مجلة الرسالة/العدد 992/دراسة وتحليل

مجلة الرسالة/العدد 992/دراسة وتحليل

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1952



الجواهري شاعر العراق

للأستاذ محمد رجب البيومي

2 -

ونترك كارثة فلسطين لننتقل إلى أذناب المستعمرين. . .

ولا تكاد تخلو إحدى قصائد الشاعر من تجريح هؤلاء الأذناب والتشهير بهم، بل أن إنجلترا الغادرة لم تنل من الشاعر ما ناله أذنابها المتزعمون، وللجواهري وجهة نظره الصائبة في ذلك، فالإنجليز مهما عصفوا بالشرق والإسلام، وناهضوا الحريات بشتى الوسائل، فهم يخدمون وطنهم بما يرونه. والأساليب الظالمة، أما هؤلاء الأذناب فخائنون آثمون يشنون الحرب على بلادهم، ويصادرون حرياتها وكرامتها في غير هواهم وإشفاق، وقد يبلغ بك الأسف أشده إذ تجد الشاعر يقارن به عهدين، عهد برز فيه الاستعمار سافراً بوجهه الدميم، يأمر وينهب ويسلب ويبتز، وعهد رجع فيه المستعمر إلى الوراء خطوة ووقف خلف ستار رقيق شفاف ينظر ما ينفذه صنائعه من تعسف وبطش، وقد أخلى الطريق أمامهم فما استشعروا عاطفة نبيلة، أو أحسوا بواجب قومي، بل صالوا ذئاباً نهمة جشعة وعاثوا أضعاف ما عاث المستعمر الظلوم، وانطلقت المطامع من مكامنها تحتجر وتدخر وكانوا ستاراً لعورات المحتل ومثالبه حتى فضل الناس أن يعودوا إلى العهد الأول فيقابلوا الاحتلال وجهاً لوجه!! إذ رأوا بعد التجربة الأليمة أن افتراش القتال أهون من افتراش الجمر، فأضحت أمنيتهم أن يضعوا الصفاء بأيدهم من جديد، وكانوا يشتكون الجدب والمحول فرأوا من هؤلاء المستوزرين جرادا يستأصل ما بقى من الغصون والأوراق بدل أن يهطلوا غماماً ينعش الأرض ويسقى الزرع ويضاعف الثمر وليس الجواهري سادراً في خياله، بل أنه يضع في يد قارئه الحجة، فيتساءل عن حرية النقد التي كانت تجد مجالها في عهد المستعمر، فلا يرى لها صدى يتجاوب، وينظر إلى السجون والمعتقلات، فيراها تستقبل أضعاف من كانت تستقبلهم قبل ذاك؟ فليذرف الشعر دمعه الغزير على الشرق الكليم، وما يوجه إليه من طعنات قاتلات: فكم في الشرق من بلد جريح ... تشكي لا الجروح ولا الضمادا

