مجلة المقتبس/العدد 10/المدارس والأخلاق
مجلة المقتبس/العدد 10/المدارس والأخلاق
لا تقوم واجبات المدارس بتعليم العلوم فقط بل إن بث روح الفضيلة والإقدام من أخص واجباتها.
جول سيمون
تنبه الناس حديثاً لإنشاء المدارس في الشرق ورغب بعضهم فيها بعد أن ذاقوا لذة العلم ورأوا عظم تأثيره في الغرب فعملوا على تأسيسها جهدهم ولم يمض زمن حتى كثرت معاهد العلم وتعددت لاسيما في اليابان مملكة الشمس المشرقة مدهشة العالم بسرعة ترقيها. أتى على بلادنا أزمان عفت فيها آثار المدارس أو كادت إلا ما كان هناك من كتاتيب قليلة ضئيلة فعادت تنفض عنها غبار الإهمال وتزهو بما أنشئ فيها من بيوت العلم حتى أوشكت تضاهي بعض بلاد الإفرنج العامل أهلها على توطيد أركان العمران فيها وإخلاص من مستو بل المفاسد بالتهافت على العلم والرغبة في التهذيب توصلاً إلى بلوغ الكمالات الإنسانية والتمتع بما يجعل الحياة على الأرض هنيئة صافية لا شر فيها ولا شقاء وهو مما يسر ولا جرم المحبين المنصفين ويحقق آمال العاملين المخلصين وينبئ بمستقبل باهر وارتقاء أكيد ينهض بالشرق من كبوته ويعيده إلى سابق عظمته.
ولقد مرت على مدارسنا أعوام وهي إلى يومنا هذا لم تعن بتحسين الأخلاق وإصلاح الملكات والعادات اعتناءها بقواعد اللغات والرياضيات والطبيعيات على حين نرى الحاجة ماسة إلى تقويم أود الأخلاق وعجن النفوس في مركن الوطنية وحب الخير والإحسان وتنظيفها من أقذار ما توالى على البلاد من النوائب والإحن وعوامل الجهل والانحطاط وتنشئتها على الجرأة والعزم والحزم والإقدام والتساهل والمسالمة والتعاضد والاتفاق وتدريبها على الصدق والإخاء والاجتهاد والترتيب والاقتصاد وتقويتها على احتمال أثقال الحياة ومتاعب العمر وتذليل العقبات ومقاومة التجارب بالعفة والنزاهة والمكاره بالصبر والترفع عن الصغائر والتمسك بأهداب الفضائل والنهوض إلى معالي المجد والجهر بالحق وعدم الاعتداد بالقيل والقال والتشبث بأهداب المحال وتربيتها على احترام حق الضعيف وإكرام المستحق ومعاونة القاصر وتنشيط المستعد وطلب النافع ونبذ المضر إلى غير ذلك مما يؤهل المرء ليحسن القيام بواجباته والتمتع بحقوقه ويؤدي به إلى ما يتمناه له المصلحون. وهذه كما رأيت أمور أولية ينبغي إيثارها على كل شيء.
وقلما نظرت مدارسنا مع ما فيها من العلماء والأدباء وما لها من الفضل في إنارة الأذهان وترقية العقول وتوسيع المدارك إلى تلك المقومات نظر حكيم مخلص يعرف كيف يداوي الإعلاء وتقاوم أدواء الأمم ولم تقصر جل اهتمامها إلا على حشو الأدمغة بقواعد اللغات والرياضيات والطبيعيات على ما مر بنا آنفاً غير مفسحة للأدبيات والاجتماعيات إلا القليل من أوقات الدراسة فيها كأنها تجهل قيمة النفس وتأثير الأخلاق في الوجود. والأنكى أن ما تعلمه الواحدة وتذهب إليه تشجيه الأخرى وتبعد عنه وما تحض عليه هذه تقاومه تلك إذ ندر وجود مدرسة عندنا لا غاية لها في العلم ولا مأرب خاص على أن العالم لا مشرب له ولا دين كما قال المقتبس الأغر في عدد أسبق.
