مجلة الرسالة/العدد 99/إلى بعض الكبراء. . .

مجلة الرسالة/العدد 99/إلى بعض الكبراء. . .

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1935


عندكم يا سادتي المال، ولكم الجاه، وكان فيكم الحكم، فلم تأبون أن يكون معكم المجد أيضاً؟ رفعناكم واتضعنا، وحكّمناكم وأطعنا، ثم صغنا مجداً ألقاباً لعظمتكم، وحشدنا أبناءنا جنداً لسطوتكم، وجعلنا أموالنا مدداً لثروتكم، وقلنا أفراد تقويهم روح الجماعة، ورموز تلبسهم فكرة الوطن، وألوية ترفعهم سواعد الأمة، فإذا ضعفكم ينوء بقوة الحكومة، وإسفافكم يهبط بسمو المنصب، وارتفاعكم كارتفاع الأسهم النارية: فرقعة ولألا، ثم سقوط وفناء!

يزعم أرباب الشعر وأصحاب الخيال أن الإنسان ملكٌ مُرنَّق الجناح هبط من سمائه ولم يصعد، فهو لا ينفك ما عاش نزوعاً إلى موطنه! وهم يعنون بذلك أن الإنسان بالجزء الإلهي الذي فيه مسوق إلى الكمال مشوق إلى الرفعة، فهو يفرغ من مطالب الجسد ليخلص إلى رغائب الروح، ويبتدئ بالأثرة في ضيق الأنانية لينتهي إلى إيثار في سعة الغيرية، وينشأ على هوى الطبيعة معنى جزئياً ليعود بحكم التطور فكرة إنسانية! فما الذي قتل فيكم هذا النزوع السماوي، وصرف عنكم هذا الطموح المقدس، فقيدتكم جاذبية المادة، وعقلتكم شهوة الغرض، وأبيتم على نداء البطولة واسحثاث الرجولة إلا أن تكونوا ناساً كأقل الناس، لكم كروش لا تكتفي، ونفوس لا تشتفي، وأطماع لا تحد

ربما علل النفسيون هذا الميل الشاذ في بعض كبراء اليوم، بأنهم من فقد الخلق الصالح في قصور ذاتي معنوي لا ينفك؛ فهم يرتفعون قذفاً في السماء، ويسقطون جذباً إلى الأرض، ولا يشعرون إلا كما يشعر الحجر بأن القاذف المجهول رمى بهم أماني فوق، وسحق بهم أناسّ تحت!!

كذلك من يتعلم ولا يتربى، ويتربى ولا يتدين، ويتحرك ولا يقصد، ويتصرف ولا يريد! أولئك يحُدون دنياهم بالأفق، ويختمون حياتهم بالموت، ويزنون سعادتهم بالمادة، ويضخمون على أقوات الشعب ضخامة الفيلة المروضة ليكونوا مركباً للملوك، وفرجة للناس، وغذاء للأرض!! وهؤلاء أنماط من الخلق كانوا صُبابة العهد القديم رسبت فيها أكداره وشوائبه، ثم كانوا بحكم تخلفهم جسراً محطم الأركان مهدَّم القواعد، لابد للجيل الجديد من اجتيازه لينتقل من عالم إلى عالم، ويخرج من عصر إلى عصر، فهو يحملنا على اضطراب وخلل، ونحن نعبره على احتراس ومهل، وفي هذا الاحتراس وذلك الاضطراب سر ما ترى في خُطانا من قِصَر وفي نهضتنا من بط ما علة هذه الهزيمة في مصر، وما سبب هذا الخلاف في فلسطين، وما باعث هذه الثورة في العراق؟ لا تلتمس دواعي ذلك كله في كيد الدخيل وخداع العدو، فإن الغاصب يستطيع إن شاء أن يسلبك مالك بالحيلة، أو استقلالك بالغيلة، ولكنه لا يستطيع أن يفتنك عن شرفك وخلقك وضميرك وأنت رجل! إنما يدفع هذه الفيلة الأهلية الغُلف بخراطيمها الماحقة، وأخفافها الساحقة، وإهابها الصفيق، فتسوّى أمامه الأرض، وتمهد له الطريق، وتحمل له فوق ظهورها العرش!

إن مشكلة الدستور، وقضية (نزاهة الحكم) برهانان صارخان على أننا أُُتينا يوم أُُتينا من ناحية الخلق! وتلك ناحية لا يحصنها وا أسفاه شهادة تُعطى، وخطبة تُلقى، ومقالة تُكتب؛ إنما يحصنها الله بدينه، والمعلم بتهذيبه، والأب بسيرته، والزمن بطوله. وهل في سيادتنا وكبرائنا الذين أضلونا السبيل من لم يشدُ شيئاً من العلم في المدارس، ويدرك ذرواً من الأخلاق في الكتب؟ ولكن علم هؤلاء بالحلال والحرام كعلم القاتل واللص، لا يعصم النفس، ولا يوقظ الضمير، ولا ينفي الجهل، ولا يمس الحياة العملية! فنحن كما ترى مقضيّ على نهضتنا بالتثاقل، وعلى أمتنا بالتخاذل، حتى يصبح الدين قائماً، والضمير حاكماً، والعمل عقيدة، والإحسان طبيعة، والواجب مرعياً، والتبعة مفروضة؛ وحينئذ ينتظم وضعنا الشاذ، ويتسق وجودنا النافر، وتنفق من السُّلال مطايا الرجعية الذميمة!

قل لأولئك الذين أحرقوا روما وما زالوا يعزفون أناشيد الجحيم على أوتار نيرون! ماذا جنى هذا الشعب الكريم حتى سفهتهم حقه في الحياة، وأضعتم نصيبه من الحرية؟ كان في يديه دستور فأين ذهب؟ وفي طريقه استقلال فأين اختفى؟ وفي تاريخه ستة عشر عاماً حامية بالجهاد، دامية بالضحايا، فأين قطوفها المشتهاة، وحصائدها المرجوة؟

تصرفتم في حقوقه تصرف السفيه في المال المتروك، واتخذتم من مرافقه وسائل للكيد الأحمق وموارد للربح الخاص، وجعلتم من وحدته أولياء لا يعدوهم الإحسان وخصماء لا تُغبهُّم الإساءة، ونسيتم أن في البلد احتلالاً يقظ الرأي، كلوء العين، يحصى عليكم الأنفاس، ويتربص بكم الدوائر!

كان يقظان وكنتم غارّين، فدلف إلينا من جهتكم، واحتج علينا بخطئكم، ثم ذبكم عن الحكم ذبَّ البعوض، وقبض بيديه العاريتين على سياسة البلاد، ووقف الأمة المنكودة بين الحيرة والشك في عواقب هذا الفساد!!

أحمد حسن الزيات