مجلة المقتبس/العدد 10/الاستشفاء بالموسيقى
مجلة المقتبس/العدد 10/الاستشفاء بالموسيقى
ملخصة من مقالة في المجلة الباريسية
قال أفلاطون: لم يبعث الأرباب فن الموسيقى لإدخال السرور على البشر واللذة على حواسهم بل لتسطين اضطرابات نفوسهم وتهدئة تلك الحركات المشوشة التي لا مندوحة لجسد مليء بالنقص عن الشعور بها. فجعل الأطباء قديماً وحديثاً هذه الكلمات نصب أعينهم عرف ذلك من ثباتهم على المحاولة في شفاء مرضاهم بالأنغام فاستعملوا الموسيقى لشفاء أو تخفيف الصرع والسويداء والإب (النزاع إلى الوطن) والخبل وضيق الصدر والهوس والجنون والبلادة والسير والتكلم في حال النوم والخدر والنقطة والهستريا والسكتة والفالج والسرسام وداء الأعصاب والحميات والنقرس وعرق النسا والرثية روماتيزم والطاعون والحميراء والكلب وغيرها كما استعملوها لشفاء الجروح والقرصات السامة ولتقوية الهضم والتنفس وترشيح الأخلاط فللموسيقى أهمية في الطب وتستخدم للتمريض.
كانت تتم في القديم معرفة فنون الشعر والموسيقى والطب لشخص واحد. يقول ألين (الكاتب اليوناني من أهل القرن الثالث) أن ترباندر وتاليت وترتي كانوا أطباء موسيقيين وأوصى كسينوكرات وأبقراط واسكلبيادس وكاليين وأرتي وسليوس اورليانوس وتيوفراست باستخدام الموسيقى في عدة أمراض عندما تنقطع الحيلة من العلاج في بعض الأدواء. وكان الأحياء والأموات يسمعون أدوات الطرب. قال مونارك أن القدماء كانوا يسمعون المحتضرين بعض الألحان وربما اسمعوها من قضوا نحبهم لعلهم تعود الحياة إليهم. وقال سليوس اورليانوس أن فيثاغورس كان أول من استعمل الموسيقى في شفاء الأمراض وأنه جرب ذلك في بلاد اليونان. وقال بورهاف (1668_1738) لا بأس بنسبة جميع الخوارق التي رويت عن الرقيات والأشعار في شفاء الأمراض إلى الموسيقى التي كان قدماء الأطباء يجيدونها.
استعملت الموسيقى في عصرنا لمعالجة عامة الأمراض فأصدر بونابرت أمره إلى أجواق موسيقى كتائب جيش الشرق أن تصدح كل يوم تحت نوافذ المستشفيات ولا تزال أجواق الموسيقى العسكرية إلى اليوم في كثير من الحاميات في الولايات تذهب مرة أو مرتين في الأسبوع لتنغم بأبواقها أما مرضى الجند.
ولقد عزمت إحدى جمعيات الإحسان في إنكلترا على تحقق تأثير الموسيقى في تسكين الآلام الطبيعية والأدبية في كثير من الأسقام فألفت من مرضى الموسيقيين عصابة تقوم في مكان خاص بها تتناوب العمل فيه ليل نهار لنقل الأنغام الموسيقية بواسطة أسلاك التلفون إلى قاعات مخصوصة من كل مستشفى كبير في لندرا. فأسفر ما جرى من التجارب في هذا الشأن حتى الآن عن نتائج مهمة. وأقل ما نجم من الفوائد أن أخذ المضطربون من المرضى ينامون ملء جفونهم واستراحوا من التشويش والتبلبل.
