مجلة الرسالة/العدد 986/رمضان

مجلة الرسالة/العدد 986/رمضان

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 05 - 1952


للأستاذ علي الطنطاوي

لما قعدت أكتب هذا الفصل، تقابلت في نفسي صورتان لرمضان:

رمضان المزعج الثقيل، الذي قدم يحمل الجوع في هذه الأيام الطوال، والعطش في هذا الحر المتوقد، يمشي في ركابه المسحر بنشيده الممل، وصوته الأجش، وطبلته التي يقرع بها رؤوس النائمين، من نصف الليل، من قبل السحور بساعتين، فترج أعصابهم رجاً، وتنفي النوم من عيونهم، والراحة عن أجسادهم. .

ورمضان الحلو الجميل، الذي يقوم فيه الناس من هدآت الأسحار، وسكنات الليالي، حين يرق الأفق، وتزهر النجوم، ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من سائل فأعطيه؟ ألا من تائب فأتوب عليه؟ يسمعون صوت المؤذن يمشي في جنبات الفضاء، مشي الشفاء في الأجسام، والطرب في القلوب، ينادي: يا أرحم الراحمين. فيسري الإيمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة في كل مكان.

رمضان الذي ينيب فيه الناس إلى الله ويؤمون بيوته، ففي كل بلد من بلاد الإسلام مساجد، حفل بالعباد والعلماء، ليس يخلو مجلس فيها من مصل أو ذاكر، ولا أسطوانة من تال أو قارئ، ولا عقد من مدرس أو واعظ، قد ألقوا عن عقولهم أحمال الإثم والمعصية، والغل والحسد، والشهوات والمطامع، ودخلوا بقلوب صفت للعبادة، وسمت للخير، قطعوا أسبابهم من عالم الأرض ليتصلوا بعالم السماء. تفرقوا في البلدان، واجتمعوا في الإيمان، وفي الحب، وفي هذه القبلة يتوجهون كلهم إليها، لا عبادة لها، ولا التجاء إليها، فما يعبد المؤمن إلا الله. وما الحجر الأسود إلا حجر لا يضر ولا ينفع، ولكن رمزاً إلى أن المسلمين مهما تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار دائرة واحدة، محيطها الأرض كلها، ومركزها الكعبة البيت الحرام، رمضان الذي تتجلى فيه أجمل صفحات الوجود.

إن الحياة سفر في الزمان، وركب الحضارة الغربية يقطع أجمل مراحل الطريق: مرحلة السحر، وهم نيام، ولولا رمضان ما رأينا جمال السحر.

رمضان الذي تتحقق فيه الاشتراكية، وتكون المساواة، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، يفطرون جميعاً في لحظة واحدة، ويمسكون جميعاً في لحظة واحدة، كأن المسلمين كلهم طلاب مدرسة داخلية، يجتمعون على مائدة واحدة. تراهم في المساء مسرعين إلى بيوتهم، أو قائمين على مشارف دورهم، أو على أبواب منازلهم، فإذا سمعوا طلقة المدفع، أو رأوا ضياء المنارة، أو رن في آذانهم صوت المؤذن، صاح الأولاد بنغمة واحدة موزونة: أذن. . أذن. . وانطلقوا إلى دورهم طائرين كعصافير الروض.

فإذا فرغ الناس من طعامهم، أموا المساجد، فقاموا بين يدي الله صفاً واحداً، لا غني ولا فقير، ولا صغير ولا كبير، متراصة أقدامهم، ملتحمة أكتافهم، وجباههم جميعاً على الأرض، فأين في الوجود مساواة مثل هذه المساواة؟

رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وصحة الروح، وعظمة النفس، ورضا الله.

إن الصيام من سنن الرياضيين، وسلوا كتب الرياضة، وسلوا شيخها اليوم مكفارن، ولست طبيباً ولكني جربت بنفسي، ورب مجرب أوعى من طبيب.

فأنا أحد من أضنتهم الرثية والحصوات في الكلى، وثقوا أنني راجعت في علاجها ستة وثلاثين طبيباً، أي والله، وأحسبني جربت كل علاج، فلم أجد لها مثل الصيام إلا عن الماء والحليب وعصير البرتقال.

