مجلة الرسالة/العدد 99/من آثار هوجو
مجلة الرسالة/العدد 99/من آثار هوجو
أمبير جلوا
رمز الشبيبة المعذبة
للآنسة النابغة (مي)
بمناسبة انقضاء خمسين عاماً على وفاة فيكتور هوجو، سيكون النظر في كتاباته والتحدث عنها من خير الوسائل للاحتفاء بذكراه، بل هو أحسنها على الإطلاق، لأن الشاعر يعيش بآثاره لا بما يقول الناس عنه، ولا بما يصنعون (لتخليد) اسمه
ومن آثار هوجو ما هو خصيص بعصره، ومنها ما لن يستوعبه إلا المستقبل، ومنها ما هو لكل زمنٍ وكل مكان، ومنها ما يخيل أنه وضع لأيامنا هذه. ومع أن حكاية أمبير جلوا من أقل كتابات هوجو ذيوعاً، فهي أكثر ما تكون انطباقاً على حالة طائفة من الشبان في هذا العصر، حتى في هذه البلاد - مع اختلاف نوع الحافز لانفعال الغرام
ومن يكون أمبير جلوا؟
هو فتى سويسري، ووالده يعلم الخط في مدارس جنيف، استغواه أسم باريس، فراح يجري وراء السرابِ الذي أغرى الكثيرين بأن تلك المدينة العظيمة هي عاصمة المغامرة بالمواهب والمضاربة، وأن كلُّ لبيبٍ باسلٍ يجد فيها المستقبل الذي يستحقه وخلاصة ما يصبو إليه من نجاح وثروةٍ وشهرةٍ ومجد. (فمن دخلها بلا حذاء، خرج منها في مركبة)
وقد دخلها أمبير جالوا في أكتوبر 1827، ومات فيها بؤساً ويأساً في أكتوبر 1828
عامٌ واحدٌ لا غير، لتحيا فيه جميع الآمال، ولتخيب فيه جميع الآمال. ويصف هوجو بطله شاباً مديد القامة، محني الظهر قليلاً، برّاق العينين، فاحم الشعر، وردي الوجنتين، يرتدي رادنجوتاً أبيض، وعلى رأسه قبعة قديمة. في الجملة الأولى يتلعثم إذا هو يذكر أسمهُ وأسم المدينة التي كان فيها طفلاً ثم أسم المدينة التي يريد أن يكون فيها رجلاً. هو في الحادية والعشرين من عمره، وثقته بنفسه أقلّ من ثقافة فكره ومن خصب جنانه. هو يسعل قليلاً؛ وبحركةٍ مرتبكةٍ يحاول إرجاع قدميه إلى الوراء تحت الكرسي. ربما ليخفي حذاءه الرث ذ الخروق، أو هو يحاول تدفئة قدميه بعض الشيء بعد تسرُّب ماء المطر إليهما من هاتيك الخروق. وبعد الكلمات الأولى يتركز صوته، ويتكلم بطلاقه، وتكاد تقتصر أحاديثه على شعراء إنجلترا. كذلك عرفهُ الرجال الثلاثة أو الأربعة من كبار الكتّاب والأدباء الذين رحّبوا به وشجعوه وساعدوه قدر المستطاع، مقدرين فكرهُ المشبوب وثقافتهُ وتأدبه وحسن بيانه
انتابته في الشهور الأولى حمى باريس، فأراد أن يرى كلُّ شيء ويسمع كلُّ شيء. لم يعن بأهل السياسة والتسوس، ولا بالمتحذلقين الذين لا هم لهم غير (قتل الوقت) والظهور، ولا بجماهير المتقاطرين لزيارة المكاتب والمتاحف، بل كان همه روح باريس الحية، ورسالة باريس الفكرية واتجاهات باريس في تطورها الفني. وحيث الجدل الأدبي واحتكاك الآراء فهو موجود، يساهم في الحديث والمناقشة، ويطرح أفكاره العديدة لمن يبغي النقد والتحميص
