مجلة الرسالة/العدد 989/من وحي القمة القاصية:

مجلة الرسالة/العدد 989/من وحي القمة القاصية:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1952



قطيع الصيف في باريس

للدكتور علي شرف الدين

في كل عام - وفي مستهل الصيف خاصة - يقبل على باريس هذا القطيع من أطراف أوربا. مختلفات الجنس واللغة، متباينات الأعمار والثقافة، في عيونهن غرارة، وخلف الأجفان مستقبل حافل بالدموع، ما عرفته ولا فكرن فيه، وفي إشارتهن براءة، وما تصيب الفواجع غالبا غير القلب البرئ، كأنما تحب السماء هذه القلوب، فهي تمتحنها بالآلام لتزيد في طهارتها قبل أن ترفع إليها

أطلقهن الرعاة من مراعيها الآمنة، وأبحن لهن - وهن الناشئات - أن يقبل عليهن المساء، وهن في غير مراح الحقل بعيدات عن سمع الراعي ونظره، وما بالع من أطلقهن في الثقة، ولا أسرف في حسن الظن، ففي قلوبهن من وحي الفطرة الأصيلة عصمة، وفي آذانهن من ترانيم الكنيسة صدى رائع يغلب كل الأصداء، ولكنها سنة الشباب والحب، جديدة في كل عصر، وإن أعادت نفس القصة في كل جيل

أقامت لهن باريس معارض الفن ومناهل للأدب، وحشدت لهذا أقوى ما يأسر النفس والعين. يمضي الصيف وهي مع الرعيل في الغدو والرواح، يهديها رسول الأمن في الجماعة، ويملأ عينيها نور الفرح بما ترى وتسمع، لا تلبي غير نداء المعرفة، ولا تغشى غير المواطن الآمنة، في صالات الموسيقى، وفي الكسمبور، وتحت قباب البانثيون. . .

فإذا تقدمت بهن الإقامة رأيت شيئا جديداً: رأيت أن القطيع قد استحال إلى أسراب، ثم استحال السرب أخيراً إلى (الغنمة القاصية)، ولكن في صحبة جديد، ولا تشك حين تراهما في أن ملاكا يحرس هذا الحب الجديد، فما تزال سمات القطرة في الوجوه تنادي بنبل العاطفة، وما يزال في العيون شعاع يكشف عن قلب برئ. ومن ذا الذي لا يبارك على حب تذكيه غرارة السن، ويرعاه من العاطفة ميل ساذج صريح؟

ويمضي الصيف فيبقى نصف القطيع قائما في باريس لا يريم. ويتقدم الزمن قليلا، فإذا جدة الحب قد أخذت تبلى، وإذا بهجة اليسار قد أخذت تنطفئ، ليأخذ مكانها ظلام الحاجة، وإذا هذه الغلائل البيضاء التي كانت ترف بالأمس على هياكل من النور كما يرف ج الحمائم السابحة في صبح الربيع. . قد استطال الفقر في ذيولها، كما استطال الحزن والألم في هياكلها. بقية من جمال يغزوها الهم الناصب، والضنى الملح، في انتقال مفاجئ من حياة إلى حياة، ما أبعد كلا منهما عن الأخرى

هذه المدللة التي أكرمها الفلاح، وأقامها في الحقل (الآمن) تستملي حياة الدعة والسعادة، وتضفي على الحقل ربيعا أجمل من ربيع مروجه، قد أصبحت تعمل في حقل آخر، عمل الأجير لا المالك، ويهولك ما ترى حين ترى أن هذه المدللة التي لم تجاوز العشرين قد أخذت تؤجر في الحقول. . . لم تعد تصغي للموسيقى ولا تغشى محاضرة، ولا تحفل لهذا التاريخ الرابض في معالم باريس، ولكنها في مقاهي سان جرمان مع الغاضبات من الأهل، الساخطات على الحياة، وأخيراً في كهوف الليل الحمراء على ضفة السين. . .

