من أسباب تغلغل حقده على ذرى الجاه والنفوذ في عصره على نحو ما سنبينه بعد.

وقد قضى الشاعر بقية أيام المهدي صامتاً عن عتبة لا يكاد يذكرها بشيء خوفاً من الخليفة. وما كاد الأخير يقضي نحبه حتى شعر أبو العتاهية بالأمن بعد الخوف والفرج بعد الضيق كما يصوره قوله: -

مات الخليفة أيها الثقلان ... فكأنني أفطرت في رمضان

وقد ذهب بعض النقاد إلى أن الشاعر إنما يعبر هنا عن أسفه لموت الخليفة وأنه إنما يشعر بما يشعر به كل من أفطر عمداً في رمضان. . ولكن هذا في نظرنا تأويل بعيد كما أنه يناقض تلك الأبيات المشهورة التي قالها أبو العتاهية في موت المهدي والتي تبدو فيها روح الشماتة الوضيعة. قال الشاعر مشيراً إلى جواري المهدي: -

رحن في الوشى وأصبحن ... عليهن المسوح

كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح

نح على نفسك يا مسكين ... إن كنت تنوح

لتموتن وإن عمر ... ت ما عمر نوح

يتبع

محمد الكفراوي