مجلة الرسالة/العدد 992/هلن كلر

مجلة الرسالة/العدد 992/هلن كلر

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1952



العمياء الصماء البكماء

للأستاذ نيقولا الحداد

حقاً أن هلن كلرن الدكتورة في العلم والفلسفة أعجوبة أمريكية تفوق جميع عجائب أمريكا التي هي مجموعة عجائب العالم في هذا العصر.

هذه مرأة مرضت في النصف الأول من عامها الثاني ففقدت جهازي عصبها البصري والسمعي فأصبحت عمياء صماء بكماء. بكماء لأن الإنسان لا يمكن أن يتكلم إذا لم يسمع، يعني أنها فقدت الحاستين الرئيستين من حواسها الخمس، فلم يبقى لها إلا الذوق وهو حاسة يندر أن تستفيد منها في التفاهم، وحاسة الشم وقد تستفيد منها جزءاً يسيراً من الفهم والتفاهم، وحاسة اللمس أو حاسة التحسس في أناملها وكفها وظاهر جسمها. ولذلك انتقلت حاستا البصر والسمع إلى أناملها وكفها وسائر بشرتها ثم إلى جميع بدنها فأصبح التحسس هو الشعور الرئيسي عندها، وإنما كان لها من قوة العقل وشدة الذكاء ما يمكنها أن تقرأ وتكتب (بقلم الرصاص)، وأن تقرأ في كتب العميان بلمس الحروف الناتئة، وأن تقرأ نقراً من أصابع معلمتها وسائر أهلها وذويها، وتخاطبهم بحركات أناملها على أكفهم. وأخيراً تعلمت أن تلفظ الكلمات التي يفهمها الذين يلازمونها ويعاشرونها هذا ما يدهش له الناس في الغرب والشرق ويعجب به الأمريكان وهم منشئو أمريكا الحديثة أم العجائب، فلا بدع إذن أن ندهش نحن إذ نرى هذه المرأة وهي تخاطبنا عن يد سكرتيرتها وأن لا يصدق بعضنا أنها عمياء صماء، وأن يضنوا أنها ألعوبة أمريكية للدعاية، وليس في الدنيا فكرة أسخف من هذه الفكرة.

أجل هي أعجوبة الزمان. وربما كان أعجب منها أو مثلها عجباً معلمتها السيدة سوليفان التي لازمتها 16 سنة إلى أن أخذت درجاتها العلمية العالية.

مس سوليفان مولودة في سبرنفيلد من ولاية كاستشوتس التي فيها مدينة بوسطن المشتملة على جامعة هرفود المشهورة. وهذه السيدة في أول عمرها أصيبت بمرض أفقدها بصرها، ولكنها لم تدخل معهد العميان إلا في الرابعة عشرة من عمرها. وبعد حين عاد إليها بعض بصرها، وبقيت في المعهد إلى أن أتمت علومها وبدا منها ذكاء حاد باهر، وقدرة فائقة على التعلم والتعليم، وبعد نهاية دراستها اتفق أن طلب الكبتن أرثر كلر أبو هلن إلى الأستاذ أجنوس رئيس هذا المعهد يرجو منه أن يرشده إلى معلمة لابنته، فأرشده إلى مس سوليفان هذه.

والكبتن أرثر كلر من قرية توسكوميبا من ولاية آلاباما وله هناك أملاك واسعة يستغلها. وله غير هلن ابن يدعى تجايميس وابنة صغرى تدعى ميلرد. وزوجة تدعى كايت أدمس وقد تزوجها أرملا وهو أكبر منها سنا.

ورحبت أسرة كلر بسوليفا ترحاباً حاراً. وكانت هلن بين الخامسة والسادسة من عمرها، فرأتها مس سوليفا طفلة مملوءة حياة وعافية، جميلة الطلعة مشرقة المحيا، ولها عينان كأنهما نرجستان، ليس فيها عيب (لأن العيب في المركز البصري في الدماغ) ورأت أنها كثيرة الحركة تجري من مكان إلى مكان بلا انقطاع. وتلمس كل شيء ولا يندر أن تكسر الآنية التي تعبث بها أو تتلف المتاع الذي تمسكه.

في أول الأمر تهيبت مس سوليفان تربية هذه الطفلة وتعليمها. ولكن لما لها من دراية بهذا الصنف من الناس الناقص الحواس وما لها من الحذق في تربيته، وما استشفته من الذكاء في هلن عزمت على أن تجعل منها إنساناً فائق الخواص والصفات، وقد جعلت رأت أنها صعبة المراس جداً شديدة القدرة بالغة النشاط، وأنها ما دامت بين أهلها يصعب ترويضها وتدميثها، فإنتقلت بها إلى منزل صغير لأهلها في أرض لهم لا تبعد أكثر من ميلين عن توسكوميبا، وأقامتا وحدهما هناك، وكان الطعام يرسل إليهما من البيت كل يوم، ولكنهما ما لبثتا هناك أكثر من أسبوعين فعادتا إلى البيت.

