مجلة الرسالة/العدد 998/علم النبي بالغيب
مجلة الرسالة/العدد 998/علم النبي بالغيب
للأستاذ ناصر سعد
ذكرت لنا كتب التاريخ الإسلامي أن النبي (ص) كثيراً ما كشف عن حوادث لا يعرف سرها إلا أصحابها، وكثيراً ما أنبأ عن حوادث المستقبل فكانت كما قال. إن النبي ولا شك كان يعلم الغيب فيخترق بعقله أو بروحه الحجب ويعرف حقائق أسرار الكون، وكل ذلك بقوة إلهية وهبت له كنبي عظيم جعله ربه خاتما لأنبيائه، ولا مجال لتكذيب هذا الأمر اليوم بعد أن أقر علم النفس الحديث (قراءة الأفكار) واثبت علم الأرواح أن بالإمكان إحضارها ومحادثتها، وإن بعض نجاح الأناس العاديين بهذين العلمين هذا الزمن لهو خير دليل على تمكن النبي (ص) من اختراق حجب السماء والاتصال بالأرواح الخيرة والملائكة، لأنه زيادة على السر الإلهي المودع فيه ذو نفس أكبر وأزكى، وذو عقل أوسع وأنمى من عقول البشر. ونقول إنه سر إلهي أودعه محمدا (ص) بعد البعثة؛ إذ لو لم يكن كذلك لظهر له من المعجزات قبل بعثه ولتحدث عنها التاريخ. ولما كان في تلك الحوادث متعة وفي عرضها إظهار لعظمة النبي أحببنا أن نعرض بعضها على باصرة القارئ؛ فنقول إن من تلك الحوادث:
حادث عمار بن يسار (رض) لما دخل على الرسول (ص) وقد أرهقه قريش بالأذى وحملوه وأثقلوه باللبن فقال (يا رسول الله! قتلوني، يحملون على ما لا يحملون) فقال رسول الله (ويح أبن سمية ليسوا بالذين يقتلونك. إنما تقتلك الفئة الباغية) قيل وسمع رسول الله (ص) يقول (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فإن الحق يومئذ لمع عمار) ولما كانت صفين خرج عمار على رأس كتيبة لعلي بن أبى طالب (ص) فطعنه أحد رجال معاوية فانكشف مغفره عن رأسه فضربه الرجل على رأسه فقتل (ض)
ومنها أن النبي (ص) لما خرج إلى العشيرة ونزل بها ذهب علي بن أبي طالب (ض) وعمار بن ياسر (ض) إلى عين ماء ونخل لبني (مدلج) فنظرا كيف يعمل أهلها ثم عشيهما النوم فناما وسفت عليهما الريح التراب وما هما إلا برسول الله (ص) يوقظهما قائلا لعلي: (مالك يا أبا تراب؟ - لما عليه من التراب - ثم قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين قالا: بلي يا رسول الله. قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا - ووضع يده على قرنه - حتى يبل منه هذه - وأشار إلى لحيته -). وقد كان ما كان من ضرب ابن ملجم رأس أمير المؤمنين علي على رأسه. ومن ذلك أن صفوان بن أمية وعمير بن وهب اجتمعا في الحجر بعد نكبة قريش ببدر وأسر وهب بن عمير بن وهب؛ فقال صفوان يذكر القتلى من أصحابه: والله إن في العيش بعدهم خيرا، فقال عمير: صدقت والله. أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء؛ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله - قال صفوان: على دينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما يقوا لا يسعني شيء ويعجزهم، فقال عمير: فاكتم شأني وشأنك. قال صفوان (أفعل) ثم أعد عمير سلاحه فسم سيفه وذهب إلى المدينة يريد النبي فرآه عمر على باب مسجد الرسول وهو يحمل سيفه فدخل على رسول الله (ص) فقال له: يا نبي الله! هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله عليّ، فلما دخل عمير بن وهب ورآه الرسول (ص) ورأى عمر قد أخذ بحمالة سيفه قال: أرسله يا عمر. ادن يا عمر، فلما دنا فمن النبي قال: انعموا صباحاً، فقال النبي: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير. بالسلام تحية أهل الجنة، فقال عمير: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث العهد، قال النبي: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا؟ قال النبي اصدقني ما الذي جئت به؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال النبي (ص) بل قعدت أنت وصفوان في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم ذكر جلية الأمر فانبهت عمر وقال: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء. . الخ ثم اسلم.
ولما أسر العباس عم النبي يوم بدر وطلب منه النبي أن يفدى نفسه ويفدي أبني أخويه عقيلا ونوفلا قال فإنه ليس لي مال، قال النبي (ص) فأين المال الذي وضعته عند أم الفضل بمكة حين خرجت وليس معكما أحد؟ ثم قلت إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا ولعبد الله كذا، قال العباس: والذي بعثك بالحق نبيا ما علم بهذا أحد غيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ثم إنه فدى نفسه بمائة أوقية ولكل من ابني أخويه أربعين أوقية وقال: تركتني أسأل الناس في كفي، ثم إنه أسلم وأمر ابن أخيه عقيلا فأسلم.
ومن ذلك ما روى عن سلمان الفارسي (ص) قال ضربت في ناحية من الخندق فغلظت على صخرة ورسول الله (ص) قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول رقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى، فقال سلمان للنبي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال الرسول: أو قد رأيت يا سلمان؟ قال نعم، قال أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح بها المشرق - وكان كما قال رسول الله من الفتوحات التي من بها الله على الإسلام، وهنا نقول إنه يتراءى للقارئ الكريم أن ظهور البرقة من دق الحديد بالحجر شيء عادي لا يبهر الناس ولكن الحال هنا ليس كذلك؛ لأن من مثل سلمان الفارسي والذي خبر الحياة وعركها ورأى ما رأى من جبال فارس والحجاز لم يكن لتعجب من البرقات الثلاث إلا لأنه رآها حدثت بحال غير عادية طبعاً.