ولا تنحصر واجبات المدارس فيما تجري عليه مدارسنا الحاضرة التي تفقد الأولاد كثيراً من الأمور الطاهرة الآتية معهم إليها وتضعف فيهم أميالاً سامية فطروا عليها مذ تكونوا في أحشاء أمهاتهم وتلاشي منهم نزعات شريفة ورغائب عظيمة مقدسة وتبث فيهم مبادئ تافهة ونعودهم عادات سيئة وتمكن منهم أخلاقاً فاسدة وتنشئهم على التعصب والإدعاء والكبرياء والضعف والجبن والكذب والرياء وما أشبه ذلك من النقائص التي أكلت من لحومنا وشربت من دمائنا مئين من السنين حرمنا فيها الهناء والارتقاء. ولولا إعداد المدارس طلبتها للاستنارة بنفوسهم لنفوسهم وتأهيلها لهم بالعلم لدرس الآداب والعمل على تحسين الأخلاق لما بالغنا إذا قلنا أن مدارسنا أضرت قدر ما نفعت. ومن راقبها بنزاهة وإخلاص وبحث في طرائق التربية فيها بحثاً دقيقاً إذا جاز لنا أن نقول أن فيها تربية تتضح له الحقيقة بأجلى بيان. . . وإصلاح المدارس خير أساس يجب أن يقوم عليه الإصلاح.
الضغط على العقول وإرهاق الوجدانات وخنق الأفكار ومعاكسة النوابغ ومعاملة التلاميذ بالقسوة والجور والشراسة والاستبداد والشتم والضرب وقلة الأدب على نحو ما بينت ذلك في فصل من كتابي الإنسان ابن التربية وإيثار أهواء المعلمين على القوانين ومآرب الوالدين على مصالح البنين وعدم الاعتداد بالغرائز وعدم تنشيط العزائم وتعزيز الصدق والجرأة والإقدام وعدم جعل المعلمين أنفسهم قدوة حسنة للتلاميذ وتطبيق أفعالهم الخاصة والعامة على أقوالهم وما شاكل ذلك مما يأتي به كل معلم غير مؤهل للتعليم بأخلاقه وآدابه على ما نشاهد في كثير من مدارسنا مما لا حاجة إلى إعادة ذكره الآن وإثارة الأشجان بتعداده - كل هذا أساس فساد الأخلاق في المدارس.
راقبت مرة طلبة إحدى المدارس في وقت الراحة فرابني أمر تلميذ منهم كان كمن يبحث عن ضائع وعرفت بعد البحث أن يحمل (السنيال) وقد رأيته يأتي من ضروب الرياء والتجسس ما أحزنني على مستقبله ومستقبل أبناء مدارس من مثل هذه تدرب بنيها على عادات سيئة وأعمال دنيئة. وهل أسوأ وأدنى من جاسوس يغتاب الناس وينم بهم. ولو اعترض أحد على مثل هذه الأمور لاحتجت المدارس على إتيانها بحجج وبراهين لا تخرج عن حد (الغاية تبرر الواسطة) وعندي أن شرف الأخلاق وإباء النفس مع العلم القليل خير من الصغار والدناءة مع إتقان التكلم بعدة لغات.
