مجلة الرسالة/العدد 989/رد على نقد

مجلة الرسالة/العدد 989/رد على نقد

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1952



حول (مذكرات واعظ أسير)

للأستاذ أحمد الشرباصي

شاء الكاتب الصديق الشيخ كانل السيد شاهين أن يملأ أكثر من ثلاث صفحات في (الرسالة) الغراء بالحديث عن كتابي الأخير: (مذكرات واعظ أسير). ومن حق القراء على الرسالة أن ينفسح صدرها لكلمة النقد كما ينفسح لكلمة التقدير؛ ولكن الواجب المسلم هو أن يكون الحديث ذابال، وأن يكون النقد ناهضا على أساس متين من الحق والصدق، حتى يسلم من الهوى والظنة، ويرتفع عن السباب والمهاترة

ولقد بسط الشيخ شاهين رداء الحديث في صدر كلامه مادحا مطريا، ثم جمع أطرافه على وحزات من النقد يحسبها في الموضوع، ونراها مصطنعة ليبدو الكاتب وكأنه يعادل بين التأييد والتنفيد، حتى يقال له: ما ابرعك مادحا وقادحا؛ وهيهات!. . .

وعلى الرغم من مقدمة الكانب العريضة المشعرة باستفادته من الكتاب وتأثره به، وعلى الرغم من أنه اعتراف بأن (المآخذ) التي سيذكرها (لا تشين الكاتب) ولا تتناول موضوعه وفصوله، ولا تروث صورا إلا (كلفا من بعض الجوانب) فقد شاء له حرصه على الإفاضة في القول أن يملأ صفحتين بالدوران حول خذخ الملاحظات التي لا تسين ولا تتصل بالموضوع

ويؤسفني أن أقرر أن أولى ملاحظاته ينقصها الصدق، فقد ادعى عليّ أنني أكثرت في كتابي من ذكر (أني خطيب، وأن لي جهوداً ملحوظة في نشر الدعوة، وأن لي أتباعا وأنصارا). . وأين ذلك في الكتاب أيها الصديق؟ لعل حديثا جرى عن طريق المؤلف في خطابته، وعن حرصه على وصل المنبر بالحياة الاجتماعية، وهذا لا ضير من تقريره، أنه رسم طريقة وتحديد توجيه؛ ولك امرئ إذا كتب (مذكرات) تحدث عن مثل هذا وأضعافه، ولا يعاب ذلك ولا يذم. . ولعل حديثا جرى على قلم صاحب (مذكرات واعظ أسير) عن رواد مسجد المنيرة - على أيامه أطيب التحيات - وهؤلاء الرواد كانوا من غير شك يؤلفون مدرسة إسلامية متواضعة تحدث الناس عنها هنا وهناك. . . أما وصف المؤلف نفسه بأنه خطيب وبأنه عظيم المجهود وبأن له أتباعا وأنصارا، فحديث مصنوع أو موضوع!

وآلم السيد شاهين ما جاء في خاتمة الكتاب من تحايا الشعراء والأدباء للمؤلف بمناسبة الإفراج عنه والفرحة بعودته إلى حياة الحرية والانطلاق، وشاء أن يعبر عن ألمه بهذا الحكم الصارم - أو الوارم -: (فسائر هذه التقريظات غاية في الغثاثة والتفاهة) ومن السهل على كل إنسان أن يصدؤ مثل هذه الأحكام العامة التي ينقصها الرشد والتبصر. ولعل الكاتب لم ينس أن العرب اختصروا الطريق في حكمهم على القرآن المجيد فقالوا أنه (أساطير الأولين)!. . . ومن المؤسف مرة أخرى أن أذكر الشيخ شاهين بأن هذه التحايا لم تكن تقريظات. ولم يستكتبها أستاذ من طلبته كما زعم متجنيا، بل هي صورة عواطف ومشاعر لإخوته كرام سبقوا بها قبل ظهور الكتاب بشهور ونشر أغلبها، واصحابها لهم مكانتهم الأدبية وماضيهم الشعري، ولذلك عنوت بعنوان (تحية وذكرى)، ومن الطريف - وليس مما يعاب كما توهمت - أن تسجل العواطف المتبادلة بين التلاميذ الأحياء والأساتذة الأوفياء - وعد النظر عن غير هؤلاء فهم كالهباء -. . . وهل يعد غاية في الغثاثة والتفاهة قول أحد المحيين:

