مجلة الرسالة/العدد 998/عدد (1000) من الرسالة
مجلة الرسالة/العدد 998/عدد (1000) من الرسالة
ذكريات وخواطر
للأستاذ على الطنطاوي
لما سمعت أن الرسالة كادت تستكمل أعدادها الألف، دهشت وفرحت، كما يدهش من يقال له لقد غدا ولدك شابا، ويفرح به كأنه شبابه لأول مرة، وما ذاك عن جهل به أو إهمال له، بل لأنه لا يزال يذكر مولده وطفولته، ولأنه يراه كل يوم فلا يحس أنه تغير، ولا يدري متى جاوز الطفولة إلى الشباب، وأنا أذكر أبداً فرحتي بصدور الرسالة، وموقف أخي أنور العطار، وقد جاء بالعدد الأول منها فخبأه وراء ظهره، وقال: أحرز.
- قلت: ماذا؟ - قال: الزيات أخرج مجلة أدبية.
إنني أحس من شدة وقع الفرح في نفسي لما قالها كأن قد كان ذلك أمس. . . فكيف مرت الأيام حتى بلغ عمر الرسالة ألف أسبوع؟ كيف مر هذا الأمد الطويل، وكأنه من قصره ليالي الوصال!
ألف عدد؟! كم أنفقت من ذهني في إعداد المقالات لها، ومن أعصابي في ارتقاب وصلها! وكم سألت الباعة عنها؛ في شارع رامي في دمشق، وفي سوق السراي في بغداد، وفي العشار في البصرة، وعلى السور في بيروت، وعند باب السلام في مكة، وعند الجسر في الدير، وفي شارع الملوك في حيفا، وفي كل بلد عشت فيه أو مررت به! وكم قرأت مسوداتها وراء مكتب رئيس التحرير في الإدارة، وأمام الآلات في المطبعة! كانت الأيام عندي السبت والأحد ويوم الرسالة، وكانت تتبدل على المشاهد، ويتغير الرفاق؛ ولكن الرسالة هي رفيقي الدائم! أذكر كل عدد منها، وكل مقال نشرت فيه، وكل مناقشة فيها وكل بحث، وقالت زوجتي أول ما قدمت علي:
- إنني لا ضرة بي، ولكن الرسالة ضرتي.
ثم رأت - وهي من أعقل النساء وأفضلهن - أنها ضرة لا تضر ولا تؤذي.
كم وضعت فيها من قلبي ومن فكري، ومن مشاهد حياتي ومن ذكرياتي، ومن آلامي ومن آمالي، من سنة 1933 إلى اليوم.
ألف عدد، وستعيش الرسالة إن شاء الله حتى تبلغ الألف العاشر، وحتى تكون من أعلاق المكتبة العربية وكنوزها - وقد كانت.
ستعيش حتى يصير في مثل عمر (المقتطف)، وليست المقتطف - مد الله في عمرها - بأحق منها بالخلود.
ولقد كان للرسالة فضل على اللغة، وفضل على الأدب، وفضل على الأخلاق، وكان لها عمل كبير في إحياء روح الدين في دنيا الإسلام.
ولقد أخرجت للناس كتابا وشعراء، وكانت مدرسة للبيان العربي، جئناها شبابا فمشينا في ركاب شيوخ الأدب، وبقينا فيها حتى أوشكنا أن نعد في الشيوخ، وهل بعد خمس وأربعين شباب؟
لقد ولى الشباب، وذبلت زهرة العمر، وجاءت الكهولة، إن نسيتها ذكرتني بها كل جارحة من جوارحي، وكل عضو من أعضائي: أن أثقلت الطعام قالت المعدة: حاذر إنك لم تعد شابا. وإن مارست ما كنت أمارس من الرياضة قال القلب: قف إنك لست بشاب. وإن تعرضت للبرد قالت المفاصل: تنبه، لقد فارقت عهد الشباب.
وإن تطلعت إلى الحب، أو ابتسمت للجمال، قال الفؤاد الملول السأمان. . . ويا ما أشد ما يقول الفؤاد السأمان الملول!
وإن اشتعلت في الأعصاب نيران الحماسة، وأخذت (ذلك) القلم الذي كنت أكتب به في الأيام الخوالي، تراءت لي هموم الأسرة، فأطفأت نار الحماسة في أعصابي.
كنت وحيدا خفيفا؛ وكان لي جناحان من أحلامي وأماني، فأثقل ظهري بناتي الأربع وأمهن وعماتهن وعمة أبيهن، واصطدم جناحاي بأرض الواقع، فبينت ضلال الأحلام وكذب الأماني، فتحطما، فكيف يطير بغير جناحين من يحمل هم ثماني نساء؟
إني لأقف الآن لأراجع حسابي، وأنظر ماذا ربحت وماذا خسرت!
