مجلة الرسالة/العدد 999/حول مقال

مجلة الرسالة/العدد 999/حول مقال

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 08 - 1952



يقظة الوعي الإسلامي

(إلى الأستاذ محمد عبد الله عنان)

للأستاذ محمد رجب البيومي

أخذ الروح الإسلامي في مدى عشرين عاما يرسل أضواءه المتلاحقة في المجتمع المصري الحديث، حتى أصبح لدينا وعي ديني يحسب حسابه، ويلمس أثره الواضح في كل اتجاه، غير أن طائفة من الكتاب يطبقون عيونهم عما حولهم، فلا يقدرون لهذا التيار العنيف أثره البعيد في اختلاف النظرة، وتحول الرأي، بل يتكلمون عن الدين كما كانوا يتكلمون عنه في مطلع هذا القرن، قبل أن تتبدل الحال غير الحال، حيث أفلح الاستعمار في أداء رسالته التبشيرية ردحاً من الزمن، فرسم للشريعة الإسلامية صورة مخيفة مفزعة تتقوض معها دعائم الحضارة والعمران، وقد أذن الله أن ينجاب ليل الباطل عن النفوس، فأخفق أعداء الإسلام في محاربته، وأسفر صبحه الوضئ بهيجاً ساطعاً، فسار الناس على ضوئه وطالبوا بتحقيق رسالته، وهم لابد واصلون إلى ما يبتغون على يديه من خير وإصلاح.

ولقد كانت القوانين الوضعية تسن في مصر مخالفة روح الشريعة الإسلامية قانونا آثر قانون، ويقابلها الرأي العام في الصحف والأندية مرحبا هاتفا، فإذا اعترض عليهم مسلم مخلص لدينه وعقيدته، رمي بالجمود المتأخر، والرجعية البالية، وقوبل حديثه باستخفاف هازئ وسخرية مريرة، أما الآن فقد تيقظ الوعي الديني في الأمة المصرية تيقظاً يبشر بالخير والسداد، والتف الجمهور الناضج حول الشريعة الإسلامية التفافا متماسكا، وسمع الناس كلمة الدين في حقوق المرأة تدوي عالية قوية، فيذعن لها أصحاب التشريع، ويقف لديها القانون سامعاً مطيعاً، ولكن الرجوع إلى الحق لم يرض فريقاً من الناس فاندفعوا يهاجمون القوانين الدينية هجوماً فاشلا، ويرددون النغمة البالية التي لحنها الاستعمار قديماً لتحول بين الشعب وكرامته، فهم ينذرون الوطن بالتأخر والفشل إذا احتكم لقرآنه في تشريع، أو تبع دينه في مذهب، وقد أدهشني أن أجد الأستاذ محمد عبد الله عنان - مع ما عرف عنه من التعقل والاتزان - يصيح مع هؤلاء الناقمين، فيهجم على قوانين الشريعة هجوماً ظالما، ويرى في نظمها العريقة تقهقرا لا يليق بمجتمع متحضر مستنير، وسأنقل هنا بعض ما كتبه الأستاذ بالعدد (706) من مجلة الثقافة الغراء دون أن اشوه حديثه بالتلخيص الموجز ليقف القراء على رأيه من أقرب طريق.

يقول الأستاذ:

(والحقيقة أن هذا الاتجاه (نحو الشريعة الإسلامية) خاطئ من أساسه ولا محل على الإطلاق أن يتخذ الدين أساسا لمثل هذا الموضوع، سواء لتوكيد التحريم والإباحة، وإذا كانت مصر دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية، أو بعبارة أخرى أنها دولة تطبق أحكام الدين في سائر نواحي الحياة العامة؛ فالنظم الأساسية والقوانين المدنية والجنائية المصرية كلها نظم وقوانين تطبعها الصفة اللادينية).