عفواً إذا زل مما قلته قلمي ... برغم أن جنا زلاته الخطر

أوخذت ظلما وهذه رحمة سبقت ... من أن تؤاخذ عدلا أيها القمر

وهل يعد غاية في التفاهة والغثاثة قول الثاني:

لبيك لو قبل المعاند فدية ... أو لم يزعه ضميره المتغابي؟

إني لأدخر الثناء لعالم ... لاقى الصعاب بعزمة الوثاب

متدرعا بالصبر، لا متراجعا ... في الحق، أو مستهدفا لعتاب

لقد أبعدت أيها الصديق، وحملت هذه التحايا ما لا تطيق!

وكبرى الكبائر عندي أن يعتبر الشيخ شاهين دفاعي عن الأزهر الشريف المعمور (هفوة)! كبرت الكلمة منك أيها الصديق. . . الأزهر الذي رضعت لبانه وتمتعت بخيراته وسعدت بكنوزه وعلوت باسمه ينال منك هذا الجزاء؟. ثم أنت لا تقتصد في النقد، ولا تكتفي بالتوجيه، ولا تقنع باللوم، بل تجور وتجور، فتنال جبهة الأزهر الشماء بما تشاء، ثم تسرف فتقول وبئس ما تقول: (ألا أنه قليل للأزهر أيلام، وقليل لرجاله أن يتهموا بالضعف والتدليس وحب الدنيا، وإذا كانت فعلتهم في النكر ما هي، فإنه لأنكر منها أن يدافع عنها ويوقف إلى جانبها)!!

أهذا كلام يقال، ومن أزهري، ومن رجل يعمل تحت أسم الأزهر الشريف حتى اليوم؟. . . دون ذلك يا صاحبي وتفترق طريقانا. . . ثم إن هناك فرقا بين (الأزهر) و (الأزهريين) يا صاحبي، فالأزهر معنى وفكرة ورسالة وتايخ له جلاله وهيبته، والأزهريون قوم يجوز عليهم الخطأ، إذ ليسوا بمعصومين، وإذا كان فيهم من فرط، ففيهم أعلام جاهدوا ولا زالوا يجاهدون، ومن الكفران أو الطغيان تعميم الحكم على الجميع بهذه الصورة القاسية، وكدت أقول (الغلبية) ومعذرة إليك أيها الصديق، فقد فتحت الباب!

ومن الذي قال لك إنني (أيدت) الأزهريين جميعا وبلا استثناء وعلى طول الخط؟. . ألم أنتقد شيخ الأزهر الأسبق على موقفه من اعتقالي؟ (ص11) و (ص25). . ألم أسرد رأس شاب ثائر في علماء الأزهر وموقفهم من المحنة بعبارته الشديدة المكشوفة (ص 28)؟. . . وحتى في دافعي عن الأزهر والأزهريين قد أشرت إلى بعض العيوب الموجودة في البيئة الأزهرية وذكرت أسباب ذلك ودوافعه، ولما تطاول القول في ذم الأزهر بلا إبقاء قلت (ص 98): (إن هذا لا يليق، وليس من مصلحة أحد، وليس هذا أوان الطعن، والأزهر يجب أن يصان عن التحطيم والتهديم، وحبذنا لو تركنا أخطاء الأزهريين، ويجب أن نتذكر أننا لو جردنا الأزهر من كا حسناته لما فقد المعنى الإسلامي العظيم الذي يجعله حصنا يخيف المارقين)

