مجلة الرسالة/العدد 997/كلمة صغيرة

مجلة الرسالة/العدد 997/كلمة صغيرة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1952



للأستاذ (ع)

أكتب هذه الكلمة وأنا مريض في المصيف في (مضايا)، قد هبط معي الضغط، وضعف مني الجسم، وانقطعت عن عمل اليد وعمل الدماغ، ولذلك ما أخللت بعهدي، وكان العهد أن أكتب إلى (الرسالة) مرتين في الشهر. ولكن أخبار مصر، ومن قبلها أخبار إيران، تطرد المرض، وتنهض الجسد، وتهز من الحماسة الجبال، وترقص الحجر، فكيف أنام اليوم واليوم عزت بالإسلام العرب والعجم. واليوم استكمل الشرق يقظته إلا بقايا في عينيه من الكرى وأقسم أن لن ينام، واليوم أحس كل مسلم بأن الأمة التي يكون فيها زعماء الدين أمثال حسن البنا والقاشاني، ومن زعماء الدنيا أشباه نجيب ومصدق. لم تفقد عزتها، بل إن لها من حاضرها أياما غرا محجلات لا يضر من رآها ألا يكون رأى تلك الأيام. لا، لا يضر من حضر الجلاء عن الشام، وإقامة إندونيسيا والباكستان، وشهد ظفر الشعب في طهران أمس وفي مصر اليوم ألا يكون قد حضر القادسية وشهد اليرموك.

لقد تتالت علينا الأفراح، وتتابعت البشائر حتى ما تستطيع أن تحتملها أعصابنا. إننا نعدو عدوا في طريق الظفر لا نقدر أن نقف ساعة لنستريح ونلقتط أنفاسنا. هذا شعب إيران يهب هبة الرجل الواحد، يحمل معه أكفانه ليثبت للدنيا أن الكفن يد المستميت أمضى من المدفع في يد من يحب الحياة ويكره الموت، وأن الرغبة الصادقة في الموت هي أقصر طريق إلى الحياة، وأن الشعب إذا استمات لا تغلبه قوة في الدنيا. وهل يمكن أن يباد الشعب على بكرة أبيه فلا يبقى له أثر؟ هل تستطيع قوى الشر كلها التي حشدها المتمدنون ليقتلوا بها البشر باسم المدنية التي نسبح جهلا بحمدها، ونموت في عشقها، أن تهلك أربعمائة مليون ضفدع لو هاجمت بلداً من أقطاره الأربعة؟ فكيف لو هبت أربعمئة مليون إنسان، يستجيبون لصوت إيمانهم، ويغضبون لماضيهم، ويعملون لمستقبلهم؟ إن القطة إن غضبت لأولادها، كشرت عن أنيابها، وأبدت عن مخالبها، وهجمت على الذئب، فكيف إن غضب شعب كشعب إيران؟ وكيف إن كان يقوده شيخ له عزة العلم، وله قوة اليقين، كالقاشاني، ينفخ فيه من روح الدين ما يثبت للعالم أن قوة الإيمان هي أقوى القوى، وأن العدو لم يصنع بنا شيئاً أضر علينا من صرفنا عن ديننا، وتعطيل هذا السلاح الماض الذي وضعه الله في أدينا!