إلى أن يقول: (فإذا ما تقرر ذلك وهو أن لنظم والقوانين المصرية هي نظم مدنية لا دينية، لأنها هي النظم والقوانين التي توافق روح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية، فلا محل لأن نجعل الدين حكما في مسائل لا علاقة لها بالدين، ولا تمس العقيدة الدينية ذاتها، ولا محل إذن لنرجع بمطالب المرأة السياسية الاجتماعية إلى أحكام الدين ما دامت هذه مطالب لا شأن بها بالعقيدة).

ثم يقول في النهاية: (فمحاولة النيل من هذه النهضة المباركة (نهضة المطالبة بحقوق المرأة) والرجوع بها إلى الوراء باسم الدين أمر لا يقبله عقل مستنير أو منطق سليم).

ونحن حين ننقل هذا الكلام الجريء لا نرغب أن نعقب عليه بنقد يكشف خطأه للناس، فالناقد المخلص يشرع قلمه حين يخشى استجابة المجتمع لرأي خطير يلتبس فيه الحق بالباطل، ولكن الوعي السائد ينكر بداهة، أن يوجد فرق بين الحكومة الإسلامية، والحكومة الدينية، كما يعتقد الأستاذ، فكل حكومة لا تلتزم شريعة الإسلام فليست إسلامية ولا دينية معاً، ومن الخطأ الواضح أن يعتقد مسلم أن الدين شيء والإسلام شيء آخر، فإذا وجد من يجرؤ على هذا القول في مجتمع رفع الغشاوة عن عينه، فلن يجد من يستمع إليه، ولا حاجة لمن يتعقب كلامه بنقد صريح، إنما لحاجة ماسة إلى من يوقف الكاتب وأمثاله على مدى النشاط الديني الذي أخذ يسيطر على الحياة المصرية سيطرة مباركة ليزن كل كاتب كلامه عن الإسلام بميزان دقيق.

والمدهش الذي لا يتوقعه القارئ من الأستاذ عنان بعد أن كتب هذا الكلام، أنه يتفق مع رجال الدين في هدف واحد، فينادي بحرمان المرأة مما تزعمه لها من الحقوق، ولكنه يرفض أن يكون هذا الحرمان وفق تعاليم الشريعة الإسلامية كما يقول رجال الدين! بل احتذاء وتقليداً لفرنسا وإنجلترا وبلجيكا! إذ أن هذه الدول الغربية قد لزمت الحيطة والأناة حين منحت للمرأة حقوقها السياسية في فترات متباعدة، ولم نفتح لها الباب على مصراعيه مرة واحدة، فالثورة على القوانين الإسلامية وحدها هي التي تشغل بال الأستاذ، وتدفع بع إلى محاربتها دون تردد واكتراث.

ولقد كان اللائق بالكاتب بعد أن تشبث بالقوانين الوضعية واعترف بأنها - وحدها - التي توافق روح العصر، ومقتضيات الحياة الاجتماعية، أن يدافع عنها دفاعا يحببها إلى الذهن المصري الحديث، بعد أن كفر بها كفراً لا مزيد عليه، إذ أنها سيطرت على التشريع المصري حقبة طويلة، ففتحت الطريق للرشوة والظلم والاستبداد، ومحت معاني العزة والحرية والكرامة من النفس، وهذه القضايا السياسية الفاضحة التي تمتلئ بها صفحات الجرائد كل يوم لم تكن غير نتيجة حاسمة لهذه القوانين الآثمة التي تتستر على الخيانة والرشوة والاختلاس والتبذير، حتى فطن المصريون إلى ما تجره الشرائع الغربية من نكبات أليمة على الشرق والإسلام، فأعلنوا الحرب عليها في غير هوادة، وسيأتي اليوم التي تلفظ فيه أنفاسها في الشرق الإسلامي إلى غير رجعة مادام في الشر قرآن يعلن كلمة الله، وجمهور يعتقد أن الحكم بغير شريعة الإسلام ضلال وكفران.

