مجلة الرسالة/العدد 999/أدب الانحلال
مجلة الرسالة/العدد 999/أدب الانحلال
الأستاذ سيد قطب
(كان من المقرر أن يذاع هذا الحديث من محطة الإذاعة المصرية في الساعة الثامنة من مساء اليوم 10 من شهر أغسطس، ولكن جو المحطة لم يتطهر بعد إلى الحد الذي يسمح بإذاعة مثل هذا الحديث! أن الكثيرين هناك يحسبون أنفسهم مقصودين يوصف العبيد. كما أن الحماية ما تزال مفروضة على الأصوات الدنسة التي تذيع على الناس: (الدنيا سيجارة وكأس)!
أدب الانحلال هو في الغالب أدب العبيد. عبيد الطغيان، أو عبيد الشهوات. وحين تستذل النفس البشرية لطاغية من طغاة الأرض، أو لشهوة من شهوات الجسد؛ فإنها تعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وتلصق بتراب الأرض، وترتكس في وحل المستنقع: مستنقع الشهوة، أو مستنقع العبودية سواء.
فأدب الانحلال على هذا هو أدب العبودية، وهو لا يروج إلا حين تفرغ الشعوب من الرغبة أو من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أعلى. مثل أرفع من شهوة الجسد، وأعلى من تمليق الطغيان، لتحقيق مطمع صغير، أو مطمح حقير. . أي عندما تصبح (الدنيا سيجارة وكاس) أو تصبح الحظوة عند الطغاة أمنية المتمني في دنيا الناس!
عندئذ يظهر في الأمة كتاب، ويظهر في الأمة شعراء، ويظهر في الأمة فنانون. . يلبون هذا الفراغ من المثل العليا، ويمثلون هذا الارتكاس في حمأة الشهوة أو حمأة العبودية، وعندئذ يستمع الناس إلى هؤلاء الكتاب والشعراء والفنانين، لأنهم يصورون مشاعرهم، ويصورون أحلامهم، ويزينون لهم الراحة من الكفاح، والاطمئنان إلى الدعة، والإخلاد إلى حياة الفراغ والترهل والانحلال.
إن هؤلاء الكتاب والشعراء والفنانين ليقومون حينئذ بمهمة تخدير الشعوب وتنويها. سواء سبحوا بحمد الطغاة، أو سبحوا بحمد الشهوات. فأما حين يسبحون بحمد الطغاة فهم يزيفون الواقع على الشعوب، ويخفون عنها شناعة الطغيان وقبحه، ويصدونا عن الثورة عليه أو الوقوف في وجهه. . وأما حين يسبحون بحمد الشهوات، فهم يخدرون مشاعر الشعوب، ويستنفدون طاقتها في الرجس والدنس، ويدغدغون غرائزها فتظل مشغولة بهذه الدغدغة، لا تفكر في شأن عام، ولا تحس بظلم واقع، ولا تنتفض في وجه طاغية لتناديه: مكانك. فنحن هنا! فالشعب المستغرق في ذلك الخدر اللذيذ ليس هنا، وليس كذلك هناك!
والتاريخ يشهد أن الطغيان يملئ دائما لهذا الصنف من الكتاب والشعراء والفنانين؛ ويهيئ لهم الوسائل، ويخلق لهم الجو الذي يسمح لهم بالعمل. جو الفراغ والترف والانحلال.
عندما أراد الأمويون أن يأمنوا أهل الحجاز، وإن يستبدوا دونهم بالملك، وإن ينحوهم عن الحياة العامة، غمروا سادتهم وأشرافهم بالمال والإقطاعيات والهبات؛ وجلبوا إليهم المغنين، والملهين والجواري، وزينوا لهم حياة الدعة والترف. وأطلقوا عليهم الشعراء المجان يدغدغون غرائزهم في القصور بأناشيد الشهوة. . وفي الوقت ذاته انطلق الشعراء يمدحون الملوك الطغاة ويسبحون بحمدهم، ويصوغون حولهم الهالات.
والتاريخ يعيد نفسه. وهكذا كان في حاضر الأوان. . كان في مصر طاغية صغير؛ كان يعبد ذاته، ويقدس شهواته. وكان يريد أن يحول هذا الشعب إلى عشرين مليونا من العبيد.