ورأت سولفيان أن تطويعها بالقوة والعنت يزيدها شكاسة وعناداً وشراسة فقررت أن تملكها بالمحبة، فكانت تهبها كل يوم ما توده من كعك وفاكهة ولعب أطفال، وكان أهلها يتفاهمون معها بإشارات تعودوها، فتحسنت عشرتها قليلاً. وقررت المعلمة أن تعلمها الحروف الأبجدية بكتابتها على كفها بأصابعها، وأول كلمة أدخلتها في عقلها بالكتابة كلمة لعبة إذ رسمت الحروف على كفها ثم أعطتها اللعبة. ثم أخذت اللعبة منها وجعلتها تطلبها بكتابة الحروف على كفها (كف المعلمة) ثم كتبت المعلمة بأصابعها على كف هلن كلمة (كعك) وأعطتها كعكة، وهكذا فعلت في إعطائها اللبن ووعاء اللبن الخ.

وكان لهلن ذكاء عجيب فما علمت كلمة إلا حفظتها حالاً ولا تنساها، الأمر الذي سهل على المعلمة مهمتها جداً. وبدأت هلن تفهم أن لكل شيء اسماً يرسم على كفها. ثم شرعت تعلمها الأفعال مثلاً: شرب، أكل، جاء، راح، فكانت إذا جاعت ترسم على كف معلمتها كلمتي: (لبن. هلن) فتصحح المعلمة الجملة هكذا: (هلن تريد لبناً) ثم (هلن تريد أن تشرب لبناً) على هذا النحو نجحت المعلمة في تعليمها في شهر واحد مائة كلمة، وما وجدت صعوبة إلا في تعليمها الأسماء المجردة عن المادة كالحب أو الشر أو الطيب أو السرور. وفي آخر السنة كان رأس مالها تسعمائة كلمة، وهو قدر كافي للتفاهم والتدرج في كسب كلمات أخرى.

وعلمتها في خلال ذلك قراءة كتب العميان الابتدائية ثم الكتب الأخرى فنجحت بسرعة فائقة حتى صارت تقرأ الكتب الراقية. ثم علمتها أن تكتب حروف العميان بواسطة الآلة الكاتبة للعميان فبرعت عاجلاً وصارت تكتب بها ما تريد أن تقوله وماذا يمنع أن تستعمل الآلة الكاتبة التي يستعملها المبصرون، فما لبثت أن صارت تكتب بها ما كانت تكتبه على الكف، صار هذا بعد أن دخلت معهد بركنز للعميان.

أما كيف صارت تكتب بيدها بقلم الرصاص الكتابة التي يكتبها الناس فانقل رسالتها بهذا الصدد إلى مجلة سنت نيكولاس في يونيو سنة 1892 وكان عمرها حينئذ 12 سنة

(عزيزي محرر مجلة سنت نيكولاس

(يسرني جداً أن أرسل إليك خط يدي لأني أود أن يعرف الصبيان والبنات المبصرون الذين يقرئون مجلة سنت نيكولاس كيف يكتب العميان. وأظن أن بعضهم يستغربون كيف نكتب السطر معتدلاً لا اعوجاج فيه. عندنا لوحة مسطرة سطوراً منخفضة قليلاً نضعها بين الصفحات حين نكتب. فالخطوط المتوازية في اللوحة تجري عليها السطور. فحين نضغط بقلم الرصاص على السطر المنخفض يبقى السطر معتدلاً. فنرسم الأحرف الصغرى في القلم المنخفض والأخرى المرتفعة ترتفع إلى فوق القلم والأخرى ذات الذيول إلى تحت القلم. نمسك القلم باليد اليمنى ونرشدها بإبهام اليد اليسرى لكي نعلم أننا نرسم الحروف في مواقعها بلا ضلال. في بادئ الأمر تصعب الكتابة جداً على هذا النحو، ولكن بالممارسة والمواظبة تصير سهلة جداً، وحينئذ يمكننا أن نكتب رسائلنا إلى ذوينا وأصحابنا. إن الذين يزوروننا يودون أن يرو الطلبة العمي كيف يكتبون)

وقد نشرت مجلة آخر ساعة نموذجاً من خط هلن فكان آية من الإتقان والجمال واعتدال السطر.