وإذا كانت الدستاير الحديثة التي يؤمن بها الأستاذ عنان تنادي بأن الأمة مصدر السلطات، فلماذا يخالفها الأستاذ مخالفة سافرة فيتحدى الشعور السائد في الجمهور، ويتجاهل ما طرأ على المجتمع من تطور سريع في الرأي والاتجاه؟ ويغمض عينه عن الآلاف المحتشدة التي تنادي بالاحتكام إلى الإسلام؟

إن كان الكاتب في شك مما نقول، فلينظر إلى من يطالبون بشريعة القرآن الآن؟ أهم الأزهريون وحدهم كما كان الحال منذ أعوام؟ أم أن الصفوة المختارة من الشباب الجامعي طلابا وأساتذة يجاهدون في هذا السبيل جهاداً يوشك أن يكلل بالنجاح!

من المسيطرون اليوم على دعوة الإخوان المسلمين؟ أليسوا أعلام القانون وأساتذة التشريع في مصر! أفينقصهم العقل المستنير الذي يتشبث به الأستاذ عنان، أم أنهم يشاركونه الفقه والتعمق والإنتاج!

لقد كان على الأستاذ الفاضل - وهو كاتب لامع ينشر مقالاته في الصحف اليومية - أن يلحظ ما طرأ عليها من اتجاه ملحوظ نحو الدين، فقد أفردت صفحاتها الواسعة المناقشة المسائل الدينية نقاشاً مسهباً، وتسابقت كل جريدة في تصيد الأبحاث الإسلامية بحثا وراء بحث، ومن أصحاب هذه الصحف من لا يرحبون بتعاليم الإسلام، ولكنهم يملقون الوعي الديني في الأمة، ويودون التحبب إلى القارئ بشتى الوسائل، وفي الكتابة الإسلامية ما يغذي العقول ويشبع الرغبات.

لماذا أصدرت أخبار اليوم كتابا عن محمد، ولماذا أصدرت دار الهلال كتابا يفسر آيات القرآن؟ أكان المهيمنون على الصحيفتين من عشاق الفكرة الإسلامية في يوم من الأيام؟ أم أن الوعي الديني قد أجبرهم على الإذعان لمشيئته، فألقوا إليه السلم طائعين، والتاجر الناجح هو الذي يقدم الثمرة المشتهاة، لتدفق عليه الثراء وتتضخم لديه الأرباح!

هذه هي المحاضرات اليومية المتنوعة، بعلن عنها في الصحف مساء فلماذا يختار الشباب منها ما يمت إلى الإسلام بأقرب الصلات؟ وهذه هي المجلات الإسلامية تتزايد يوماً بعد يوم فلماذا يتكالب عليها القراء رغم ما يحمله غيرها من مغريات اليانصيب والسباق، ورغم ما تتعلق بع الغرائز من صور وأقاصيص!

أليس من المضحك أن يعيش كتابنا الأفاضل في عزلة تامة عن مجتمعهم المتوثب، فهم لا يحسون بما يسوده من تطور وانتقال! فإذا كتبوا إليه أخذوا يرددون ما تعافه الأسماع!

لقد ازدحمت المكتبة العربية بسيل جارف من الكتب الإسلامية التي تناقش الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية على ضوء القرآن؛ فلماذا التهمها القراء في نهم واشتياق، فتعددت طبعات الكتاب الواحد عدة مرات؟ ولماذا خرس دعاة الإثم من الكتاب فلم نعد نسمع بمن يكتبون عن (كبرياء الحب) (ومأساة قلب) (والموجة العذراء)!

إن المستقبل للإسلام دون نزاع، فمن شاء أن يلحق بالركب المجاهد فليحمل قلمه في سبيل العزة والحرية والإيمان، فعما قريب تبدد الغيوم، ويشرق النور المتألق، (يومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).

محمد رجب البيومي