مجلة الرسالة/العدد 997/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 997/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1952



مناقشة هادئة مع الأستاذ الناعوري

القيم الفنية في الشعر المتطلق

للأستاذ سليم غاوي عبد الجبار

أصدر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ديوانه الأول (أزهار ذابلة) عام 1948، وقد تفردت قصيدة (هل كان حبا) من بين قصائد الديوان بطريقتها التعبيرية الجديدة، هذه الطريقة التي آن للشعر العربي أن يدركها. وبعد صدور الديوان استرسل بدر في نظم قصائده، وفقا لطريقته الحميدة، وقد جمعها فيما بعد في ديوانه الثاني (أساطير)

وقرأت الشاعرة العراقية المبدعة نازك الملائكة، هذه القصائد، - كما قرأها آخرون يهمنا منهم الآن صالح جواد الطعمة - فصادفت عندها قبولا ومن ثم حاولت مجاراة الشاعر - في موسيقاه - فنظمت أغلب قصائد ديوانها الثاني - شظايا ورماد - وهي تتأثر خطي بدر. وفعل صالح كذلك، فنظم بعض قصائد (ظلام الغيوم - و - والربيع المحتصر) على هذا المنوال

وقد كتب بدر، ونازك، عن هذه الطريقة، أما بدر فقد اكتفى بإشارة تهدي السارين، ولم سهب. وأما ناظك فقد أفاضت بالكلام. . . ولكن عن القيم (العروضية) فقط، مما يدلنا، دلالة واضحة، على أنها لم تفطن للقيم الأخرى ولم تتحسس بها، وليست ملومة على ذلك، فلا يطلب من الشاعر، ما هو من حصة النقاد

ولكن الناقد لم يقصدوا لهذه الطريقة، ولم يدرسوها، دراسة موضوعية شاملة غرضها الأصيل، توضيح القيم، وتثبيتها للآخرين، فمثل هذه الدراسة تحتاج إلى جهد مضن، مما قد يتمهل عن مثله النقاد العجالي

على أن أمامي الآن عددين من أعداد مجلة الأديب البروتية، وفيهما مالات للناقد الأردني الأستاذ عيسى إبراهيم الناعوري، حاول فيهما مثل ذلك الدراسة؛ ولكننا نراهما بعيدين عن الروح العلمية، هذه الروح التي تحتم على كل ذي مقال نقد أن يلتجئ إليها، وإلى الذوق المرهف الحساس، وكان من الطبيعي وقد تناءى الأستاذ عن ذلك، أن يتورط في أخطاء علمية بارزة، وأخطاء ذوقية وعرة، لا يرتضيها الواقع الشعري، ولهذا وددنا أن ننطلق في تثمين هذا الإنتاج، أن نقف قليلا، ونناقشها، مناقشة علمية هادئة، بدون تحيز إلا للعلم، وبدون خضوع إلا للذوق.

قال الأستاذ - وهو بصدد الأسلوب التعبيري الجديد

(ولكنه جاء يشبه النثر بتفعيلاته غير المتجانسة، وغير المنضبطة في نظام موسيقي)

لابد وأن الأستاذ - مع احترامنا الوافر له - لم يقرأ مقدمة شظايا ورماد وإلا لأدرك أن التفعلات ليست متجانسة فقط، وإنما هي (متطابقة)، وأزيد للتوضيح فأقول إنها عبارة عن تفعيلة واحدة مكررة - في كل بيت - عدداً من المرات يتغاير - عدديا - مع البيت الذي يليه أو يسبقه تغايراً يشاؤه الاعر أو بالأحرى كما يتطلبه المعنى، وذلك لأن هذا الشعر يعتمد على (الأبحر الكاملة) المتساوية التفاعيل.

ثم. . . ما الذي يقصد الكاتب بجملته (وغير منضبطة في نظام موسيقي) إذا كان ما يقصده بالنظام الموسيقي هو الطريقة السلفية - الكلاسية - فالشعر الغربي منذ هوميروس وإلى الآن غير منضبط في نظام موسيقي، وهذا ما لم يقله أحد

هذا وقد أحس الشاعر العربي منذ القديم بقساوة هذا النظام - نظام الشطرين المتوازنين - والتفاعيل الثمان - فحاول الانفلات منه، فابتدع المجزوء، والمشطور، والمنهوك، وتوج ابتداعه (بالموشح)، ولم أقرأ مقالا لناقد عربي أو غرب يتهم هذه الفروع الشعرية - وخاصة الموشح - بالخروج على النظام الموسيقي!!