تشكي بغي مقتاد بغيض ... تأبى أن يطاوعه انقيادا

فكانت حيلة أن يمتطيه ... رضيع لبانه فبغى وزادا

صدى للأجنبي ورب قفر ... أعاد صدى فسر بما أعادا

فكانوا منه في العورات سترا ... وكانوا فوق جمرته رمادا

تروي من مطامعه وأبقا ... لهم من سؤر ما ورد النمادا

وكان إذا تهضمه غريب ... أقام له القيامة والمعادا

فأسلمه الغريب إلى قريب ... يسخره كما شاء اضطهادا

فبئس منى لمصفود ذليل ... لو أن يده لم تضع الصفادا

وبئس مصير مفترشين جمرا ... تمنيهم لو افترشوا قتادا

وكانوا كالزروع شكت محولا ... فلما استمطرت قطرت جرادا

والشاعر ذو نظرة واعية فاحصة، فهو ينظر إلى أعمال هؤلاء مدركاً عللها وأسبابها، وقد فطن إلى أن المدرسة الاستعمارية التي تخرج المستوزرين في شتى الأمم العربية مدرسة واحدة متفقة المناهج والأساتذة، حتى لكأنها توزع من هؤلاء نسخاً مطبوعة على الشرق، وفي سطور كل نسخة وظروفها ما يتفق ومبادئ الاحتلال وأغراضه، ويتضح هذا بجلاء في قصائد الشاعر، فأنت ترى ما يمثل في العراق نظير ما يمثل في كل قطر شقيق. وسيعرض لنا الشاعر في فرائده رواية محبوكة الأطراف، منسقة الفصول، وقد استمدت أبطالها وحوادثها مما يجري في الشرق الصريع من محن وأرزاء، وهو بعد موفق في مسرحيته، بارع في أدواره إلى حد كبير، وسأدير لك الشريط لتجد في الفصل الأول ما لا يغيب عن ذهنك من ألاعيب الاستعمار في كل قطر منكوب، فأنت أمام مستوزر بغيض يعرف ما يكنه له الشعب من احتقار وازدراء، فيقابل ذلك بالبطش العنيف، والرقابة المليئة بالدسائس والمؤامرات، فإذا أراد أن يختلق ما يبرر فظائعه الآثمة لجأ إلى الدستور فأخضع نصوصه الفضفاضة إلى ما يريد من تعسف وإرهاق، وأوجد الشروح المتكلفة، والتفاسير المموهة، ممهورة بأسماء قانونية يغريها الذهب والمنصب والجاه، فتحيل النهار ليلا والحق باطلا، فإذا وجد الحجة القانونية الموهومة في يده، لجأ إلى المجلس النيابي فبدده في طرفة عين، وشرد أعضائه الأحرار، وأخذ يتحدث عن الحرية والمساواة والنزاهة، وأجرى انتخابات باطلة زائفة، وقد حشد لها رهطاً من الأنصار والأنسباء، فإن تجاوزهم فإلى فريق وصولي نفعي يروح مع الذئاب ويغدوا مع الرعاة، وبذلك يضمن الحجة الدستورية لبقائه في المنصب، دون أن يغفل أولياء نعمته من المستعمرين، فيسوق إليهم ما يريدون، وفوق ما يريدون، وإن جر على بلده النكال والوبال، هذا الفصل المؤسف من الرواية يمثل في كل قطر نكب بالاستعمار، وإن الشاعر ليبرزه بوضوح إذ يقول على لسان أحد هؤلاء:

اتخذت الورى بالظن أحصى خطاهمو ... ورحت لدقات المقلوب محاسبا

ولم أر للاثم الفظيع ارتكبته ... سوى أنني أديت للحكم واجبا

لجأت إلى الدستور في كل شدة ... أفسر منه ما أراه مناسبا

أكم به الأفواه حقا وباطلا ... وأخنق أنفاسا به ومواهبا

أهدم فيه مجلسا لا أريده ... وإن ضم أحراراً غياراً أطايبا

وأبني عليه مجلساً لي ثانيا ... أضيع ألكاكا عليه رواتبا

وأحشد فيه أصدقائي وأسرتي ... كما ضم بيت أسرة وصواحبا

فإذا أنهي الفصل الأول من المسرحية أدار الشريط مرة ثانية. فطالعك في الفصل الثاني بفريق من المستوزرين جذبهم الاستعمار إلى موائدهم، وأظهر لهم العطف الزائد والحب الأكيد لبلادهم، ورآهم أهلا لمحالفته على البأساء والضراء، وأبرم معهم وثائق خادعة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، فطار بها الأغراء كل مطار، ورجعوا إلى بلادهم يتشدقون بالعزة والحرية والاستقلال! ويدعون أنهم أنقذوا الوطن من براثن الاستعمار، إنقاذاً مشرفاً يتفق وكرامة البلاد، فإذا حزب الأمر وتغير الوضع الدولي، تنكر الحليف لوثائقه، وسخر بأذنابهم وحلفائه، وأخذ يفسر النصوص تفسيراً مجحفاً ظالما وطالب بحقه كصديق محالف في الانتزاف والاستلاب، وهنا فقط يتيقظ النائمون من رقدتهم فيردون في الوثائق أغلالاً خانقة، وقيوداً ثقيلة مرهقة، فيتنصلون مما اقترفوه، كمولود تحدر من سفاح، ويلصق كل فريق جريمته بأخيه، ويعرف الجميع أن معاهدة الذئب للحمل ماكرة باغية، ولا سبيل إلى مصادقة غريم يهدد صاحبه بالمحق الذريع، ثم يضحك الشاعر من غفلة هؤلاء الذين لا يلمسون بدائه الأشياء فيتخبطون تخبط العشواء، حتى يفجئهم الواقع المرير بما لا ينتظرون، هذا هو الفصل الثاني من الرواية السياسية المؤلمة وأظن القارئ قد تشوق إلى رؤيته فلينظر في هذه الأبيات

ووضع أمس كلهمو لواه ... به واليوم كلهموا لواحي

تنصل منه زورا صانعوه ... كمولود تحدر من سفاح

وذموا أنهم كانوا عكوفا ... عليه في الغدو وفي الرواح

وتأريخ أريد لنا ارتجالا ... فآب كما أريد إلى افتضاح

شحنا دفتيه بمغمضات ... (كأحداق المها مرضى صحاح)