إن لها شخصية كما يدعي صاحبها الذي أطلقها من المرعى (الآمن) فهو لا يسأل - ولا يحب أن يسأل - كيف تعيش؟ وهي (الحضرية) المدللة التي ما عرفت العمل، وما خلقت إلا لتضفي النور على ما حولها. . . إنها شخصية تمنحها إياها الحضارة في تمام العشرين، وقد نسيت الحضارة أن الزهرة هي الزهرة، في أول الربيع، وفي عنفوانه، وفي نهايته، وأن الطبيعة عرفت هذا فنثرت من حولها الشوك لترهب القلوب الطامحة، وتدفع الأيدي عن جناها. وتمر بك هذه الذابلة التي كنت تسعد بالنظر إليها، فتعاف أن تراها رحمة وإشفاقا، ولكأن هذا العربي قد أرادها في هذه الصورة القوية من شعره

كنت مشغوفا بكم إذ كنتم ... شجراً لا تبلغ الطير ذراها

لا تبيت الليل إلا حولها ... حرس ترشح بالموت ظباها

وإذا مدت إلى أغصانها ... كف جان قطعت دون جناها

فتراخى الأمر حتى أصبحت ... هملا يطمع فيها من يراها

ويح المسيحية وويح الشرق منك يا أوربا! ألا تذكرين حديث (الغنمة الضالة) في الإنجيل؟ ألم يطلب إلى الراعي أن يبحث عنها حتى ولو تعرض القطيع كله للضياع؟ أنه يعلمك كيف تكون القيم الإنسانية عندك خيراً من (المصلحة) وكيف تحرصين على الاستجابة لهواتف الروحية، وإن لم تدع إليها (المنفعة). إن القطيع من غير شك خير من الواحدة، ولكنها الساعة الرحيمة التي تكسر كل مقاييس الموازنة، وتحطم كل موازن المقارنة هي إذا (الشخصية) أو (الحرية) أو (سن الرشد) وغير هذا من الكلمات التي تزعجينها في بطون القواميس - تقيمين منها قانونا حين شعرت بالاستخذاء والظلم، سن الرشد!! المعروف أو سن الرشد الحقيقية تبتدئ منذ الميلاد، وتنتهي غالبا قبيل العشرين أو عندها، وعند العشرين تبتدئ سن الرعاية والملاحظة. . .

على أن لك في سنة الرشد رأيا غريبا - رأي يتغير حسب المصلحة والعصبية الشعوبية: تعطين سن الرشد للأفراد، وتحرمين منها الجماعات، تعطينها للغنمة القاصية وتمنعين منها الجامعة تستمد القوة والرشد من جماعتها وائتلافها. لكم تعمدن إلى القطيه تمزقين من وحدته حتى استحال إلى غنمات قاصية لا تكاد إحداها تسمع نداء الأخرى، ثم زعمت لنفسك عليها سلطانا في دعوى باطلة مزورة، تارة (برسالة الحضارة) وأخرى بأنها لم تبلع سن الرشد، وقد كان في اجتماعها وتآلفها الرشد كل الرشد، ولكنها المصلحة التي أنكرت فيها حقوق الإنسانية ويح المسيحية وويح الشرق منك يا أوروبا!

أسرفت في السرور حتى قتلت في نفوس أبنائك الإحساس بالسرور، وأقمت للوثنية هياكل مكذوبة، تقدمين لها قرابين دامية، هي أشلاء ضمير ممزق في معركة صرعت فيها (المنفعة) كل هواتف الروح، وما رضيت أن تشهدي وحدك هذه الأصنام بالأمس في قصر شابو، ولكنك تدعين معك فرائس السياسة، وغنائم القوة، ليشهد مضارع حقوقهم وأمانيهم. . .

حتى (الإنيسكو) هذا الرجل الوقور، سخرت منه أوربا و (ضحكت عليه) فغرزت في عمامته أعلام الشعوب ترفرف متساوية متكافئة، نعم نعم ترفرف متساوية متكافئة في (الهواء) تقولين له: (ما أحوجنا إلى رأيك في التربية والتعليم) ثم تسرين له في أذنه: (رسالتك شاقة، وإنك لتعرف ما بين السطور، فكن ماهر النفاذ، لطيف الأداء، فما أحوجك إلى (لكياسة) لتصل من التربية إلى (. . . .) فيبتسم هذا الرجل الوقور بينما ينكث أطراف لحيته المستعارة (إنني خبير (بالسجعة) المقصودة، وما أيسر أن تجمعهم هلي ضرب واحد من التسليم، ومنهج متحد من التربية، حتى تلتقي الأهواء، وتتآلف النزعات، وهناك تتم (السجعة المفقودة)، وقد نسيت أوروبا ونسي معها هذا الرجل شبه الوقور أن الشهوب لم تكن شعوبا لأن الأنهار تفصلها أو لأن الجبال تحد ما بين تخومها، ولكن الشعوب كانت شعوباً لأن لكل شعب أمنية يفيض بها قلبه، أمنية تستغل حياته وتأخذها من أقطارها لا تلبث أن تستحيل إلى مادة حية في أغنية خالدة مقدسة. ما لي أنسيت الحديث؟ لقيتها مرتين مواظبة على محاضرات (أحلام معتزل) لجان جاك روسو. إنها تلتمس عنده في ساعات عزلته، ما يسمح على جراح نفسها. إنها قد نسيت الماضي، الماضي البعيد والقريب، وما كانت تحب أن تثير هذه الذكرى، فإنها قد تجاوزت منطقة الألم، واستراحت إلى نسيان يوشك أن يسبغ الطمأنينة والهدوء على قلبها، وكانت نفسها صحيحة لم تكسر، مشرقة لم تنطفئ، وإن كان يسبح في جبينها الهادئ شعاع شاحب ترف على حواشيه ذكريات خافته، تدافعها بالصبر والأمل، وقوة الإيمان بحياة جديدة