ولم تدع المعلمة سوليفان وسيلة للتفاهم إلا علمتها إياها. ومن ذلك أنها علمتها نطق الكلمات وإن كانت لم تسمعها، وطريقتها أنها تضع أصابعها على فم المتكلم وإبهامها على حنجرته وتجتهد بعد ذلك أن تقلد حركات فمه وحجرته فتصدر اللفظ مشابهاً لصوت المتكلم ولكن ليس بوضوح تام. وهذا يستلزم أن تعرف كل كلمة صوتية تقابل الكلمة المخطوطة بحروف العميان أو المنقورة على كفها بأصابع معلمتها، ولا يخفى ما في هذا من العنت والصعوبة، ولكنه يقضي حاجة أحياناً. فأحيانا تتكلم هلن جملة لا يفهمها السامعون ولكن معلمتها أو سكرتيرتها تفهمها وتقولها للسامعين. وقد تعلمت هنا في مصر أن تلفظ جملة (السلام عليكم).

قرأت كتابها (قصة حياتي)، وهو يشتمل على ثلاثة أقسام: -

الأول تاريخ حياتها، والثاني معظم رسائلها التي أرسلتها لأساتذتها وصواحبها وذويها بخط يدها بالحروف المعروفة على الطريقة المشروحة آنفاً. والقسم الثالث تقارير المعلمة مس سوليفان التي كانت ترسلها كل حين بعد آخر إلى مس صوفيا هوبكنز الموظفة في معهد العميان ومنها تتصل بالأستاذ أنا كنوز مدير المعهد. وهذا القسم هو اقصر الأقسام الثلاثة ولكنه أهمها؛ لأنه تبسيط لكيفية تعليم هلن ووصف لسلوكها وأعمالها.

ولما نجحت مس سوليفان في التفاهم معها بالأصابع وبالكتابة وبالضرب على الآلة الكاتبة للعميان أدخلتها إلى معهد بركنز للعميان. وبقيت تلازمها حتى انتهت من العلم هناك. وإذا كانت تضرب الكلام على آلة العميان الكاتبة فلا مانع من أن تضرب الكلام بالكتابة العادية على التيب ريتر الذي نستعمله نحن.

نعم أن هلن محرومة حاسة السمع ولكن جسمها يحس باهتزازات الأصوات وبارتجاجات الدوي فهي من هذا القبيل أرهف إحساساً من السامعين والمبصرين.

في ذات يوم حضرت سباق كرة قدم بين جامعتي هرفرد وبابيل، وتقول في إحدى رسائلها أنه كان في ذلك المكان نحو 25 ألف نفس. وكانت تحس بدوي التصفيق الهائل. قالت كدنا نخرج من جلدنا لشدة وقع الدوي علينا. وكنا نظن أننا في ساحة حرب.

وفي يوم أحد كانت هلن ومعلمتها في نيويورك وحضرنا الصلاة في كنيسة القديس برتولومبيوس. وكان الواعظ دكتور جريز يتكلم ببطيء وكانت سوليفان تنقل إليها كل كلمة تقريباً. وبعد نهاية الصلة طلب هذا الواعظ إلى المستر ورن الذي يعزف على الأرغن أن يعزف شيئاً لأجل خاطر هلن. ووقفت هلن في وسط الكنيسة تماماً حيث تكون ارتجاجات ذلك الأرغن العظيم قوية. تقول هلن: وكنت أحس أمواج صوت الأرغن تصدمني كما تصدم أمواج البحر السفينة.

ويوم كان أهل هلن ينتظرون المعلمة سوليفان كانت هلن تشعر بحركة غير اعتيادية في البيت وأن هذه الحركة لاستقبل شخص. وإذا كان أبوها قادماً في عربته تشعر بقدومه. كان إحساسها البدني يفوق إحساس البشر. وهنا في مصر كانت تعرف حين يصورها المصورون لأنها كانت تشعر بصدمات النور اللامع لوجهها وبدنها. . . وسئلت مرة كيف تشعر بالتصفيق الشديد فقالت أحس الأرض تميل تحت قدمي.

وفي معهد بركنز استعدت هلن للدخول في كلية ريد كليف لكي تدرس بكالوريوس علوم، فكتبت إلى رئيس الكلية أن يسمح بحضور مس سوليفان معلمتها معها لكي تنقل إليها الكلام والأسئلة. وهي تقدم الأجوبة مكتوبة على الآلة الكاتبة. فسمح، ولكن لما كانت تتقدم للامتحان لم يسمحوا لمس سوليفان أن تترجم لها. . بل كانوا يقدمون لها الأسئلة مكتوبة بلغة العميان على الآلة احترازا من أن تدس مس سوليفان لها بعض ملاحظات. ما دخلت هلن امتحان ألا خرجت فائزة.

البقية في العدد القادم

نقولا الحداد