كذلك كان في الشهور الأولى. أما في الشهور الأخيرة فاستسلم لليأس، وقد مل كلُّ شيء، وزهد في كلُّ شيء. أترى مثله الأعلى كان أكبر من باريس أم أصغر؟
ليس من يعلم. إلاَّ أنهُ بات يوماً وقد أعرض عن الحياة، وكأنه قد صمم على الموت بدون انتحار. وكان عارفو مواهبه يمكنونه من مزاولة بعض الأعمال الكتابية التي يسعى إليها ويعيش عليها الألوف، كتحضير المواد اللازمة لتأليف المعاجم، وجمع المعلومات المقتضاة لتدوين سير العظماء - العمود الواحد منها بعشرين فرنكاً! فاشتغل قليلاً ثم أحجم. والعلة البطيئة التي لازمتهُ منذ الطفولة أخذت تتفاقم وتشتدّ بسرعة. وقد تلاشت آماله، واختفت من حواليه رؤى المجد المرجوّ، وأمتهن حتى ما تركه من منثورٍ ومنظوم، لعجز شعره بنثره عن تقديم شيء ولو صورة باهتة من نفسيّته المتفجّعة. وعندما قضى نحبه في الثانية والعشرين كان موقناً بأن شيئاً من آثاره لن يبقى
أما فكتور هوجو فيرى أنه كان مخطئاً، إذ بقيت منه رسالةٌ متقطعة كتبها في عدة شهور إلى أحد أصحابه السويسريين، ولا يقتصد هوجو في إعجابه بتلك الرسالة التي يعتبرها (اعترافاً سرياً من نفس قليلاً ما تشبه غيرها، على حين أنها صورة لجميع النفوس. وهذه هي ميزة تلك الرسالة: فهي الاستثناء، الشاذ، وهي الشيء الشائع المألوف) ونشر هوجو الرسالة بنصها المكتمل، فلم يحذف منها إلا الأسماء مراعاة لأصحابها. وإلى القارئ فقرات جوهرية من تلك الرسالة التي لا يتسع المجال لنشرها كلها. ففي هذه الفقرات ترتسم من أمبير جلوا صورته النفسية، مع خيال الغرام الواحد الذي عاش عليه إلى النهاية:
(اليوم 11 ديسمبر، ونحن في الساعة الثالثة. لقد مشيت، وقرأت. السماء جميلة، وأنا أتألم في تفطر. وصلت باريس في 27 أكتوبر، فأنا هنا أذبل وتذهب قواي بلا رجاء. عرفت ساعات وأياماً بتمامها لامس فيها يأسي الجنون. متعباً، في انقباض حسيّ وأدبي، متشنج النفس في هذه الأحياء المليئة بالوحل والدخان، كنت بلا توقف أهيم مجهولاً، وحيداً وسط جمهورٍ عظيم من الناس يجهل بعضهم بعضاً هم أيضاً)
(اتكأت ذات مساء على جدار جسر نهر (السين)؛ ألوف الأنوار تترامى إلى بعيد المدى، والنهر يجري، وكنت من الكلال بحيث لم أستطع مواصلة السير. وهناك، وقد نظر إلى بعض السابلة كأني مجنون، اشتدت على وطأة العذاب فلم أقو على البكاء. أنت في جنيف كنت أحياناً تمازحني هازئاً بشدة تأثراتي. وأنا هنا ألتهمها وحيداً، تلك التأثرات التي تنكل بي، ولا تفتأ تهتاجني بلا مهادنة. كلُّ شيء يتعاون على تمزيق نفسي: الإحساس الرحيب المتوالي الذي يشعرني بفناء زهونا وأفراحنا وأتراحنا وأفكارنا وتزعزع موقفي، ورهبة الفاقة، ومرضى العصبي، خمول اسمي، وبطلان ومساعيّ، وعزلتي حيال عدم اكتراث الآخرين وأثرتهم، ووحدة قلبي، وحاجتي إلى السماء والحقول والجبال والأفكار الفلسفية أيضاً، وفوق هذا - أجل، واهاً! فوق كلُّ هذا، الحنين الموجع إلى بلاد الجدود. يتفق لي في بعض الأوقات أن أحلم يقظان بكل ما أحببت، فأمضى متنزهاً في بلادي أُطيل التذكر بما قاسيت من الآلام في جنيف، وبنادر المسرات التي ذقتها هناك. وملامح من أصدقائي وأهلي، وطيفٌ من مكان قدّستهُ الذكرى، أو شجرة، أو صخرة، أو زاوية شارع، تتخايل لي، فتنبهني إلى الواقع صيحات سقاء باريسي. واهاً! كم أتألم عندئذ! وكثيراً ما أعود إلى حجرتي المنفردة عيّ الجسد والروح، فأجلس لأحلم أحلاماً مريرة مدلهمة في بحران وهذيان). . .) (ألا ما أتعس الذي يأسف على ما يسارع إلى لعنه عندما يجدهُ! ليس لي حتى أن أستمتع بألمي، لأن روح التحليل قائمة عندي على الدوام تشوِّه كلُّ شيء) (. . . . . سآمة نفس ذبلت في سن الحادية والعشرين، الشكوك القاحلة، الأسف المبهم على سعادة تراءت لي في إبهام أيضاً كمجد الغروب على ذرى جبالنا، أوجاع حسية، وأوجاع إيدياليستية، الاقتناع بأن الشقاء متأصل في النفس، اليقين بأن الثروة على ما فيها من كثير خير لن تجعل السعادة تامة: هذا ما يفطِّر نفسي البائسة. واهاً! يا صديقي الوحيد، ما أتعس أولئك الذين ولدوا تعساء!)
(ومع ذلك، يخيل إليَّ أحياناً أن موسيقى تعزف في الهواء لمسمعي، وأن ألحاناً شجيةً غريبةً عن أنواء البشر تدوي من فلك إلى فلك لتنتهي إليَّ. ويخيَّل إليَّ أن ممكنات آلام جليلة هادئة تحط على أفق فكري، كأنهار قصيّ الديار في أفق الخيال. غير أن كلُّ شيءٍ يضمحل بقسوة الرجوع إلى الحياة المجسوسة، كلُّ شيء! كم مرةٍ قلت مع روسو: (يا مدينة الوحل والدخان! كم تعذَّب هنا صاحب تلك النفس الحنون! وحيداً، شريداً، منكلاً مثلى - ولكن أقلّ شقاء بستين عاماً من عصر جادّ خطير الحوادث - كان في باريس ينتحب، وأنا أنتحب. وسيأتي غيرنا ينتحبون. يا للفناء! يا للفناء!
(. . . إلى الآن لا أربح شيئاً، مع أن لي أصدقاء مخلصين يجهدون ليجدوا لي عملاً. . . . .
(يا صديقي. أعود إلى رسالتي بعد بدأتها، ثم استأنفتها. نحن في 31 مارس والساعة الثامنة مساءً. أكاد أجنّ من فرط الآم، ويأسي يفوق الاحتمال. تألمتُ اليوم ألماً يكاد لا يستطيع أن يتخيله بشر. ثم داهمتني الحمى في هذا المساء، وما الحمى المحسوسة سوى فضلة الحمىّ النفسية). . . (أسمع). . .