وكان شأني يضيق بمعاونة تغنيها، ولم أجد غير سيدة تركية هي وزوجها مثل عال لحضارة الإسلام في باريس، قلت لها: إنها كما ترين حزينة كسيرة وما أحسبها تحسن الكثير من عمل المنزل، وما أحسبها إلا حملا عليك لن تضيقي به، ولها من ثقافتها في منزل شرقي ما يهيئ لها الحياة فيه، فطالعت السيدة أسارير وجهها، فلم تشهد تمردا، ولم تر أثرا لهذه النكسة التي تطبع على وجوه المغلوبين في حياتهم الساخطين عليها، فابتدرت قائلة (فإبنتي إليها منذ اليوم) ثم استدركت مستعجلة (معلمتها لا خادمتها) ثم التفتت إلى زوجها كمن تطمئنه على نهوضها بحياتها (وعندي لها من ستسعد يهن ويسعدن بها، وأن تضيق بحياتها من نشأت في سويسرا الفرنسية. . .)

مضت أيام لقيتهم بعدها، وكان السيد التركي كعادته يقضي الساعات في مكتبته، رأيته أشبه ما يكون بالمستغرق في حلم. فلم أشأ أن أقطع عليه تأمله، حتى انتبه متهلل الوجه سروراً (إنه شعر حسن جميل) قلت لمن؟ قال لشاعر تركيا عارف حكمت الهرسكي، ثم أقبل يقرأ، ولكن صوتا آخر قطع عليه قراءته، صوت أحسب أني سمعته قبل اليوم، فاتجهت نحوه فإذا في الحجرة القريبة منا قد جلست هيلين وإلى وجوارها طفلة في العاشرة من عمرها، ومن حولها ثلاثة من فتيات تركيا الحديثة، أقبلن للدراسة في باريس، ولا غنى لهن عن دراسة اللغة، سمعتها تملي عليهن قطعة لأندريه جيد، يصف فيها سمات الإدراك والفهم، تجري في أسارير طفلة بكماء قام على تربيتها قس سويسري، حتى أدركت الأصوات وفهمت الحديث يجري من حولها (. . . لقد نبضت سماتها بالحياة فجأة، وجرى في جبينها إشراق أشبه ما يكون بالشعاع الذي يسبق الفجر في أعالي الألب والذي ترف له القمة المتوجة بالثلوج. . لم يكن ابتساما، ولكنه لون من خواطر المتصوفة. . . لم يكن قط ما زادها في هذه اللحظة معرفة وإدراكا أكثر منه حبا وهياما. . .)

قلت للسيد (لست أدري أيهما خير من الآخر: الباستير السويسري مع جرتريد، أم السيد التركي مع هيلين؟) قال (الباستير من غير شك لأن جرتريد قد خرجي على يديه من الصمت إلى الإفصاح. . أما أنا فلم أصنع إلا ما يجب لها، وما هو من حقها في الحياة، وخير منهما جميعا الهرسكي الشاعر، ثم أعاد إلى يده ديوانه وأخذ يترجم عن التركية:

(ليس حتما أن تنتقل النفس من النور إلى الظلمة، لأن النور طبيعتها ففيم التحول وهي مستريحة إليه) (ومن الحتم أن تنتقل من الظلمة إلى النور ليس فقط لأنها تشعر بالغربة والإبحاش، ولكن لأن وطنها الأول يحمي هو الآخر رعاياه)

باريس

علي شرف الدين

دكتور في الأدب الفرنسي البحت من السوربون