إن النظام الموسيقي للشعر العربي (أو الغربي) لا يحدد يا أستاذ بنظام الشطرين - الأبحر - بقدر ما يحدد بالتفعيلة الواحدة، أو التفعيلتين! راجع أوزان الشعر للدكتور محمد مندور. في الميزان الجديد

ثم يقول الأستاذ في مكان آخر من مقاله الأول (العدد الثالث)

(ولكننا لا نظلم الشاعرة إذا قلنا إن طريقة النظم فيها لم تعرف الرحمة بآذان القراء وأذواقهم الشعرية)

أرأيت - طريقة النظم - وليس نظم الشاعرة، إن الأستاذ هنا (يحابي) الشاعرة - ومعذرة من الصراحي - فلا ينسب الفشل إليها، بل يرجعه إلى (طريقة النظم!) فشأن الأستاذ كشأن ذاك التلميذ الذي تستعصي عليه مسألة رياضية فلا يستطيع حلها، ولا يستطيع اتهام أستاذه بقدرته على التفهيم، فيلقي القلم - مرتاحا - ليقول (إن المسألة مغلوطة!!)

ما ذنب (طريقة النظم) إذا فشل الشاعر في التعبير بواستطها؟ وهب أن قارئا - مثلي - استطاع البرهنة على صلاحية (طريقة النظم) وعدم تخديشها لآذان القراء! وأذواقهم الشعرية، فما يكون موقف (طريقة النظم) آنذاك؟ أتكون تعرف الرحمة ولا تعرف، في آن واحد!

ثم من الذي أخبر الأستاذ بآذان القراء وأذواقهم الشعرية! هل استفتى القراء - والعصر عصر التجريب - أم اعتمد على رأي موثوق بصحته له أثره التوجيهي في تأريخنا النقدي!

ألا يجوز اعتبار تنادي شعراء العراق للتعبير وفقاً لهذه الطريقة دليلا على رحمتها بآذان القراء. والشعراء (وهم من أدق القراء إحساسا) فما إن ابتدع بدر هذه الطريقة حتى تصايح الشعراء العراقيون، ونسجوا أشعارهم على تلك الطريقة؛ أذكر منهم نازك، صالح، بلند الحيدري، عبد الوهاب البياتي، شاذل جاسم طاقه، عبد الرزاق عبد الواحد.

ثم إن الكاتب احترس فحدد تذوق القراء بالنسبة لقصائد ثلاث من قصائد الشاعرة، فما الرأي في القصائد الأخرى المنظومة بنفس (طريقة النظم) لماذا لم يشر الكاتب إلى طريقة النظم فيها؟

إذا ما أراد الأستاذ أن يصدر هذا الرأي - الذي كاد يكون حكماً - من وجهته الذاتية فله كل الحق أن يتحدث عن نفسه، أما أن يشرك آذان القراء وأذواقهم الشعرية، فهذا ما هو بعيد عن الحياد العلمي

ولكن لماذا لم تعرف طريقة النظم فيها - كما يقول الأستاذ - الرحمة بآذان القراء، وأذواقهم الشعرية. لابد من سبب، والأستاذ ماهر، لا يعوزه ذلك فاسمعه متمماً جملته السالفة

(فقد ألف القراء في الشعر العربي إيقاعا موسيقيا متجانساً، فوجدوا هنا نظماً، غريباً مقلفاً يصدم الأذن بشكل عنيف)

والمطلوب من الأستاذ أن يعرف - لنا الإيقاع - تعريفاً علميا، فالذي أفهمه أنا من الإيقاع، التعريف الذي جاء فيه مندور إذ يقول (نعرف الإيقاع؟! فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة)

فمن تعريف مندور يتراءى لنا أن الإيقاع لا علاقة له بنظام الشطرين. لا علاقة له مطلقاً، هذا وليس هناك إيقاع (غير متجانس) (فأنت - والكلام لمندور - إذا نقرت ثلاث نقرات، ثم نقرت رابعة أقوى من الثلاثة السابقة، وكررت عملك هذا، تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد كل ثلاث نقرات)