(قد اكتشفت شيئاً فيّ فعلمتُ أني لستُ شقياً بسبب هذا الأمر أو ذاك، ولكن فيَّ عذاباً مقيماً يتخذ أشكالاً عدَّة. . . أنت تعلم أني في جنيف كنتُ أتخيل أني لو نفذتُ إلى باريس كنت سعيداً. وأنا، يا صديقي، هنا أعاشرُ أكبر الأدباء. . . وأشعر أحياناُ بنشوة الظفر في الأندية والسهرات والاجتماعات. . . وما كلُّ ذلك؟. . . إن في أعماق حياتي سرطاناً آكلاً. . . منذ شهرين تجمعت قوى عذابي على نقطةٍ واحدة، أخافُ أن أذكرها لك لفرط شذوذها). . . (ذاك المصدر المركزي لآلامي هو أني لم أولد إنجليزياً. أتوسل إليك ألا تضحك، فعذابي مبرح. العاشقون حقاً مهووسون لاعتكافهم على فكرة واحدة تستغرق جميع تأثراتهم. وأنا بعد أن كانت نفسي زمناً طويلاً فريسة جبلةٍ منوَّعة، أنا الآن مهووس أيضاً
(هاك منشأ غرامي بإنجلترا: أنت تعلم أني أحب أن أعيش مع الموتى متعرفاً حياتهم السالفة فأقطنها معهم وأسايرهم في أحوال معيشتهم، وأن أخلق بيني وبينهم تعاطفاً ييسرهُ وهم الزمن، فلا يستطيع بعد أن يزعزعه وجود الأفراد. وأجد في إنجلترا خمسين شاعراً على الأقل، زخرت حياتهم بالمغامرات، وعمرت كتبهم بالفكر وبالخيال. أما في فرنسا فلا أجد ثلاثة. وفيما عدا ذلك، قد كنت أحب من وطني الإنجليزي حتى مزاعمهُ اللاغية. ففي مزاعم إنجلترا كثير من الشاعرية وكثير من الخيال. وبدلاً من أدب واحد، فللإنجليز آداب أربعة: الأمريكي والإنجليزي والاسكوتلاندي والايرلندي، تُكتب جميعاً بلغةٍ واحدة ولكلّ منها خصائص تميزها. فأية ثروة أدبية!. . .
(يوجد الآن ثلاثون شاعراً بين الأحياء، كلُّ منهم مستقلٌ بشخصيته لا ينتحلُ طريق غيره، وكلّ منهم خصيب. بالثروة! وبالمغامرات سافيج المسكين، وشليِّ! وأيّ عملاق هو بايرون! كم من كنز عند هؤلاء للنفس التي تحبُّ الفرار من العالم لتلقي بأصدقائها في مخدعها! وكم ذا يعني الإنجليز بكتّابهم! إنهم يطبعون مؤلفاتهم في جميع الأحجام، وأي ذوق في طباعتهم، وكم من الخيال في نقوشهم! وأنظر إلى الأمة نفسها. فذوو السحنة الخسيسة في إنجلترا نادرون ندرة ذوي الهيئة الممتازة في فرنسا! كلُّ ما في تلك الأمة شاذّ. هناك تسود الحماسة في ألف شكل. هناك إلى جانب الآراء الوضعية الأكثر صرامة، تجد الترهات الأكثر نضارة. هذا بلد يحوي المذاهب الوضعية والنظريات الإيديالستية: فرنسا وألمانيا معاً. هو وحده له من القوة ما يكفي ليفهم كلُّ شيء، ومن العظمة ما يكفي كيلا ينبذ شيئاً. وأية ذاتية! إنك لتميز الإنجليزي بين ألف شخص. أما الفرنسي فيشبه الجميع. ووفرة الشيع الدينية في إنجلترا تثبت على الأقل خلوص النية في نفوس تحتاج إلى الرجاء ولم تجففها الماديات. وشذوذ شبان الإنجليز وتهورهم ينم على نفوس يتنازعها القلق). . .
(أتألم لشعوري بأني في غير مكاني وسط شعبٍ طائش ثرثار، ملحد، ما حل، ذي زهوٍ وبرودة، في حين أن الدنيا تحوي شعباً متديناً أو متطرفاً في التشكُّك، ولكنه على الأقل لا يعيش في غير اكتراث، شعباً تجد فيه الأصدقاء الخلصاء، والنفوس المتفززة، وحيث الطيش نفسه ذو نكهة غريبة شاذة ليس له هذه اللهجة الماجنة الفاترة التي نجدوها في فرنسا
(في المطعم الذي أتناول فيه طعامي يوجد إنكليز وفرنسيون. ويا للفرق! جميع الفرنسيين تقريباً مشاغبون صخابون عاديون، وجميع الإنجليز نبلاء محتشمون. وختاماً، يا صديقي، أظن أن صديقاً يستطيع التحدث إلى صديقه عن غرامه، لأن انفعال الحب يلاقي صدىً في جميع النفوس وليس فيه ما يستدعي الامتهان. على أن ألمي العارم من الشدة بحيث لا أستطيع التبيان، ولأنه جد شخصيّ خاص فقد يبدو سخيفاً مزرياً للذين لم يشعروا بمثله. ومع كلُّ ذلك، فهذا الجنون يشعرني بآلامٍ مروعةٍ لا تطاق. وكلَّ ُ شيء يرهفها: مشهد شخص إنجليزي، أو كتاب إنجليزي، حتى السخرية الموجهة إلى الإنجليز تلتهمني التهاماً. . . وهوسي هذا يجعلني أمجّ حتى الطمع في المجد. أودُّ أن أكون شهيراً في إنجلترا، وعليَّ لذلك أن أكتب بالإنجليزية. . . لو كنت إنجليزياً بمزاجي هذا المريض، لما تألمت دون ألمي الحاضر، ولكن معنى الألم قد كان يتغير. يخيل إليَّ أني لو ولدتُ إنجليزياً لاستطعت احتمال جميع آلامي. ولو ولدتُ لورداً إنجليزياً من أهبل اليسار، بنفسي ومزاجي كما هما، لكانت جميع ميولي وجميع أطماعي راضية قانعة، وعند ما أقارن بين هذا الحظ وحظي الراهن أجنّ. . .