وغلقنا مظاهره حسانا ... مزغرفة على صور قباح

وأحللناه وهو ضريح شعب ... محل الوحي جاء من الضراح

نجرعه زعافا ثم نظفي ... عليه محاسن الشيم القراح

وربة صفقة عقدت فكانت ... كتحريم الطلاق على النكاح

تدبر في العواصم من مريب ... خبيث الذكر مطعون النواحي

يفوح الخمر منها في اختتام ... ويبدو البتر منها في افتتاح

ويسفر نصها المسود خزيا ... ومظلمه عن الغيد الملاح

وحلف ليست أردى من ذهول ... أعن جد ينفذ أم مزاح

لنا حق يرجى بالتماس ... وباطلهم ينفذ بالسلاح

وليست بعارف أبداً حليفاً ... يهدده حليف بأكتساح

ثم يدور الشريط فيعرض لك المؤلف فصله الثالث والرابع والخامس حتى تنتهي المسرحية الأليمة بانتهاء ديوانه، ولن أجد من نفسي الرغبة في تتبع الفصول وتحللها تحليلاً يرشد إلى كوامنها السياسية، فهذا ما لا يغني عن قراءة ديوان الشاعر، بجزأيه الكبيرين، وبخاصة إذا كان الحديث عن هؤلاء الأوشاب يسجل أكثر قصائد الديوان، سواء أكانت في الرثاء أو السياسة أو الاجتماع، فهم القاسم المشترك في كل ما يجلب الكوارث على البلاد، وقد وصفهم الشاعر بما لا يعد مبالغاً فيه، وصور الحقد في نفوسهم. ورسم القطوب والعبوس والانقباض، وجميع ما يلوح في وجوههم الانفعالات والغضون، وتهكم بثرائهم المغتصب وجاههم الزائف وشهواتهم الجامحة العاصفة، ونظر إلى أوسمتهم اللامعة نظرات أطفأت ما بها من تألق وبريق، وحسبك أن يقول:

تداول هذا الحكم ناس لو أنهم ... أرادوه طيفاً في المنام لخيبوا

ورب وسام فوق صدر لو أنه ... يجازى بحق كان بالنمل يضرب

نشاربه بين المخازي وراقه ... وسام عليها فهو بالخزي معجب

ولن نترك ما قاله الشاعر في أعداء الشعوب دون أن نشير إلى سخريته الهازئة من أمانيهم الخادعة، وعجبه لغفلتهم ممن يتهددهم من مصير أليم، وترقبه الساعة الفاصلة التي تستيقظ فيها الشعوب النائمة على صوت لجب صاخب يبعث بها التوثب والطموح، فتندفع هائجة إلى فلول الخونة من الأذناب فتدوسهم بالنعال، وتطؤهم بالأقدام، وكم يؤلمك أن يتمنى الشاعر من هؤلاء أن يقتدوا بإنجلترا! فيهادنوا المروءة والرجولة ويحاربوا العقائد والمذاهب، وأنى يكون ذلك، والشعب البريطاني يقظ متوثب، يقدر زعماؤه كرامته وحيويته، أما أذنابهم في الشرق فلا يعترفون بحمية وإباء، فصادروا الحريات، وكمموا الأفواه، فأنطلق الجواهري يقض مضاجعهم، وكشف الأستار عن مثالبهم الفاضحة إذ قال:

ولقد رأى المستعمرون فرائسا ... منا وألفوا كلب صيد سائبا

فتعهدوه فراح طوع بنانهم ... يبرون أنياباً له ومخالبا

مستأجرين يخربون بيوتهم ... ويكافئون على الخراب رواتبا

الشاربين دم الشباب لأنه ... لو نال من دمهم لكان الشاربا

والحاقدين على البلاد لأنهم ... حقرتهمو حقر السليب السالبا

ولأنها أبدا تدوس أفاعيا ... منهم تمج سمومها وعقاربا

شلت يد المستعمرين وفرضها ... هذى العلوق على الدماء ضرائبا

ألقى إليهم وزره فتحملوا ... أثقاله حمل الثياب مشاجبا

وأذابهم في الموبقات فأصبحوا ... منها فجوراً في فجور ذائبا

يتمهل الباغي عواقب بغيه ... وتراهموا يستعجلون عواقبا

حتى كأن مصائرا محتومة ... سودا تنيلهموا منى ورغائبا

يتبع

محمد رجب البيومي