مجلة الرسالة/العدد 997/الأدب واللغة من الكائنات الحية

مجلة الرسالة/العدد 997/الأدب واللغة من الكائنات الحية

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1952



للأديب محمد عثمان الصمدي

ينهض الأدب واللغة تبعا لنهوض الدولة وامتداد سلطانها، ويقوى ساعداهما بالقياس إلى قوة ساعد الدولة أيضا. هكذا يقول بعض الباحثين إلى قوة ساعد الدولة أيضا. هكذا يقول بعض الباحثين ومؤرخي الآداب والفنون. وقد يكون هذا أو بعضه حقا؛ ولكن من الحق أيضا أن ليس الأمر مقصورا على اللغة أو الأدب أو الفن، وإنما هو ينسحب على سائر مرافق الدولة، وعناصر الحياة فيها، وكل ما من شأنه أن يكون من مقوماتها. ولكنها تختلف ويسبق بعضها بعضا إلى الوجود بحسب الحاجة إليها، والباعث عليها، وبحسب ما يكتنفها من صعاب وعقاب. وأخيرا بحسب قدرة الدولة على الخلق والإيجاد، أو البعث والإحياء. وإنما كان الأدب أسبقها جميعا إلى النمو والازدهار لأنه وليد الفطرة لا يحتاج إليه سائر العناصر والمرافق والمقومات. . ولأمر ما أجاد الجاهليون الشعر

وقد عجب بعض الباحاث من العربية حين قويت وشاتد ساعدها في مدى العصر العباسي كله؛ لأنها لم تأبه لما منيت به الدولة من تدهور سياسي في القرن الرابع الهجري. ثم عللوا ذلك بأن الفاتحين لم تكن لهم لغة جديرة بالإحياء. ولأنهم كانوا يتخذون الشعر دعاية لدوهم الناشئة. ولأنهم مع هذا كان لهم تمكن في الأدب ومشاركة في فنونه)

ولعل هذا أو بعضه أن يكون حقا. ولكن يجدر بنا أن نلاحظ مع أن هذا أن الأدب كائن حي كسائر الكائنات الحية. فمنذ أن نمته الدولة بعد الجاهلية، واصبح بتلقي المؤثرات التي جاءت نتيجة للصراع السياسي وما إليه، صار له من الأغراض والأهداف ما لم يكن له من قبل. وما هي إلا أن اتسعت هذه الأغراض وامتدت على مدى الأيام. وأصبح كثير من الشعراء يطرقونها لا لشيء إلا أنها موضع للإجادة والتفوق والتبريز.

وبعبارة أخرى أصبحت ضرورة فنية دون أن يكون لها من الحياة ما يوحي بها أو يحمل عليها. وإنما يوحي بها ما سبقها من آثار جاءت في أول الأمر نتيجة لمؤثرات الحياة الواقعة، وما تتمخض عنه من أحداث. ثم أصبحت هذه الآثار تؤثر بدورها كالحياة الواقعة في الشعراء وأرباب البيان. ومن ثم فقد صار للأدب حياة قادرة على أن توحي وتلهم، وعلة أن تمس النفوس فتفجرها أرحه واهتزازا وطربا، وعلى أن تأخذ بالعقول إلى حيث تفكر وتقدر. وقليل أولئك الذين يفرضون أنفسهم وأدبهم عليها وعلى الأدب فرضا. وهم مع ذلك لا يكاد يخلو الأمر من أن يكونوا متأثرين تارة ومؤثرين أخرى. وإلى هذا فإن حياة الأدب ككل حياة يختلف عليها ما يختلف على سائر الكائنات الحية من قوة وضعف وتطور في الغرض والوسيلة والاتجاه. إلى غير ذلك من ملابسة الزمن ومخالطة الحضارة التي يستمد الأدب جدته منها، والتي تسمه آخر الأمر بميسمها في اللفظ والمعنى والهدف والأداء. وإذا جاز لنا أن نشبه الأدب بالإنسان قلنا إن يلابس الأدوار التي يلابسها الإنسان من طفولة فصبا فشباب فكهولة فشيخوخة فموت. ولسنا نريد أن نقول إن الأدب عابث لاغ في طفولته كالطفل. أو أنه قوي طاغ في شبيبته كالشباب وإنما نريد أن نقول إن الأدب كائن حي نام يحمل في أدوار نموه عناصر الموت والفناء. وقد تطول أو تنصب إحدى هذه المراحل أو كلها مجتمعة بالنسبة إلى عوامل حضارية وأخرى ثقافية واجتماعية، وإن كان لا تخلو كل مرحلة من آحاد يعيشون بأذواقهم وعقولهم في بيئات سلفية أو مستقبلية. ففي عهد الطفولة تظهر الفطرة بجميع مميزاتها من حسنات وسيئات لا تكاد ترتفع ببصرها إلى السماء ولا تهبط إلى الأغوار، وإنه تتخذ ما يحيط بها من الحيوان ونبات وجماد موضوعا للقول وأداة للتمثيل والتخيل. وهي لا تنزع إلى غايات اجتماعية أو إنسانية. ولا يعود بصرها إذا امتد شؤون القبيلة وما هو من ذلك بسبيل. تؤثر الكلام والوفاء؛ وتأنف أن تتقيد بشيء إلى ما يقيد به نفسه الرج الحر. وأنت لا ترى عندها فرقا كبير بين الإباء والجماح. أو بين الكرم والتضحية. أو بين الوفاء والفداء. أو بين الشجاعة ووالتهور. أو بين الصراحة والغلظة والفظاظة. وبالتالي فهي تتسم بالصدق ودقة الملاحظة وحرارة الإحساس ومعاطفة اللغة عطافا قلما نشعر بمثله نحن الآن. وهي تحن حنينا قويا إلى تحقيق قول القائل

أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واختيال على متون الجياد

ورسول يأتي بوعد حبيب ... وحبيب يأتي بلا ميعاد

ثم إن شعر الرثاء فيها لا نكاد نجد له مثيلا في الصدق والحرارة في سائر المراحل والعهود التي تليها جميعا. وهي جامدة لا تكاد تتطور إلا بحدث يهزها هزا عنيفا، وينال منها ومن تقاليدها وعرفها نيلا شديدا. ولكنها تاقومه أحيانا وتذعن له حينا. يظهر ذلك في حياة الأدب عامة. وفي حياة المعنيين بالإذعان والمقاومة على وجه خاص. ومن ثم فقد ظفرت حياة الأدب بشيء من التطور والانتقام ووسعت أغراضا جديدة، وأحيت مثليات قديمة. وأصبحت في صبا غض تتفتح فيه المتدارك وتتهيأ لما عسى أن يتكشف عنه عهد الشباب من دوافع البعث والإيقاظ. وإذن فقد صار لها امتداد مكفول يأتيها من نفسهتا حينا، ومما حولها حينا آخر. ونحن حين ننظر إلى عهود الخلفاء الراشدين بحسبانها امتداداً لعهد النبوة. كذلك نرى الأدب في ظلها امتدادا لذلك العهد أيضا. ولا نكاد ندع هذه العهود إلى عصر بني أمية حتى يدخل الأدب مرحلة الشباب من حياته. وهنا يقوى حقا قوة لم نر ما يقرب منها في سائر المراحل والعهود. وإن لم يسع من الأغراض ما وسعه في العصر العباسي بعهديه أوله وثانيه. فالسلائق كعهدها من قبل غنائية لم تتعقد بضروب الثقافات، ولم تصبح رواسب عقلية كما سنرى فيما بعد. ولكنها تصدر عن تلك النفس العربية السمحة الكريمة، نازعة إلى مثل عليا هي جماع الخلال الرفيعة للعربي في الحب والأدب والسياسة والاجتماع.

أما اللغة فقد نالها غير قليل نمن التطور والصقل والمرونة. ذلك لأن العربي في عهود اللغة الأولى كان يحس في اللفظة الواحدة شحنة عاطفية وجدانية. وكانت صوتية اللغة تصور له المدلولات تصويراً ليس إلى مثله من سبيل في زمننا هذا إلا بالجمل الفضفاضة والعبارات، فلو أن عربيا رأى حية ولم يكن عرف اسمها من قبل، ثم ذكرت له لفظة الأفعوان وهو جاهل بها أيضا لو ثبت إلى ذهنه صورة الحية التي كان قد رآها منق بل فيما رأى. فإن في لفظ الأفعوان وهو يتلوى ويمتد في النطق لدليل على ما يمتاز به من خصائص ومميزات. ولو ذهبنا نفترض أن قبيلة من قبائل العرب كانت تدعو حنشاً، وأخرى كانت تدعوه (الأرقم). ثم عرض لفظ الحنش للأخرى فلا تلبث أن تدرك على نحو ما يراد بهذا اللفظ من مدلول. ذلك لأنه مصور لخصائص عديدة فيه. فاللفظ في جملته مصور له وهو ممدود على النحو المعروف. أما الحاء فهي منه بمثابة الرأس. وأما النون تفيدنا دقة جسمه بحركتها المفتوحة وهي خارجة في النطق مع أخويها الحاس والشين هوائية هكذا. وكذلك الشين فهي ربما أعطتنا مغازلة الشمس لجلده وهو يتألق ومضا ولمعانا

للكلام بقية محمد عثمان الصمدي