ومن هذا التبسيط الأخير يلتزم وجود الإيقاع المتجانس (وكل إيقاع متجانس) في الشعر الجديد كما في الشعر القديم

وما دام النقد هو فن دراسة النصوص - كما يقولون - فلم يعد بالإمكان الرضوخ والقنوع بمثل قول الأستاذ (فوجدوا هنا نظما. . .) إذ أصبح من اللازم أن يقوم الناقد - بوضع خطوط سوداء -! تحت استنباطاته كأن يبين أثر هذا اللفظ، أو ذاك، وأثر هذه التفعيلة أو تلك، أما أن يرسل (تذوقه) إرسالا مطلقاً، فهذا ما لا نقره عليه

ثم تابع الأستاذ

(والحقيقة أن القارئ يسير مع الشاعرة في هذه القصائد وأمثالها (!) لاهثاً من التعب. . . فهناك بين طويل، وآخر قد لا يريد على لفظة واحدة)

ماذا نقول للأستاذ! أيصح لدينا أن ننبذ هذا اللون من الشعر لمجرد أن هناك بيتاً طويلاً. وآخر قد لا يزيد على لفظة واحدة، أم يتحتم علينا - كنقاد - أن نقف باستغراق وعمق إزاء هذا الإنتاج، وكل إنتاج، فنتساءل - مادام الشاعر قد ارتضاه - عن مدى ما فيه من طاقة، ونستقرئه استقراء دقيقاً شامخاً، ونحلله تحليلا جزئيا، ومن بعد نصدر حكمنا القاطع عليه

لا عليك - يا أستاذنا - من الرتابة التقليدية، فإنها أصبحت لا تثير ولا توحي، عليك أن تنظر إلى المعنى! فإذا كان القصر أو الطول مما يقتضيه المعنى ليستثير الخيال والعاطفة، رحب به، وأفسح له صدرك

هل يجوز لنا أن ننتقد - رساماً لا لشيء إلا لأنه يستعمل لوناً واحداً أو لونين في صورته - راجع المدرسة الثانوية في الرسم - (الأديب ت 4801) ألم تلاحظ يا أستاذ أن غرض الشاعر هو الخروج عن ذلك التوازن الهندسي!

هذا ما جاء في مقال الأستاذ الأول، ولم يزد في مقاله الثاني - الأديب العدد السابع 1952 على ترديد ما سلف قوله فاسمعه

(إلا أن تشكيلة تفعيلاته غير المتجانسة تمنع من رؤية الجمال والحيوية فيه) وقوله (فلو جاءت هذه القصائد على أوزان وتقطيعات متناسبة متناغمة، لكانت أجمل وألطف وقعاً في النفس ففيها معان جميلة لكنها ضاعت بالصياغة)

أما عن جملته الأولى فقد ناقشناها من قبل، وأما عن جملته الثانية فقراء عبد القاهر الجرجاني، يرد كون مقدار ما فيها من التواء، فالمعنى لا يكان له - إلا ظلا ضئيلا لا يعبأ به - خارج الصياغة، وليس لنا أن نتسائل عما يصبح عليه المعنى إذا ما تبدلت الصياغة تبدلا جوهريا، فعلينا تقبله أو رفضه ضمن الصياغة

ولا أفهم أكثر تناسقاً وتناغماً من سيطرة تفعيلة واحدة على كافة أبيات القصيدة

على الأستاذ الماهر أن يتحرز من استعمال كلمته خارج دلالاتها العلمية المتقف عليها (وسك الأفكار - كما يقول جورج ديهاميل - مجازفة خطرة). مما سبق يتضح لنا بجلاء أن الكاتب الأردني لم (يحاول) أن يسير وفق المنهج العلمي للنقد، ولم يختط له خطة مثلى، تعينه على اجتياز مشق الطريق، وعلى ثغره ابتسامة ناضرة

ولو درس الكاتب الشعر العراقي - الجديد - دراسة موازنة، وراجع شعر بدر، والآخرين، لما تورط

(وموعدنا في عدد قادم)

العراق - العمارة

سليم غاوي عبد الجبار