أما الرسالة فقد أفضلت علي، وأضاءت للناس مكاني، ومشت باسمي إلى بلاد ما كنت أسمع بها، وجاءتني بالشهرة والجاه ومجد الأدب، وعرفتني بإخوان كرام في أقطار ما دخلتها ولا أظن أني سأدخلها، وهذي رسائلهم تحت يدي من المشرق والمغرب، من إيران وإندونيسيا واليابان؛ فهل تعلمون أن للرسالة سوقا وقراء في اليابان؟ ومن تونس والجزائر ومراكش وأميركا. ولقد كتبت مرة مقالة عن - الحياة الأدبية في دمشق - فتجاوبت في الرسالة أصداؤها ببضع عشرة مقالة فيما أذكر عن حياة الأدب في هاتيك البلدان، وكانت مناقشة مرة بيني وبين الأستاذ محسن البرازي، الذي صار رئيس الوزراء حسني الزعيم، ثم قضى رحمه الله. فجاءني التأييد من - جاوا - وهذه جريدة - برس - بشيراز تنشر الآن كتابي الجديد (كلمات) مترجما إلى الفارسية، بقلم الأديب الفارسي الأستاذ أحمد آرام؛ مع تعليقات في المدح والتأييد شعراً ونثراً، يمن بها على القراء، وهي على وشك الترجمة إلى الأردية ولولا الرسالة ما كان هذا كله.
ولكن ما جدوى هذا كله؟ ما الشهرة؟ ما الجاه؟
إن لأكتب هذه الكلمة وأنا في دار في مضايا منفردة في الجبل، وأنا مريض وحيد منعزل، فهل أذهبت الشهرة عني المرض، أو دفع الجاه عني الملل؟ وكذلك أنا في دمشق، أنا منذ سنين أعيش في حلقة مفرغة لا تكاد تتجاوز الدار والمحكمة والسينما، حتى يوم الجمعة، وحتى يوم العطلة أذهب إلى المحكمة كالحمار (ولا مؤاخذة. . .) الذي يدور بالسانية، إن أطلقت عنقه من الحبل عاد يدور، لأنه مربوط من قيد العادة بحبل لا تراه العيون.
فماذا ينفعني في عزلتي وسأمي أن يمدحني في بلاد الله من ألف، وماذا يضرن أن يذموني أو ألا يكونوا قد سمعوا باسمي وماذا يفيدني وأنا أعيش في دمشق عيش الغريب، أن يكون (وهذا هو الواقع - ولا فخر) بين كل عشرة يمرون في أي شارع فيها، خمسة على الأقل يعرفون أسمي، ويحفظون طرفا من مناقبي، أو أطرافا من مثالبي.
ولقد اشتغلت الجرائد منذ سنة أسبوعا كاملا بشتمي وسبي في صفحاتها الأولى من أجل تلك الخطبة المشهورة، وفعلت مثل ذلك أيام الانتخاب سنة 1947، ونسبت إلى نقائص تشبه إبليس، فهل يصدق القراء أني لم أبال بها، حتى أني لم أقل أكثرها. أقسم بالله أن هذا الذي كان؟ ولقد نشرت الجرائد مرات أخرى أطيب الثناء عليّ، وألصقت بي مناقب تزين الملائكة فما باليت بها أيضا، لأن كل طرفي قصد الأمور ذميم والثناء إن زاد كالهجاء إن زاد، كلاهما أقرب إلى الكذب وما أن ملك ولا أنا شيطان، ولي حسنات ولي سيئات، وأنا أعرف بنفسي من سائر الناس. . .
إني لأسأل مرة ثانية: ما الشهرة؟
إن الشهرة وهم ليس له في سوق الحقيقة قيمة، وليس له في ميزان الواقع وزن، حتى أن هذا الحرف (أي الشهرة) لا يصيب لغة، ولا تكون الشهرة في الفصيح إلا بالعيب والعار والفضيحة ولكن الألسنة أدرتها على هذا المعنى، فكتبنا للناس ما يفهموا.
إن الشهرة سراب زائف، إنها مثل (المستقبل) الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبدا، لأنهم إن وصلوا إليه صار (حاضرا) وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدون إليه كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبداً!
إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمنا به؛ ولقد مر علي زمان كان أحلى أماني فيه أن أسير فيشير إلى الناس بالأيدي يقولون هذا علي الطنطاوي، وإن أعلو خطيبا كل منبر، وإن أجد أسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال، ويستشرق للحب، فلما جربت هذا كله، وذقت لذته، صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس، وإن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.
لقد مر بي أكثر العمر، ورأيت الحياة، ونلت لذاتها وجرعت آلامها، لم تبق متعة إلا استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه، ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى من جاء بعد، ومن قام ومن قعد، ومن أتى ومن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشي على أثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تقبل أيديهم ثم تملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات، ويصيرون بحرفة الدين من كبار أبناء الدنيا؛ ولكني ما وجدت شيئا يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلا حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين، لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين، فزهدت في المناصب والمراتب والمشيخات، وهانت على وصغرت في عيني؛ ولم يبق لي من دنياي (الآن) إلا مطلب واحد: يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود، وغاية الحياة، وأستعد بها لما بعد الموت، وهيهات يقظة القلب في هذا العالم المادي!
إن الذي يبلغ ذروة الجيل تنكشف له الجهة الأخرى، فيرى ما بعد الانحدار، وأنا قد بلغت ذروة العمر وانحدرت ولكني لم أبصر شيئا، إن الطريق مغطى بالضباب، وقد أضعت مصباحي في زحمة الحياة، ومعترك العيش.
أما الرسالة فقد أفضلت عليّ وأحسنت إلي. وما أشكوها، إنما أشكو دهري، وأشكو نفسي، ومن حق الرسالة عليّ تحية خير من هذه التحية في عيدها الألفي؛ ولكني أكتب بيد عليل، من فكر كليل، ولي من الأستاذ الزيات الصديق النبيل، العذر الجميل.
علي الطنطاوي