مجلة الرسالة/العدد 996/درس مطالعة. .

مجلة الرسالة/العدد 996/درس مطالعة. .

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1952



للأستاذ محمد علي جمعة الشايب

كان ذلك في الحصة السادسة وقد تسربت أذهان التلاميذ من نوافذ المدرسة وأبوابها إلى منازلهم حيث يهيأ لهم طعام الغداء وحيث ينتظرهم أهلهم وذووهم. . وقد كانت سحابة من التعب تلوح على وجوه التلاميذ تظهر من ثناياها إشراقة خفيفة من الأمل في الانتهاء من اليوم المدرسي وإلقاء هذا العبء الذي أثقل كواهلهم من أول النهار إلى منتصفه تقريبا؛ فهم لذلك يستحثون عقرب الساعة كما يستحث الناس آخر يوم من رمضان. وكنت أحس أن آذان التلاميذ ظامئة إلى موسيقى الجرس الآذن لهم بانتهاء اليوم ومغادرة المدرسة، ولعلهم لو فطنوا لقرءوا في وجهي من بين ثنايا هذه القوة المقتطعة من الضعف وذلك العزم المأخوذ من الإعياء مثل ما أقرأ في وجوههم أو بعض ما أقرأ. . ولكنة التلميذ الذي يعتقد أن مدرسه من حديد لا يلحقه الكلل أو التعب! وإن صدر النهار وآخره عنده سواء. 0 وكان موضوع الدرس هو (السلع الآدمية) من كتاب (المطالعة المختارة) للمدارس الثانوية. وخلاصة الموضوع - ولا أثقل عليك - أن شابين إنجليزيين جلسا على حديقة منزل بإنجلترا وسرحا بصرهما فيما حولهما فوجدا من محاسن الطبية ومفاتنها ما يأخذ النفس إعجابا ووجدا الطيور تنتقل من غصن إلى غصن في حرية وانطلاق؛ بل وجدا كل ما في الحديقة يدعوا إلى الحرية والانطلاق. تذاكر الشابان أن الحرية حق طبيعي، ويجب أن ينعم به الناس في الأرض كما تنعم به الطيور في جو السماء، وإن شقاء الإنسان مبعثه الإنسان، وما يدعيه الغربيون من مدينة وحضارة ليس ألا ستار يحجب عن الأعين كثيرا من الرذائل والوحشية. وعرضا لما يجري إذ ذاك من تجارة الرقيق فاعتزم الشابان أن ينتشلا وطنهما من تلك الحماة ويطهرا سمعة الأمة الإنجليزية من جريمة الرق المنكرة. . وقد كانت تجارة الرقيق في ذلك العهد قائمة على قدم وساق، فقد حدث أحد السائحين انه رأى زنجيين يصيدان السمك في داهومى وقد ملآ منه أسفاط عدة؛ فسمعا واقع أقدام خيل مقبلة فتركا ما صاداه وفرا هاربين من تجارة الرقيق الأوربيين، ولكن التجار أدركوهما وسلكوهما مع من معهم من الرقيق.

وقد بر الشبان بوعدهما. ونشر رأيهما في بلادهما، فصادف نفوسا تكره الظلم، ولم يمض قليل حتى هبت الأمة الإنجليزية كلها تنادي بالقضاء على هذه التجارة الخاسرة، وكانت إنجلترا أسبق الأمم إلى هذه الدعوة الكريمة، ولم يكتف الشعب الإنجليزي بذلك بل جاد أبناؤه بأموال طائلة لشراء وطن في غرب أفريقية للعبيد المعتقين ثم تبعتها الأمم الأخرى في ذلك

لم أكد أفرغ من قراءة هذه الفقرات من الدرس حتى رأيت التعب قد طار عن وجوه التلاميذ كما يطير النعاس عن عين المذعور، وأحسست أن أعصاب التلاميذ المتهدجة من الإرهاق قد شدت من فورة الحماس وأنهم قد صبت فيهم قوة الأسد المتأهب للوثوب، وأخذت أقرأ في وجوه التلاميذ وعيونهم الارتياب في صحة ما ينطوي عليه هذا الكلام، وأخذوا يمطرونني بوابل من الأسئلة؛ فمن سائل يقول:

إذا كانت إنجلترا حقا هي أول من نادي بإبطال تجارة الرقيق فلماذا هذا الاستعمار المسعف؟ وهل هناك فرق بين الاستعمار والرق في نظر إنجلترا؟

وتطوع تلميذ بالإجابة عن هذا السؤال قائلا: أن الاستعمار ابشع أشنع من الرق لأن الرق استرقاق أفراد ولكن الاستعمار استرقاق شعوب، وقد يعتمد الرقيق على سيدة في مالكه وملبسه ومطالب عيشه ولكن الاستعمار يستحوذ على أقوات الشعوب وكسائها بل يمتص دماءها. . والرقيق يشترى بثمن ولكن الاستعمار ليس كذلك. 0 ولكن كان محرجا حقا ذلك السؤال الآتي:

كيف يشتري الإنجليز وطنا في غرب إفريقية للعبيد المعتقلين وهم اليوم يغتصبون الأوطان من الأحرار المسودين بل وقبل اليوم بعشرات السنين؟

وما أن انتهى التلميذ من إلقاء هذا السؤال حتى رمقته بنظرة الإعجاب ونظر التلاميذ إلى ينظرون الإجابة وعلى شفتهم ابتسامة خبيثة، وكأنهم فهموا أن المدرس يجب عليه أن يجيب عن كل سؤال حتى ولو كان السؤال لا يستطيع أن يجيب عنه البرلمان الإنجليزي ولا إيدن ولا تشرشل. . . وشاءت المصادفات أن تمر في شارع المدرسة هذه الساعة دبابتان إنجليزيتان فتفزع الشارع بصوتهما الأجش الغليظ فينسى التلاميذ الإلحاح في طلب الإجابة، والقيت على الدبابتين نظرة من نافذة الفصل فوجدتهما تهرولان وفيهما المدافع والجنود؛ وقد رآهما الأطفال الذين كانوا يلعبون بجمع الحصى من الصحراء المشرفة عليها المدرسة فتسللوا إلى الحارات والبيوت هاربين؛ فحضرت في ذهني صورة الصيادين اللذين جمعا السمك في أسفاط عدة فلما رأيا تجار الرقيق تركا الصيد ووليا هاربين؛ فتبينت في ذلك شبها بين الاسترقاق والاستعمار، وعدت ببصري إلى الفصل فإذا هو يكاد يتميز من الغيظ، فقد كان أبناء الإسماعيلية الذين ذاقوا ماذا قوا، فقالت في هدوء ورزانة المدرس التي يطنعها أحيانا: لعل الله يبعث في إنجلترا شابين آخرين ترتفع صيحتهما للقضاء على الاستعمار وخنق أنفاس الشعوب

ودق الجرس وأنصرف التلاميذ وأنا أسأل نفسي من هذه الضجة التي أثارها هذا الدرس وقد درسته في العام السابق فمر في هدوء وسلام. . ولقد تمنيت لو سمع كله ذلك الدرس الصاخب فقد كان درسا حقا.

محمد علي جمعة الشايب