عندئذ انطلق كتاب وشعراء وفنانون يسبحون بحمد الطاغية الصغير، ويسجدون له من دون الله. ويخلعون عليه من صفات الله. سبحانه! مالا يجرؤ مسلم أو مسيحي على النطق به. حياء من الله.
وحينئذ انطلق كذلك كتاب وشعراء وفنانون يسبحون بحمد الشهوة، ويعبدون اللذة. وعندئذ استمع الناس إلى أغنيات تقول: (الدنيا سيجارة وكاس) و (أنسى الدنيا) وما إلى ذلك من أدناس وأرجاس.
إن التسبيح بحمد الطاغية، والتسبيح بحمد الشهوة؛ لم يكونا منفصلين، ولا غريبا أحدهما عن الآخر. . لقد كانت فترة انحلال. وأدب انحلال. إنها العبودية ذات طبيعة واحدة. عبودية الشهوة أو عبودية الطغيان.
فإذا نحن أردنا أن نكافح أدب الانحلال، فيجب أن نكافح أولا أسبابه في حياة الأفراد أو حياة الشعوب. يجب أن نكافح روح العبودية في الضمير الإنساني. نكافح عبودية الشهوة فنحرر الضمير البشري من الخضوع لها. فالإنسان إنما صار إنسانا بتعاليه على ضرورات الحيوان. والتربية الدينية هي الطريق الأنجع والأقرب إلى تقوية روح الإنسان، وتساميه على ضرورات الحيوان.
ونكافح عبودية الطغيان. فالطغيان يحمل معه دائما تشجيع الانحلال والدعة والترهل، كي يبقى هو في أمان من انتفاض الكرامة، وانبثاق الحرية، والانتقاض على العسف والطغيان
وشيء آخر نملكه اللحظة:
لقد عاد الذين كانوا يسبحون بحمد الطاغية الصغير، ويملون له في البغي والعدوان، ويمجدون أسمه ويخلعون عليه من صفات الله الواحد القهار. . . عاد هؤلاء هم بأنفسهم يلعنون الطاغية ويطلقون ألسنتهم فيه، ويمزقون عنه أردية المجد الزائفة التي ألبسوها إياه.
هذا نفسه لون من ألوان الانحلال. وصورة أخرى لأدب الانحلال. هؤلاء لم يخرجوا في الأولى أو الثانية عن أن يكونوا عبيدا منحلين. عبيدا يحنون ظهورهم لسوط السيد يلهب به جلودهم. فلما أن سقط السوط من يده - رغم أنفه - التقطه العبيد وادروا به يبحثون لهم عن سيد جديد!. . سيد جديد يلهب جلودهم بالسوط، ليحرقوا له البخور، وينثروا من حوله الزهور.
هؤلاء هم ممثلو أدب الانحلال. وهؤلاء هم الذين يجب أن يقصيهم الشعب عن الإنشاد له في العهد الجديد. عهد العز والقوة والاستعلاء، عهد التحرر من عبودية الطغيان، والتحرر من عبودية الشهوة اللتين قد تجتمعان أو تفترقان، فتمهد إحداهما للأخرى، وتهيئ لها النفوس والأذهان.
أجل ينبغي ألا نسمح لهؤلاء العبيد بالإنشاد للشعب في العهد الجديد، ولا أن نغفر لهم تمريغ جبهة الأدب والشعر والفن في المستنقع الآسن. فكل غفران لهؤلاء هو تنازل عن مبادئ الثورة الجديدة، وكل استماع لهم هو خيانة للمثل الجديدة.
ولا يقل أحد: إنهم كانوا معذورين في تمريغ الأدب والفن والشعر والإنسانية في ذلك الوحل. فلقد كان باستطاعتهم أن يسكتوا، إن لم تبلغ بهم الرجولة أن يكافحوا.
إن الاعتذار لهم على هذا النحو تبرير للجريمة، التي يمكن اغتفارها للتجار لا لقادة الفكر وزعماء الأدب والكتاب والشعراء والفنانين.
إن من حق الثورة علينا أن نتذكر ولا ننسى. نتذكر شناعة الجريمة. شناعة الانحلال الدنس.
إن الديدان والحشرات التي عاشت طويلا في المستنقع كفيلة بتدنيس كل مقدس، إذا نحن سمحنا لها بالحياة مرة أخرى في الأرض الطيبة، التي يجب أن تخلو من الديدان والحشرات.
سيد قطب