مجلة الرسالة/العدد 989/القصص

مجلة الرسالة/العدد 989/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1952



خمسة أعوام في عذاب

عن الإنكليزية

ليس في وسع إنسان مهما يكن شعوره بالفضل وبالترفع أن يفاخر بأنه

لا يعبأ بالمغريات وبدوافع الشر أو بأنه يحتقرها. فالإنسان لا يعرف

كم تتغير نفسه تحت أحكام المؤثرات

وإني لأروي على سبيل الاستشهاد على صدق هذه النظرية القضية الآتية التي سمعتها من أحد رجال البوليس السري في لوندرا

ماتت زوجة تاجر غني لم يكن له إلا ولد واحد، فتزوج من أرملة في منتصف العمر. وكان ابنه شابا فلم يرض عن هذه الزوجة. وكان يشتغل في غير المدينة التي فيها أبوه، فامتنع عن مراسلته بعد هذا الزواج. ولكن الأب كان راضيا بهذا الثمن، وهو غضب ابنه في مقابل تلذذه هو واستمتاعه مدة العام الذي بدأ بالزواج وانتهى بوفاته

ولأسباب لم تظهر قط كان الجزء الأخير من هذا العام كله ريبة وسوء ظن ودسائس في هذا البيت، لأن الخدم الثلاث كن يرتبن في مقاصد الزوجة. وكانت أقدمهن وقد قضت في خدمة المنزل بضعة أعوام تعد نفسها في موضع الجاسوس على أعمال الزوجة. وقد كانت تنصت فسمعت زوجها يتوعدها عدة مرات بأن يغير الوصية بحذف منها اسمها بتاتا. فكانت تجيبه بأنها تجد الفقر أخف عبئا من معاشرته على وفرة غناه

وكانت تلك الخادم تستدعي زميلتيها ليسمع ثلاثتهن مثل هذا الوعيد. وقد فهمن جميعا علة الخلاف بين الزوجين. فلما مات الرجل انتظرن أن تكشف الوصية لهن عن جلية أمر الخلاف

وقد كانت دهشتهن عظيمة عندما جاء المحقق وتبين أن الوصية تحرم ابنه من الميراث وتعطي الزوجة ألفي جنيه في كل عام وهي كل إيراده طول حياتها

وكان من الطبيعي أن تشعر الزوجة بالراحة والاطمئنان عند ما صارت مالكة لهذا الإيراد. وزالت الحزازة التي كانت تشعر بها أيام حياته. وبعد يومين من الوفاة جلست أمام مكتبه تكتب الردود على التعازي. . وقد فرغت سريعا من هذا الواجب ثم أخذت تقلب أوراق زوجها وهي لا تزال مبتسمة. ولكنها لم تكد تقرأ اثني عشر سطراً حتى قطبت جبينها وعرتها دهشة، لأن الذي كانت تقرؤه إنما هو النص الأخير لوصية زوجها؛ وهو يحرمها كل شيء ويهب تركته كلها لابنه. وكان تاريخ هذا النص قبل أسبوع واحد من الوفاة، وعلى والوصية توقيعات شهود من الأحياء. فجلست تفكر فيما سيؤول إليه أمرها لأن البقية الباقية من ذلك العمر ستكون حياة فقر مدقع. ولذلك كان الإغراء الذي تجد نفسها تحت تأثيره قويا جدا، فهو ليس بين الشرف وبين انعدامه، ولكن بين الغنى وبين الفقر. وكان عمرها إذ ذاك خمسين عاما وهي لا تستطيع التكسب بوجه من الوجوه. ورأت أنه إذا لم يكن أحد ليذيع أمر هذه الوصية فلماذا لا تلزم الصمت؟

وحملت الوصية في يدها ومشت إلى الموقد ولكنها وجدته خالياً. وكانت من قبل ذاهلة عن ذلك وعن أن الليل كان قد انتصف. وكادت تمزق الوصية ولكن الخادمة في هذه اللحظة دخلت ووقفت واجمة فسألتها: (ماذا تريدين؟)

ابتسمت الخادمة ولم تجبها فقالت: (ما الذي تعنين؟)

فحاولت المرأة أن تضحك ولكنها لم تستطع. وقبل أن تتحرك أية حركة كانت الخادمة قد اختطفت من يدها الورقة التي ستتركها في فقر مدقع فصرخت تلك صرخة يأس، وحاولت أن تسترد الوصية

وعلى الرغم من التفاوت في السن فإن الخادمة كانت أقوى المرأتين فاستطاعت التغلب على سيدتها. وتلت الوصية في هدأة ثم قالت بعد الفراغ من ذلك: (لقد فهمت الآن)

قالت الأرملة: (لقد وجدت هذه الورقة منذ دقيقة فقط وأردت أن. . .) فقالت الخادمة مقاطعة: (أردت أن تحرقيها لو كان في الموقد نار)

ثم مضت فترة صمت قالت بعدها الخادم: (من حسن حظك أن أكره المستر وليم ابن سيدي المرحوم، فإذا سلكت مسلكا حكيما فإنه لن يعلم أحد بأمر هذه الوصية)

سمعت المرأة هذه الكلمات فأثلجت صدرها لأنها كانت شديدة الخوف من الفقر، فاستدعت الخادمة وأجلستها بجانبها وعرضت عليها اقتسام الثروة بينهما وأن تدفع لها ألف جنيه مقدما فلما تم الاتفاق على ذلك قالت الأرملة: (والوصية؟ هل تمزقينها) فقالت الخادمة: (كلا بل ستبقى معي إلى الأبد)

ورأت الأرملة أن خادمتها لا تقبل المناقشة في الأمر فأذعنت. ومن ذلك اليوم أصبحت الخادمة هي السيدة الحقيقة في المنزل فبدأت بطرد سائر الخدم واختارت آخرين؛ وكان ثاني عمل أتته أن أحضرت ابنها إلى المنزل وأطلقت عليه لقب السكرتير لتلك الأرملة فكان يلازمها في الصباح وفي المساء

صارت الحياة مؤلمة في نظر السيدة لأنها أصبحت تشعر بعد إخفاء الوصية بأنها ارتكبت جريمة منكرة وبأنها باتفاقها مع الخادم قد وضعت نفسها في مركز ذليل، ولكنها احتملت حالتها خمسة أعوام في صمت؛ وفي بدء العام السادس ذهب الخدم ليقدموا الشاي إلى كبيرتهم التي يعرفونها أنها السيدة الحقيقية فعادوا يصرخون ويعلنون أنها ماتت

وظنت الأرملة أن الحظ عاد إلى الابتسام؛ ولكن سرعان ما أخفق أملها لما أمرت ابن تلك الخادم بأن يترك خدمتها فتنكر لها وهددها بإظهار الوصية

ولما رأت أن حالة الذل ستبقى كما هي بل ستزداد لأن خضوعها لهذا الرجل سيكون أشد إيلاما لنفسها من خضوعها لأمه - لما رأت ذلك ملكها اليأس وذهبت إلى إدارة البوليس، ولكن جهلها بالقانون جعل رجل البوليس يضحك منها لأن الوصية التي تخشى شرها قد بطل مفعولها بعد وفاة ابن زوجها عن غير وارث وأصبحت هي من تاريخ الوفاة مالكة للتركة

كانت إذن في الأعوام الثلاثة الأخيرة تقبل الذل خشية من ظهور وصية تجعلها هي المنفردة بمال

ع. أ