وتألفت في سهالنبورغ جمعية من النساء المريضات لتصدح كل يوم بالقرب ممن أجريت لهم العمليات بالأنغام الموسيقية صوتية كانت أو آلية فثبت أن درجة حرارتهم كانت تنزل وأن آلامهم تخف. ومثل ذلك جرب في مستشفى بلتون بإنكلترا. والكمنجة هي الآلة المستعملة في الأكثر. وأحسن الآلات استعمالاً في حال الأرق علبة موسيقية بسيطة تدور بحركة ساعة دقاق أو بمحرك كهربائي. بيد أن تأثير الموسيقى في المرضى يحتاج إلى درس طويل إذا أخذ بمجموعه لا على التعيين.
نشر أحد أطباء الألمان كراسة في فعل الموسيقى في النفوس فقال أنها إذا أضعفت الأصحاء فهي تسكن حواس المرضى وأنها لتنفع في أوجاع الرأس والدوار والإغماء واستشهد على ذلك بامرأة كان صوت الأرغن يضيع رشدها فيعروها جذب وكانت تلك الآلة بعينها تحدث نفس التأثير في فتى طلياني كان مصاباً بالدودة الوحيدة. ذكر روسو الفيلسوف أن كاهناً كان إذا سمع صوت الأرغن يتأثر حتى ليضطر إلى مغادرة الهيكل وعلى العكس في رجل من قومه كان يستولي عليه وهو في حالة السماع ضحك عصبي يستلزم إخراجه من الكنسية.
لاحظ الطبيب المشار إليه أن الموسيقى تعدل سير الدم وتحسن حالة التنفس فإذا كانت الأنغام الموسيقية حادة بهجة تبرق العين وتزيد حمرة الوجه ويسرع النبض وتنمو حرارة الجسد ويضرب القلب ويسعل الهضم وإذا كانت الأنغام الموسيقية كئيبة وبطيئة تحدث للعين غشاوة ويصفر الوجه وتقل رطوبة الجلد ويزداد تواتر الدم إلى القلب ويضعف ضرب النبض ويقل التنفس ويطول.
قال وتفعل الموسيقى في المجموع العضلي فبها يتحمل الجنود الشدائد والمتاعب فتتضاعف قوتهم عندما يباشرون القتال وتؤثر أيضاً في التهييج العضلي فإنك ترى أناساً يرقصون من الليل ويطيلون الرقص وما كانوا ليقوموا بهذه الرياضة لولا سماع الأنغام. فالمرأة مهما بلغ من لطف مزاجها وتأثرها من أقل تعب ينالها يهون عليها الرقص ساعات على صوت آلات الطرب. ثم أن الملاح والمعدن والبحري يتغنون عندما يقومون بأعمالهم الصعبة.
يحب صاحب المزاج الدموي من الموسيقى ما أفرح وجاز على السمع وكان طبيعياً في الوضع. ويفضل السوداوي من الموسيقى الشديد القاسي العالي. ولا يحب البلغمي شيئاً من أنواع الموسيقى. أما أهل الدعة والسكون والعلماء فلا يجيدون الشعر ولا يحسنون صنعة الغناء. على أن في هذا القول نظراً لأن القول بأن المزاج الفلاني لا يقبل النغم الفلاني هو ناشئ لا من المزاج فقط بل من الوراثة والمحيط والتربية ولقد عرف علماء لا يرتاحون للموسيقى ورأيت من لا يفضلون شيئاً عليها وشهدت من يتوفرون عليها ويعتدلون في سماعها.
وضع الطبيب المنوه به ست قواعد لاستعمال الموسيقى في شفاء الأمراض أولها أنه كلما كانت الموسيقى طبيعية وأعربت عن اللغة الطبيعية في الفكر تؤثر في النفوس كثيراً ولاسيما في نفوس من لم يتعلموا التعليم الكافي. ثانيها لما كان لكل بلاد أنغامها الخاصة بها فإن الموسيقى تؤثر في الروح كلما قربت من هذه الأنغام. ثالثها ينبغي أن تكون الموسيقى متناسبة مع درجة تأثير الموضوع. رابعها ينبغي أن يحدث تأثير الموسيقى ببطءٍ فيبدأ مع السوداويين باستعمال ألحان يتدرج فيها من الخفيف إلى القوي ويستعمل من الألحان الشديد أمام أصحاب النفوس الغضبية. خامسها اختيار الآلات المستعلمة للغاية التي تطلب فصاحب المزاج السوداوي يرتاح لسماع الطبل والبوق ذي الأنبوبتين وكذلك المزمار والعود يناسبان مزاجه. سادسها تطرب الموسيقى الطبقات العالية أكثر مما تؤثر في الطبقات النازلة.