(استأنفتُ دراسة الإنجليزية منذ شهرين بنشاط وحماسة حتى صرت أقرأ الشعر بسهولة. أفكر في الذهاب إلى إنجلترا والكتابة بالإنجليزية بعد أعوام. صاحبي ج. ل. يسلفني شعراء البحيرات الإنجليز. إنهم يفتنونني. وقد استبدلت بالكتاب الذي أرسلتهُ أنت إليَّ مجموعة مؤلفات بايرون في مجلد واحد، وتلوث فيه قصيدة صغيرة، (الحلم)، فكان لها عندي وقع الصاعقة). . . (تقول السيدة الإنجليزية التي تعطيني دروساً إني بعد الإقامة بإنجلترا عامين اثنين سأجيد كتابة الإنجليزية، لأني منذ الساعة أكتبها كما يكتبها قليلون من الفرنسيين. والواقع أني أنفق نصف نهاري في دراسة الإنجليزية
(إن هوسي شديد دائماً، فيا للضنى؟ وأني وجهت نظري وجدت التباريح. ومسائل العيش عندي ومازالت موضوع عذاب. أشتغل الآن في كتابة ترجمة حياة، ولكني في حاجة إلى النقود، بل أنا في ارتباك عظيم من جراء ذلك) انتهى
وقد علق هوجو على هذه الرسالة في تبسط، وبإنشائه وبتوسعه في اقتناص المعاني و الاستشهادات، مما يتعذر نقله إلى العربية. إلا أني ألخص من تعقيبه قوله: (عند ما نذكر أن الرجل الذي كتب هذا، مات عليه، تأملات من كلُّ صنفٍ تتفجر من كلُّ سطر في هذه الرسالة الطويلة. أية رواية، أي تاريخ، أية سيرة هي هذه الرسالة!). . . (ليست هذه سيكولوجية تدرس على السمع أو على الجثة، ولكنها تدرس في الأعصاب والأنسجة والعروق، في اللحم الحي ينز دماً، في اللحم الذي يعول. أنت ترى الجرح وتسمع الصيحة
(كتابة خطاب كهذا في تفطُّر وإهمال وجمال، دون بؤس كبؤس أمبير جلوا، كتابة خطاب كهذا بمجرد مجهود الإبداع الأدبي تقتضي العبقرية. أمبير جلوا متألماً يوازي بايرون. شيئان يجعلان الإنسان شاعراً: العبقرية أو الغرام، وهذا الرجل الذي كان نثره باهتاً وشعره فاتراً أصبح في خطابه كاتباً يستدعى الإعجاب. عندما ينسى أن يطمع في أن يكون شاعراً وناثراً، ينقلب شاعراً عظيماً وناثراً عظيماً. وسيبقى هذا الخطاب، فقد اشتمل على خليط قد يكون أدهش من كلّ ما أنتجه إلى الآن دماغ بشريّ في بابه، وبتأثير تضاعف الألم الحسي والألم الأدبيّ، والذين عرفوا جالوا يرون تشريحاً رهيباً، تشريح نفس، في الخطاب المتوتر، المضطرب، الطويل، حيث الألم يرشح قطرةً قطرةً مدى أسابيع وشهور، حيث الرجل الذي يجري دمهُ ينظرُ إلى دمهِ جارياً، حيث الرجلُ الذي يصبح يصغي إلى صوته صائحاً، وحيث في كلُّ كلمة دمعة) (لا حوادث في الحياة، ولكن فيها أفكاراً. اروِ الأفكار تسرد حياة الرجل. بيد أن حادثاً عظيماً يهيمن على هذه الحكاية المكدرة؛ وهو أن مفكراً مات من فرط البؤس! هذا ما فعلته باريس، مدينة الذكاء، بفتىً ذكىّ. . .)