ثم تأتي أعجوبة الأعاجيب، وهي أن يعتبر الشيخ شاهين تفسيري رثاء المتنبي لشبيب العقيلي بأنه (هفوة أدبية) ولست أدري أبنا الذي هفا، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين؛ والحكم هنا هم القراء، فليطالعوا كلامي في كتابي وكلامك في تهجمك. ليروا رأيهم. . إن تفسيري لرثاء المتنبي على الوجه الذي أوردته ليس (تأويل نحاة) ولكنه ذوق أديب وفن بصير وحديث تاريخ، فعد إلى دارسي المتنبي إن شئت لتفهم، واقرأ ما كتبه الجارم في (الشاعر الطموح) عن هذا الموقف بالذات لتعرف معنى الرثاء هنا على وجهه الذي أريد به

لقد فر المتنبي إلى مصر، والفار يركب الصعب من الأمور، وقد حسب المتنبي كافورا قبل أن يراه أشياء فلما رآه لم يجد شيئا، ولكنه أصبح في حماه وتحت سلطانه، فلير حسنا ما ليس بالحسن، وليمدح العبد المخصي الذي لا تعاب ذات عبوديته، ولكن يعاب تمليكه وهو عبد بين أحرار، وليسخر به كما يسخر الناس قائلين (يا مولانا الأستاذ). . يا سيدنا المدير، يا ولي نعمتنا، ولعنة الله على زمان يتولي السيادة فيه العبيد. . وشاهين يتخذ من مدح المتنبي لكافور شواهد على عظمة كاوفر، فما رأيه في أهاجيه التي خسف بها كافوراً إلى أسفل سافلين؟. . ما رأيه في هذه الأهاجي التي جعلت العبد المخصى أضحوكة في كل فم؟. . وهل بعد قول المتنبي هازئا: (لقد كنت ارجو أن أراك فاطرب)؟. . وماذا يقول الإنسان عن (الأضحوكة) من الناس أو الحيوان غير هذا يا شيخ؟. . . وهلا أدركت ملغ سخرية المتنبي في قوله لكافور:

عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران

نعم ولو كان (القمران) من أعداء كافور لوصفا بالذم؟ وممن؟. . من كان لسان. . بإسلام بإسلام!. . أبعد هذه سخرية؟

وسقط الشيخ سقطته حين توهم أن المتنبي أطال المديح في شبيب بعد قتله لبري الناس أن كافورا كان ينازل خصما قويا وأنه كان أقوى به فتغلب عليه وقهره. . إنما يصح هذا في الأذهان يا فلان لو كان كافور نازل شبيبا في معركة، أو صاله مصاولة الأنداد، ولكن لعلك لا تعرف أن كافورا قضى عليه بأسلوب الخسة واللؤم، فدس عليه من سمه، وتلك خطة الجبناء، وذلك حيث يقول المتنبي:

وقد قتل الأعداء حتى قتلته ... بأضعف قرن في أذل مكان

وأرجو أن تتمهل حتى تدرك مبلغ التعريض بكافور في قول المتنبي عن شبيب:

وما كان إلا النار في كل موضع ... تثير غبارا في مكان دخان

فنال حياة يشتهيها عدوه ... وموتا يشهي الموت كل جبان

إن التعبير ينطق صارخاً: يا كافور، أيها الجبان، إنك لن تنال شرف الميتة التي متها عدوك، فأين أنت منه يا عدو البطل الراحل؟

ويصف الشيخ شاعر العربية المتنبي بأنه (مداح فقط) وما أثقل كلمة (فقط) هذه. . فأين حكمة المتنبي إذن، وأين خبرته بالنفوس، وأين تصويره للطبائع البشرية، وأين أحكامه الدقيقة العميقة على الحياة والأحياء؟. . وثالثة الأثافي أن يصف المتنبي بأنه (ضيق الباع)!. . ما شاء الله!. . رحم الله المتنبي يوم جلجل بصوته فردد أبياته التي اختتمها بقوله:

فيا موت زر، إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل!

أما بعد، فللنقد أصوله وقواعده، إذا توافرت فيه وجب الخضوع له والرجوع إليه، وإذا عدمها كان تطاولا أو جهلا؛ ولست أدري مبلغ القواعد التي استند إليها أو نهض عليها نقد الكاتب الصديق. بعد ما قدمت من حديث وقل سلام!

أحمد الشرباصي