من المسؤول عن فساد أخلاق شبان العصر وسوء أحوالهم الأدبية يا ترى غير البيوت والمدارس؟ وإذا كان الوالدون على ما يعهدهم الجميع لا يعرفون من شؤون التربية غير اسمها ولا من الأخلاق إلا ما شبوا عليه ولا من العادات سوى ما تأصل فيهم أفلا يجدر بالمعلمين المتعلمين المهذبين أن يعوضوا عن هذا النقص جهدهم ويسدوا من الخلل ما يستطيعون؟ نعم لا أنكر أن المعلمين اليوم هم أبناء هذه المدارس أيضاً وما يتقاضونه من الرواتب لا يرغب في المهنة المهرة البارعين ولا يدني منها غير الكسالى العاجزين في أغلب الأحوال ولكن أين تأثير الإدارة والرئاسة ورواتب المديرين والرؤساء لا تحول دون انتخاب المستعدين والمستعدون على ازدياد؟
يقولون اكثروا من المدارس واستكثروا. ولا نجاح لنا بلا مدارس ولا ارتقاء. ولكن فاتهم أن ما عندنا منها لو عرفت كيف تربي أخلاق بنيها على ما يعوزنا لكان الأغنياء منهم ينشئون المدارس من تلقاء أنفسهم دون أن يحوجونا إلى النداء والمطالبة والحكماء يديرونها حسب الأصول دون استبداد بالأولاد وتلاعب بالحاسات والمعلمون يهذبون النفوس ويكفوننا مؤونة الكلام في هذا الموضوع الخطير. وقد كثرت مدارسنا وحسبنا من أنواعها ما عندنا وخير من زيادتها أيضاً العناية بتحسين طرق تربية الأخلاق فيها وهذا الركن العظيم الذي يتوقف عليه نجاح الأمة.
لا ريب أن المدارس تكيف الأمم وبواسطتها تستطيع كل أمة تغيير ما تريد من عاداتها ومبادئها وأخلاقها إذا توحدت فيها غاية التربية والتعليم ووافق كلاهما حاجات الأمة لاسيما وأبناء المدارس وبناتها سيصبحون يوماً آباء وأمهات يتولون تربية الأولاد الأولى الأساسية التي تدوم آثارها بدوام العمر ولا يلاشيها إلا القبر. فعلى المدارس فقط يمكننا أن نعتمد الآن في تهذيب الأخلاق وإصلاحها هذا إذا عرفت كيف تتوصل إلى ذلك بالتربية الصحيحة والتعليم القويم. وقد أكثر العلماء والفلاسفة الغابرون والحاضرون من إيضاح أصول التربية والتعليم وما على من يتعاطى صناعة التدريس ويتولى شيئاً من أمور المدارس إلا مراجعة ذلك في أماكنه ودرسه حق دراسته وانتخاب ما يلائم حالة السكان ويوافق حاجاتهم وإتقانه تمام الإتقان وإلا فسدت أعمالهم وساءت نتائجها كما هو الواقع لعهدنا.
وبعد فكيف نرجو إيجاد أمهات مدركات وأباء عاقلين نعتمد عليهم في تنشئة أبناء الغد على المبادئ السامية والإهابة بهم إلى أسمى قمم الاجتماع وإدراك مراتب التمدن الرفيع ومدارسنا الحاضرة لا عناية لها بالأخلاق كما ينبغي؟ كيف نتمنى بلوغ المجد والأخذ بحظ وافر من الإنسانية وحفظ الثروة وإحسان التمتع بالحقوق والقيام بالواجبات وأخلاقنا على ما هي من الفساد والالتواء؟
الأخلاق الأخلاق خير ما تطالب به المدارس وإصلاحها من الأوليات الضروريات التي يجب أن تنحوها مقاصدها وتسدد إليها خطى المسعى. وعلى كل معلم أن يضع هذه الغاية الشريفة نصب عينيه ويلهج بذكرها في الليل والنهار كيفما حل وسار. ولا يغني المرء عن شريف الخصال مال ولا جاه ولا عز ولا بنون ولا ينيله حب الناس واحترامهم ونفعهم له إلا ما فطر عليه من كريم السجايا وما اعتاده من حميد العادات. وما الأخلاق في عرف الناس إلا مجموع عادات والعادة نتيجة ممارسة.
فإذا قام الوالدون والمعلمون بالوسائل الفعالة على منع الأولاد من ممارسة كل ما لا يحسن بهم أن يعتادوا عليه يحفظوا لهم مستقبلهم من ثقل وطأة تلك العادات ويخلصوهم من شرها وإذا فات ذلك الآباء والأمهات لجهل وغباوة لا يجب أن يفوت الأساتذة الذين يدعون العلم والمعرفة ويتنصلون من وصمة الجهل والغباوة.
بيروت جرجي نقولا باز