(. . . أمبير جالوا، ليس فقط أمبير جلوا، بل هو في نظرنا يرمز إلى طائفة معدودة من شباب اليوم الكريم. في داخل هذا الشباب عبقرية غير مفهومة تلتهمه، وفي الخارج مجتمع ساءت أوضاعه، يخنق الشباب والعبقرية. فلا منفذ للعبقرية المحاصرة في الدماغ، ولا منفذ للإنسان المحاصر في المجتمع)
(الذين يفكرون ويتولون الحكم لا يهتمون في أيامنا قدر الضرورة بحظ هذه الشبيبة الزاخرة بعديد الغرائز، المتهافتة بحرارة ذكية، وبصبر واحتمال على جميع اتجاهات الفن. جمهور هذه العقول الفتية المختمرة في الظل، يحتاج إلى الأبواب المفتوحة، وإلى الهواء والنور والعمل والمسافة والأفق. ما أكثر ما يمكن عمله بهذا الجيش من الفطن! كم من قناة يمكن حفرها، وكم من سبيل يمكن تمهيدها في العلم، وكم من مقاطعة يمكن غزوها، وكم من عالم يمكن اكتشافه في الفن! ولكن، لا! جميع المهن مغلقة أو مزدحمة. وهذا النشاط المنوَّع الذي يستطيع أن يكون نافعاً مجدياً، يُترك متراكماً، مزدحماً، مختنقاً في ضيِّق الأزقة. قد كان هذا الشباب يكون جيشاً، فإذا به غمارة. إن تنظيم المجتمع سيئ حيال المقبلين، مع أن لكلّ ذي فكرٍ حقاً عند المستقبل. أليس محزناً حال هؤلاء المتألمين من العقول، المستقر نظرهم على الشاطئ المنير حيث كثير من الأمور الساطعة من مجدٍ وقدرةٍ وشهرةٍ وثروةٍ؟. . .)
وهذا بعض تعقيب هوجو، وهو في عطفه شفيقٌ نبيل. ولهجتهُ في كلُّ هذا التعقيب تحملني على الاعتقاد بأنه عرف أمبير جلوا وأحبه في حياته. ومن يدري؟ قد يكون الخطاب موجهاً إليه لا إلى غيره، وكون أمبير جلوا يرمز إلى الشبيبة المعذَّبة صحيح من الناحية الواحدة
على أن لهذه الشبيبة نفسها رمزاً آخر، هو فيكتور هوجو نفسه. فقد نشأ مريضاً، فقيراً، مجهولاً، مكروها من أخويه اللذين كانا يحسدان لمواهبه، بين أبوين منفصلين، فكان والدهُ بعيداً لا يعتني بزوجته الأولى وبأبنائه، في حين أن الشخص الوحيد الذي يكبرهُ ويحبه، أي والدته، أنكرت حقوق عواطفه وحالت دون اتصاله بالفتاة التي جعلت للحياة رونقاً ومعنى عنده.
وكان فيكتور هوجو باسلاً، فاحتمل الألم بقوةٍ أقوى من قوة الألم، وأستغلَّ جميع المصائب والمصاعب والحوائل لإنماء شخصيته واستحثاث مواهبه. فكان سيداً في زمنٍ عصفت فيه الأطماع وكثر فيه السادة والنابهون.
إن ما كتبه عن أمبير جلوا موضوع تأمُّل لجميع القارئين. أما حياته وبسالتهُ وانتصارهُ فمثالٌ لجميع العاملين.
(مي)