ومن رأي هذا الطبيب أن الموسيقى تشفي صاحب السويداء كما تزول بها الكآبة والحزن وتبعد الخوف. ولقد أجمع الفلاسفة على أن شيئين إذا عادلا ثالثاً يكونان هما متعادلين فإذا كانت الموسيقى نافعة في إزالة الكدر والسويداء هما في الحقيقة شيءٌ واحد. فإن أبقراط حدد السويداء بأنها الكدر والخوف.
وهنا أورد صاحب المقالة حوادث من التاريخ في أوربا ولاسيما في فرنسا تدل على ما نفع من الأنغام في مداواة بعض الأسقام ولاسيما الجنون والاختلال وداء النقطة مما دل على أنه أحاط بالموضوع من جميع أطرافه وقتله درساً واطلاعاً. ثم قال أن الإسلام انتفع من تأثير الموسيقى لتحريض أشياع الحسين الشهيد على الجذب والتهيج وذلك بقرع الطبول المتواتر على إيقاع متساوق سريع فيردد الشيعة على نغم الطنبور ألحاناً مقفاة حتى ينتهي الحضور بأن لا يعودوا يتأثرون للضرب ولا للجرح. وكذلك الحال في دراويش الهند فإنهم يستعملون كلمة واحدة ويكثرون من ترديدها فتؤدي بهم إلى الجذب مصحوباً بقلة التأثر.
وبعد أن أفاض في إيراد حوادث القدماء وأخبار عنايتهم بالموسيقى في شفاء بعض الأمراض قال أن مراد الرابع (1623) أثرت فيه الموسيقى فعقد النية على أن يبقي على أخوته الذين كان ينوي اهراق دمهم وأن فرنسيس الأول بعث إلى سليمان الثاني بجوق من الموسيقى فلاحظ هذا أن شراسة خلقه لطفت بسماع ألحانهم فأسف من جراء ذلك كثيراً ولم يلبث أن طرد للحال جميع الموسيقيين من حضرته.
وجملة القول أن الموسيقى تؤثر في الدورة الدموية في الإنسان والحيوان ويزيد بها ضغط الدم وينقص وتتبع هذه التقلبات تأثير تهييج الأعصاب السمعية. وأن آلات الطرب والصفير ليظهر فعلها بتحسن في تشنج القلب خاصة. وتغيير الدم الناتج من تأثير الموسيقى يناسب تحول التنفس وإن كان يتجلى ذلك مستقلاً عن تحول التنفس. يزيد الستركنين في تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية والكورار على العكس يضعفه.
والكلورال (نوع من المخدرات) والكحول والأفيون تضعف أيضاً تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية وتغيير الدورة الدموية تابع لارتفاع الصوت وشدته بل لارتفاع الجرس ونزوله. ولتغير الدورة الدموية دخل كبير في ذاتية الحيوان والإنسان ولاسيما في جنسية الإنسان وتابعيته.
وعلى من أراد الوقوف على تأثير الموسيقى في أحد أعضاء الجسم سليماً كان أو سقيماً أن يفرق بين العناصر التي ينبعث منها ذاك التأثير. فالهزج واللحن والإيقاع تؤثر تأثيرات مختلفة بحسب تركيبها وتلحينها. وفي الختام نقول أن الاستشفاء بالموسيقى قديم العهد وقد ظل محتفظاً بأهميته العلمية والعملية على حالة واحدة رغم اختلاف العصور.