ثم جاءت أخبار مصر. مصر الدينة الصينة التي طالما احتملت الفسوق والعصيان. . . وسكنت ترجو أن ينيب الفاسق، ويتوب العاصي. . مصر العزيزة الحرة التي صبرت على الطغيان والاستبداد. . مصر التي بذلت في حرب فلسطين ما لم تبذله دولة عربة، ثم ضربها في ظهرها من كبار أبنائها من كان شرا عليها وعلى جيشها من أعداء الله والإنسانية: اليهود. مصر التي طالما زرتها وأقمت فيها الشهور الطوال فكنت أشم روائح الفساد كلما خرجت من إدارة الرسالة مررت بالميدان الكبير. وانتشرت هذه الروائح حتى عمت مصر، ثم وصلت إلى أوربا. . وشمها أصحاب الجرائد هناك بأنوفهم الحساسة فنشروها في كل مكان حتى بلغت الشام ودخلت كل بيت؛ لذلك كانت أخبار الانقلاب الأولى فرحة في كل بيت. . يتباشر بها الناس. ويفتحون الراديو ليسمعوها، وأزهد الناس بسماع الأخبار صار يعانق الراد في داره ليسمع إذاعة مصر وغير مصر. . فلما أذيع أن الفاروق (الذي كان يوما الملك الصالح) قد أخرج من مصر لم يعد يستطيع الناس أن يضبطوا من الفرح أعصابهم. ووالله ثم الله الذي لا يحلف به كذباً إلا فاجر، لو أعطيت مائة ليرة ما فرحت بها مثل فرحي بهذا الخبر. ولولا أني مريض. . وأن ذهني مكدود. . . لحييت هذا اليوم العظيم التحية التي تليق به. . . ولسقت له كلاما غير هذا الكلام: كلاما تثب له القلوب، وتحمى منه أقحاف الرؤوس، وترقص له من الحماسة الأعصاب، وتغلي الدماء، ولكني إن عجزت اليوم عن نظم هذا الكلام. . فلقد قال هذا البطل بفعاله أكثر منه؛ وهو صامت متواضع لم يفخر ولم يتحمس. فيا أيها الرجل العظيم حقا؛ لك شكر العروبة. لك شكر الوطن. لك شكر الإسلام.

يا محمد نجيب، لقد نقش اسمك على محاريب القلوب مع أسماء أبطال التاريخ.

وبعد فهذه عاقبة الفسق والفجور، واستغلال أموال الأمة وسلطانها في إرضاء الشيطان وإرواء الشهوات؛ فاعتبروا يا من لم تصل إليهم النوبة بعد فإنها ستنوبكم. إن الله يمهل ولا يهمل. وينسي ولا ينسى. وليعتبر الذين أنبت الله لهم من التراب ذهباً، وأنبع لهم من الرمال دولارات؛ فتركوا قومهم جياعا حفاة وأنفقوها على الفسوق والشهوات حتى ضجت من عجبها من فجورهم باريس مدينة الفجور.

اعتبروا فإن نعم الله لا تحفظ بالمعصية ولكن بالشكر. . وإن الأوطان لا تحمى باتباع الشهوات، وإضاعة الأموال في البذخ والترف؛ ولكن بتقوية الجيش وإعداد السلاح؛ وإطاعة الله، والعمل على إعلاء كلمة الله. وإن الملك لا يكون ليستمتع الملك ويلهو، ويعدو هو وحاشيته على العرض وعلى الأرض. ويرفع نفيه عن النقد؛ بل ليكون أطول الناس سهرا على مصالحهم؛ وأكثرهم شغلا بهم، وأعظمهم تبعة؛ وأشدهم من الله خوفا. كذلك كان الرسول صلوات الله عليه؛ وكان أبو بكر وعمر؛ وكان الصالحون من الملوك. وبعد فإن في كل بلد (محمد نجيب) لا تعرفونه اليوم؛ ولكنها ستعرفه الدنيا كلها في لحظات كما عرفنا محمد نجيب؛ وما كنا قبل دقائق قد سمعنا في الشام باسمه. وأن في كل بلد (يخت) كالمحروسة، أو سيارة تقوم مقامها و (دار ابن لقمان على حالها). .

وبعد فبارك الله في شعب مصر. وبارك الله في شعب إيران، وبارك الله في كل شعب يأبى الدنية ويرفض العار، ويعرف كيف يرفع رأسه ويقول: لا!

والسلام على روح حسن البنا موقظ الأرواح النائمة في مصر؛ وعلى القاشاني؛ وعل مصدق؛ وعلى البطل النجيب: محمد نجيب

دمشق

(ع)