ومنها أن رسول الله (ص) لما خرج لغزو بني المصلطق وسلك بالناس الحجاز ووصل ماء بقعاء ثم راح منها هبت عاصفة شديدة خاف منها المسلمون، ولما رأى النبي جزعهم قال: لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار - قيل فلما وصل المسلمون المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت وهو أحد عظماء بني قينقاع قد هلك ذلك اليوم.
ومن ذلك أن رسول الله (ص) لما دخل الكعبة بعد الفتح أمر بلالاً (ض) أن يؤذن، وكان أبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جالسين بفناء الكعبة ولم يسلم هذان الأخيران بعد فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغضبه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محق لا تبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخيرت عني هذه الحصى - قيل فلما جاءهم الرسول (ص) قال: قد علمت الذي قلتم، ثم حكى لهم ما كانوا تكلموا به، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله. . . والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
ومنها أن حاطب بن أبي بلتعه لما تهيأ الرسول (ص) لفتح مكة كتب كتابا لقريش ينبئهم فيه بما عزم الرسول وأرسل كتابه ذاك مع سارة التي كانت مولاة لبعض بني عبد المطلب؛ فأخذته هذه ووضعته على رأسها تحت شعرها وراحت تطلب مكة، ولما علم رسول الله بالخبر من السماء أرسل علي بن أبي طالب (ض) والزبير بن العوام (ض) وطلب منهما أن يلحقا بالمرأة ويأخذا كتاب حاطب منها؛ فذهبا ولحقا بها في بعض الطريق وبحثا في رحلها فلم يجدا للكتاب أثراً فقال علي (ض) إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت المرأة أن لا مناص من إظهار الكتاب ناولته إياهما فأتيا به رسول الله (ص) فسأل حاطباً عن ذلك فقدم للنبي سبباً واهياً لما حدث منه وطلب عمر (ض) أن يسمح له بقتله فلم يسمح له ذلك، ثم نزلت بحق حاطب هذا هذه الآية الشريفة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء تلقون إليهم بالمودة. .).
ومن تلك الأنباء أن أهل جرش لما أرسلوا رجلين منهما إلى الرسول (ص) بالمدينة لينظر في أمره قال الرسول والرجلان جالسان عنده: بأي بلاد الله شكر؟ فقام الجرشيان وقالا يا رسول الله ببلادنا جبل بقال له كشر وكذلك يسميه أهل جرش فقال: إنه ليس بكشر ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن - ثم جلس الرجلان إلى أبي بكر (ض) فقال لهما: ويحكما إن رسول الله (ص) الآن ليعني لكما قومكما فقوما إلى رسول الله (ص) فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما، فلما أتيا الرجلان الرسول وسألاه ذلك قال: اللهم ارفع عنهم - قم إنهما لما رجعا لقومهما وجداهما قد أصابهم صرد بن عبد الله اليوم والساعة التي أخبرهما بها الرسول - قيل ثم أسلم أهل جرش.
ومنها أن رسول الله (ص) لما مر بالحجر إبان أمره الناس بغزوة تبوك نزل ماء وأمر الناس ألا يشربوا منها وأمرهم إن كانوا قد عجنوا منها أن يعلفوه للإبل ومن جملة قوله في ذلك: ولا يخرجن أحمد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له - قيل فعمل الناس بما أمر به النبي (ص) إلا رجلين منهم خرج أحدهما لقضاء حاجة فخنق على مذهبه وخرج الآخر فذهبت به الريح لجبلي طي؛ فلما علم الرسول (ص) بذلك قال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه.؟ فأما الذي خنق فقد دعا له الرسول فشفى، وأما الآخر فقد أهدته طي للرسول عند قدومه المدينة.
ومن ذلك أن الرسول لما بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك ملك كندة النصراني قال له: إنك ستجده يصيد البقر، ثم جد خالد يطلبه ولما كان على مد البصر من حصنه في ليلة مقمرة كان أكيدر وزوجته على السطح يستروحان وقد كثر البقر حول الحصن حتى أنه كان يضرب الأبواب بقرونه؛ فقالت امرأة أكيدر: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال لا أحد، ثم إنه أمر بفرسه وسلاح صيده فركب هو وأخوه حسان ونفر من وقومه يريد صيد البقر فلما أوغلوا في الفلاة ولقيهم خالد حاربهم فقتل حسان وأسر أكيدر ذاك.
ومنها أن عبد الله بن أنيس (ض) لما بعثه الرسول لمنازلة خالد بن سفيان بن نببح الهذلي الذي جمع الجموع لمحاربة الرسول قال لرسول الله: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه، قال: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان وآية ما بينك وبين أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة، قيل فلما خرج عبد الله ورأى خالداً في ظعن له وقت العصر وجده كما وصفه الرسول (ص) فلما قتله وعاد ورآه رسول الله قال: أفلح الوجه، فقال عبد الله: قد قتلته يا رسول الله، قال: صدقت ومنها أن عمير بن عدي الأموي لما قتل عصماء بنت مروان الأموية عدوة النبي وذلك بغرسه سيفه في صدرها ليلا ولم يعرف أحد ذلك وجاء المسجد ليصلي الصبح مع الرسول قال له النبي بعد أن هم بالخروج من المسجد: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم يا رسول الله قال: نصرت الله ورسول، فقال: عمير: هل على شيء من شأنها يا رسول الله؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان
العراق
ناصر سعد