وهذه سنة من سنن الله في الكون: من أكل أقل أصابه السل، ومن أكثر ركبته الأملاح والرثيات والنقرس، ولولا ذلك لأكل الأغنياء أكل الفقراء. تقول لهم (الطبيعة) التي طبعهم الله عليها: قفوا! فالمرض بالمرصاد، لمن نقص في الأكل أو زاد.

هذه صورة رمضان الحلوة، أفلا تستحلي معها مرارة الصورة الأخرى؟

رمضان الذي تشيع فيه خلال الخير، ويعم الحب والوئام، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا عن الأحقاد، واذكروا ما في أعدائكم من خلال الخير، فأحبوهم لأجلها، واغفروا لهم، وادفعوا بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينكم وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وليس يخلو أحد من خلة خير، وليس في الدنيا شر مطلق، حتى الموت! فإنها قد تمر بنا ساعات نرتجي فيها الموت، حتى إبليس فإن له مزية الثبات والذكاء. وما أمدح إبليس؛ لعنة الله على إبليس، ولكن أضرب للناس الأمثال! وإذا جعتم هذا الجوع الاختياري، فاذكروا من يتجرع غصص الجوع الإجباري، واشكروا ربكم على نعمه. وليس الشكر أن ترددوا ألف مرة باللسان: الحمد لله! الحمد لله! ولكن شكر الغني البذل للفقراء، وشكر القوي إسعاد الضعفاء، وشكر السلطان إغاثة اللهفان.

وأعطوا من نفوسكم كما تعطون من أموالكم، فرب بسمة مع العطاء، تنعش السائل أكثر من العطاء، وكلمة خير لجار تحيي الجار، وبش في وجه ذي الحاجة والاعتذار عنها خير من قضائها مع الترفع عليه عند السؤال، والمن عليه بعد النوال.

واذكروا أن الله خلق الإنسان مركباً من ملك وشيطان وحيوان، فإذا هدأ الحيوان في رمضان بترك الطعام، وخنس الشيطان بردع الشهوة، بقي الملك، فتخلقوا بأخلاق الملائكة، فلقد كان المسلمون الأولون ملائكة الخير في الأرض، وكانوا يعيشون عيش الملائكة، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، قد فرغوا من شهوات البطن، فأجزأتهم تمرات في اليوم، وفرغوا من هم ما تحته، فلا تستهويهم شهوة، ولا يستعبدهم جمال، وعاشوا لهدف واحد، هو الواجب، فكان كل مسلم قطعة من هذه الآلة الضخمة الهائلة، التي أدارها الشرع، فأدارت الفلك.

كانوا يقومون لله، ويقعدون لله، ويأخذون لله، ويدعون لله. دعوا إلى البذل فأعطوا؛ جهز عثمان جيش العسرة من ماله، وأعطى عمر نصف ماله، وأعطى أبو بكر ماله كله، فقالوا ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.

ودعوا إلى الجهاد، فجادوا بنفوسهم في سبيل الله، وأتوا العجائب، وقحموا الأهوال، حتى فتحوا ثلث العالم في ثلث قرن، ودعوا إلى العلم فكانوا أساتذة العالم. كانوا جناً في النهار، ورهباناً في الليل، وكانوا أكبر من الدنيا، لا لأنهم ملكوا الدنيا، فالدنيا لا يملكها كلها أحد، بل لأنهم زهدوا في كنوزها، فصارت كنوزها هي والتراب عندهم سواء. وأنت إن كنت تملك قرشاً ولا تطلب غيره، أغنى ممن يملك المليون ويطلب مليونين، لأن ذلك ينقصه مليون، فهو يحن إليه، ويتحسر عليه، وأنت لا ينقصك شيء.

فجربوا هذه العظمة في رمضان، لا تفكروا في الطعام، لا تثركم موائد الملوك، ولا ما احتوت المطاعم، ولا تفكروا بالنساء، لا يثركم حور الجنان.

هذا رمضان يا أيها الأخوان، فخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والحب لقلوبكم، والعظمة لنفوسكم، والقوة والنبل، والبذل والفضل، وخذوا منه ذخراً للعالم كله يكن لكم ذخراً.

أعاده الله عليكم بالخير والنصر والإقبال.

علي الطنطاوي